تفسير الطبري تفسير الصفحة 473 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 473
474
472
 الآية : 49-50
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُواْ رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ * قَالُوَاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ }.
يقول تعالى ذكره: وقال أهل جهنم لخزنتها وقوّامها, استغاثة بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء, ورجاء أن يجدوا من عندهم فرجا ادْعُوا رَبّكُمْ لَنا يُخَفّفْ عَنّا يَوْما واحدا, يعني قدر يوم واحد من أيام الدنيا مِنَ العَذَابِ الذي نحن فيه. وإنما قلنا: معنى ذلك: قدر يوم من أيام الدنيا, لأن الاَخرة يوم لا ليل فيه, فيقال: خفف عنهم يوما واحدا.
وقوله: قالُوا أوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبَيّناتِ يقول تعالى ذكره: قالت خزنة جهنم لهم: أو لم تك تأتيكم في الدنيا رسلكم بالبينات من الحجج على توحيد الله, فتوحدوه وتؤمنوا به, وتتبرؤوا مما دونه من الاَلهة؟ قالوا: بلى, قد أتتنا رسلنا بذلك.
وقوله: قالُوا فادْعُوا يقول جلّ ثناؤه: قالت الخزنة لهم: فادعوا إذن ربكم الذي أتتكم الرسل بالدعاء إلى الإيمان به.
وقوله: وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ يقول: قد دعوا وما دعاؤهم إلا في ضلال, لأنه دعاء لا ينفعهم, ولا يستجاب لهم, بل يقال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلّمُونَ.
الآية : 51-52
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ }.
يقول القائل: وما معنى: إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه, ومثّلوا به, كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما, ومنهم من همّ بقتله قومه, فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه, كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه, وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله, فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله, والمؤمنين به في الحياة الدنيا, وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت, وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل: إن لقوله: إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا وجهين كلاهما صحيح معناه. أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم, حتى يقهروهم غلبة, ويذلوهم بالظفر ذلة, كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان, فأعطاهما من الملُك والسلطان ما قهرا به كل كافر, وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذّبه من قومه, وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم وعاداهم, كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه, من تغريق قومه وإنجائه منهم, وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه, إذ أهلكهم غرقا, ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك, أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم, مالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه, بتسليطنا على قتله مَن سلّطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته, وكفعلنا بقتلة يحيى, من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم, فهذا أحد وجهيه. وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه. ذكر من قال ذلك:
23422ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن الفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ قول الله: إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون, وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم.
والوجه الاَخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين, والمراد واحد, فيكون تأويل الكلام حينئذ: إنا لننصر رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا, ويوم يقود الأشهاد, كما بيّنا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع, والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِين مَعْذِرَتُهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة وَيَوْمَ يَقُومُ بالياء. وينفع أيضا بالياء, وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قرّاء البصرة: «تَقُومُ» بالتاء, و «تَنْفَعُ» بالتاء.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقد بيّنا فيما مضى أن العرب تذكر فعل الرجل وتؤنث إذا تقدم بما أغنى عن إعادته. وعُني بقوله: وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم, وأن الأمم كذّبتهم. والأشهاد: جمع شهيد, كما الأشراف: جمع شريف. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23423ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ من ملائكة الله وأنبيائه, والمؤمنين به.
23424ـ حدثنا محمد, قال: حدثنا أحمد, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ يوم القيامة.
23425ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, في قول الله: ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ قال الملائكة.
وقوله: لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرتُهُمْ يقول تعالى ذكره: ذلك يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم لأنهم لا يعتذرون إن اعتذروا إلا بباطل, وذلك أن الله قد أعذر إليهم في الدنيا, وتابع عليهم الحجج فيها فلا حجة لهم في الاَخرة إلا الاعتصام بالكذب بأن يقولوا: واللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ.
وقوله: وَلَهُمُ اللّعْنَةُ يقول: وللظالمين اللعنة, وهي البُعد من رحمة الله وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ يقول: ولهم مع اللعنة من الله شرّ ما في الدار الاَخرة, وهو العذاب الأليم.
الآية : 53-55
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىَ وَأَوْرَثْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَاسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ }.
يقول تعالى ذكره وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى البيان للحقّ الذي بعثناه به كما آتينا ذلك محمدا فكذّب به فرعون وقومه, كما كذّبت قريش محمدا وَأوْرَثْنَا بِني إسْرائِيلَ الكِتابَ يقول: وأورثنا بني إسرائيل التوراة, فعلّمناهموها, وأنزلنا إليهم هُدًى يعني بيانا لأمر دينهم, وما ألزمناهم من فرائضها, وَذِكْرَى لأُولي الألْبابِ يقول: وتذكيرا منا لأهل الحجا والعقول منهم بها.
وقوله: فاصْبرْ إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاصبر يا محمد لأمر ربك, وانفذ لما أرسلك به من الرسالة, وبلّغ قومك ومن أُمرت بإبلاغه ما أنزل إليك, وأيقن بحقيقة وعد الله الذي وعدك من نصرتك, ونصرة من صدّقك وآمن بك, على من كذّبك, وأنكر ما جئته به من عند ربك, وإن وعد الله حقّ لا خلف له وهو منجز له واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ يقول: وسله غفران ذنوبك وعفوه لك عنه وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ يقول: وصلّ بالشكر منك لربك بِالْعَشِيّ وذلك من زوال الشمس إلى الليل وَالإبْكَارِ وذلك من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. وقد وجه قوم الإبكار إلى أنه من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى, وخروج وقت الضحى, والمعروف عند العرب القول الأوّل.
واختلف أهل العربية في وجه عطف الإبكار والباء غير حسن دخولها فيه على العشيّ, والباء تحسن فيه, فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: وسبح بحمد ربك بالعشيّ وفي الإبكار. وقال: قد يقال: بالدار زيد, يراد: في الدار زيد, وقال غيره: إنما قيل ذلك كذلك, لأن معنى الكلام: صل بالحمد بهذين الوقتين وفي هذين الوقتين, فإدخال الباء في واحد فيهما.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّـهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ }.
يقول تعالى ذكره: إن الذين يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الاَيات بغير سلطان أتاهم يقول: بغير حجة جاءتهم من عند الله بمخاصمتك فيها إنْ فِي صُدُورهِمْ إلاّ كِبْرٌ يقول: ما في صدورهم إلا كبر يتكبرون من أجله عن اتباعك, وقبول الحقّ الذي أتيتهم به حسدا منهم على الفضل الذي آتاك الله, والكرامة التي أكرمك بها من النبوّة ما هُمْ بِبالِغِيهِ يقول: الذي حسدوك عليه أمر ليسوا بمُدركيه ولا نائليه, لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, وليس بالأمر الذي يدرك بالأمانيّ وقد قيل: إن معناه: إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأن الله مذلّهم. ذكر من قال ذلك:
23426ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: ثني أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: إنّ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ قال: عظمة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: إنّ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهُمْ قال: أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
23427ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنّ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهُمْ لم يأتهم بذاك سلطان.
وقوله: فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول تعالى ذكره: فاستجر بالله يا محمد من شرّ هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان, ومن الكبر أن يعرض في قلبك منه شيء إنّهُ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول: إن الله هو السميع لما يقول هؤلاء المجادلون في آيات الله وغيرهم من قول البصير بما تعمله جوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك.
الآية : 57
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: لابتداعُ السموات والأرض وإنشاؤها من غير شيء أعظم أيها الناس عندكم إن كنتم مستعظمي خلق الناس, وإنشائهم من غير شيء من خلق الناس, ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله.
الآية : 58
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْـمَىَ وَالْبَصِيرُ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيَءُ قَلِيـلاً مّا تَتَذَكّرُونَ }.
وما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا, وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه, فيتدبرها ويعتبر بها, فيعلم وحدانيته وقُدرته على خلق ما شاء من شيء, ويؤمن به ويصدّق. والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره, وذلك مَثل للمؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله, فيتفكّر فيها ويتعظ, ويعلم ما دلت عليه من توحيد صانعه, وعظيم سلطانه وقُدرته على خلق ما يشاء يقول جلّ ثناؤه: كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَالحاتِ يقول جلّ ثناؤه: ولا يستوي أيضا كذلك المؤمنون بالله ورسوله, المطيعون لربهم, ولا المسيء, وهو الكافر بربه, العاصي له, المخالف أمره قَلِيلاً ما تَتَذَكّرُونَ يقول جلّ ثناؤه: قليلاً ما تتذكرون أيها الناس حجج الله, فتعتبرون وتتعظون يقول: لو تذكرتم آياته واعتبرتم, لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحيائه من فني من خلقه من بعد الفناء, وإعادتهم لحياتهم من بعد وفاتهم, وعلمتم قبح شرككم من تشركون في عبادة ربكم.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: تَتَذَكّرُونَ فقرأت ذلك عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: «يَتَذَكّرُونَ» بالياء على وجه الخبر, وقرأته عامة قرّاء الكوفة: تَتَذّكُرُونَ بالتاء على وجه الخطاب, والقول في ذلك أن القراءة بهما صواب