تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 473 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 473

472

وجملة 50- " قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " مستأنفة جواب سؤال مقدر، والاستفهام للتوبيخ والتقريع "قالوا بلى" أي أتونا بها فكذبناهم ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا "قالوا" أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم "فادعوا" أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة. ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئاً فقالوا: "وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" أي في ضياع وبطلان وخسار وتبار.
وجملة 51- "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا" مستأنفة من جهته سبحانه: أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا: أي لننصر رسلنا، وننصر الذين آمنوا معهم "في الحياة الدنيا" بما عودهم الله من الانتقام منهم بالقتل والسلب والأسر والقهر "ويوم يقوم الأشهاد" وهو يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: الأشهاد هم الملائكة والنبيون. وقال مجاهد والسدي: الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. قال الزجاج. الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه مسموعاً أدي على ما يسمع، فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته ويجازي الكفار بأعمالهم فيلعنهم ويدخلهم النار.
وهو معنى قوله: 52- "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة" أي البعد عن الرحمة "ولهم سوء الدار" أي النار ويوم بدل من يوم يقوم الأشهاد، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة وتعلة داحضة وشبهة زائغة. قرأ الجمهور "تنفع" بالفوقية. وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية، والكل جائز في اللغة. وقد أخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: "وأن المسرفين هم أصحاب النار" قال: السفاكين للدماء بغير حقها. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" زاد ابن مردويه. ثم قرأ "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً". وأخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذاباً دون العذاب. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب"". وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا"". وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.
قوله: 53- "ولقد آتينا موسى الهدى" هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله: أي آتيناه التوراة والنبوة، كما قي قوله سبحانه: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور" قال مقاتل: الهدى من الضلالة: يعني التوراة.
54- " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب " المراد بالكتاب التوراة، ومعنى أورثنا أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفاً عن سلف. وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى وهدىً وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله: أي لأجل الهدى والذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال أي هادياً ومذكراً، والمراد بأولي الألباب أهل العقول السليمة.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى فقال: 55- "فاصبر إن وعد الله حق" أي اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حق لا خلف فيه ولا شك في وقوعه كما في قوله: "إنا لننصر رسلنا" وقوله: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون " قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه فقال: "واستغفر لذنبك" قيل المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف، وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء، وقيل هو مجرد تعبد له صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار" أي دم على تنزيه الله ملتبساً بحمده، وقيل المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر. قاله الحسن وقتادة، وقيل هما صلاتان ركعتان غدوة وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
56- "إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم" أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه "إن في صدورهم إلا كبر" أي ما في قلوبهم إلا تكبراً عن الحق يحملهم على تكذيبك، وجملة "ما هم ببالغيه" صفة لكبر قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف. وقال غيره: ما هم ببالغي الكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى إن في صدورهم إلا كبر: أي تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك، وقيل المراد بالكبر الأمر الكبير: أي يطلبون النبوة، أو يطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل ونحوه ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها. والمراد بهذه الآية المشركون، وقيل اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله. ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال: "فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير" أي فالتجئ إليه من شرهم وكيدهم وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" أي أعظم في النفوس وأجل في الصدور، لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله: " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم " قال أبو العالية: المعنى خلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث: أي هما أكبر من إعادة خلق الناس "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" بعظيم قدرة الله وأنه لا يعجزه شيء.
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال: "وما يستوي الأعمى والبصير" أي الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق " والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء " أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح والمسيء بالكفر والمعاصي، وزيادة لا في ولا المسيء للتأكيد " قليلا ما تتذكرون " قرأ الجمهور "يتذكرون" بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات: أي تذكراً قليلاً ما تتذكرون.