تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 510 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 510

510- تفسير الصفحة رقم510 من المصحف
"ولو نشاء لأريناكهم" أي لعرفناكهم. قال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة "التوبة". تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي سأعلمك، ومنه قوله تعالى: "بما أراك الله" [النساء: 105] أي بما أعلمك. "فلعرفتهم بسيماهم" أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم الناس، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب (هذا منافق) فذلك سيماهم. وقال ابن زيد: قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها. "ولتعرفنهم في لحن القول" أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر:
وخير الكلام ما كان لحنا
أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الإعراب، وهو الذهاب عن الصواب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض] أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد: لحنت له (بالفتح) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني (بالكسر) يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه، ولاحنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري:
وحديث ألذه هو مما ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق رائع وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا
يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى: "ولتعرفنهم في لحن القول". وقال القتال الكلابي:
ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ولحنت لحنا ليس بالمرتاب
وقال مرار الأسدي:
ولحنت لحنا فيه غش ورابني صدودك ترضين الوشاة الأعاديا
قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى عليه، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. "والله يعلم أعمالكم" أي لا يخفى عليه شيء منها.
الآية: 31 {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم}
قوله تعالى: "ولنبلونكم" أي نتعبدكم بالشرائع لان علمنا عواقب الأمور. وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. "حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين" عليه. قال ابن عباس: "حتى نعلم" حتى نميز. وقال على رضي الله عنه. "حتى نعلم" حتى نرى. وقد مضى في "البقرة". وقراءة العامة بالنون في "نبلونكم" و"نعلم" "ونبلو". وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من "نبلو" على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله: "حتى نعلم". وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. "ونبلو أخباركم" نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
الآية: 32 {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم}
قوله تعالى: "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله" يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نظيرها: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" [الأنفال: 36] الآية. "وشاقوا الرسول" أي عادوه وخالفوه. "من بعد ما تبين لهم الهدى" أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات. "لن يضروا الله شيئا" بكفرهم. "وسيحبط أعمالهم" أي ثواب ما عملوه.
الآية: 33 {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. "ولا تبطلوا أعمالكم" أي حسناتكم بالمعاصي، قال الحسن. وقال الزهري: بالكبائر. ابن جريج: بالرياء والسمعة. وقال مقاتل والثمالي: بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الإيمان.
احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الإمام الشافعي وغيره - : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فان زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخبيرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم.
الآية: 34 {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم}
بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في "البقرة" الكلام فيه. وقيل: إن المراد بالآية أصحابة القليب. وحكمها عام.
الآية: 35 {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}
قوله تعالى: "فلا تهنوا" أي تضعفوا عن القتال. والوهن: الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال:
إنني لست بموهون فقر
ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف، وقرئ "فما وهنوا" بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في (آل عمران).
قوله تعالى: "وتدعوا إلى السلم" أي الصلح. "وأنتم الأعلون" أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل: وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
واختلف العلماء في حكمها، فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" [الأنفال: 61]، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل: منسوخة بقوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها". وقيل: هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل: إن قوله: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" مخصوص في قوم بأعيانهم، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. "والله معكم" أي بالنصر والمعونة، مثل: "وإن الله لمع المحسنين" [العنكبوت: 69]: "ولن يتركم أعمالكم" أي لن ينقصكم، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام: [من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله] أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى: "ولن يتركم أعمالكم" أي لن ينتقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت، وأنت تريد في البيت، قاله الجوهري. الفراء: "ولن يتركم" هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فكان المعنى: ولن يفردكم بغير ثواب.
الآية: 36 - 37 {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم، إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم}
قوله تعالى: "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو" تقدم في "الأنعام. "وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم" شرط وجوابه. "ولا يسألكم أموالكم" أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، قاله أين عيينة وغيره. وقيل: "لا يسألكم أموالكم" لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم. وقيل: "لا يسألكم أموالكم" إنما يسألكم أمواله، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره: "قل ما أسألكم عليه من أجر" [الفرقان: 57] الآية.
قوله تعالى: "إن يسألكموها فيحفكم" يلح عليكم، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال، وكذلك الإحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه. "تبخلوا ويخرج أضغانكم" أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد "وتخرج" بتاء مفتوحة وراء مضمومة. "أضغانكم" بالرفع لكونه الفاعل. وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي "ونخرج" بالنون. وأبو معمر عن عبدالوارث عن أبي عمرو "ومخرج" بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف والمشهور عنه "ويخرج" كسائر القراء، عطف على ما تقدم.
الآية: 38 {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}
قوله تعالى: "ها أنتم هؤلاء تدعون" أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون "لتنفقوا في سبيل الله" أي في الجهاد وطريق الخير. "فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه" أي على نفسه، أي يمنعها الأجر والثواب. "والله الغني" أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم. "وأنتم الفقراء" إليها. "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" أي أطوع لله منكم. روى الترمذي عن أبى هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم" قالوا: ومن يستبدل بنا؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: [هذا وقومه. هذا وقومه] قال: حديث غريب في إسناده مقال. وقد روى عبدالله بن جعفر بن نجيح والد على بن المديني أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال أنس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان، قال: [هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس]. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: هم فارس والروم. قال المحاسبي: فلا أحد بعد العربي من جميع أجناس الأعاجم أحسن دينا، ولا كانت العلماء منهم إلا الفرس. وقيل: إنهم اليمن، وهم الأنصار، قال شريح بن عبيد. وكذا قال ابن عباس: هم الأنصار. وعنه أنهم الملائكة. وعنه هم التابعون. وقال مجاهد: إنهم من شاء من سائر الناس. قال الطبري: أي في البخل بالإنفاق في سبيل الله. وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [هي أحب إلي من الدنيا]. والله أعلم.
ختمت السورة بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الأطهار.