تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 510 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 510

510 : تفسير الصفحة رقم 510 من القرآن الكريم

** أَمْ حَسِبَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَن لّن يُخْرِجَ اللّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّىَ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ
يقول تعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ؟} أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين, بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر, وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم, وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم, ولهذا كانت تسمى الفاضحة. والأضغان: جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره. وقوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم} يقول عز وجل ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً, ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين ستراً منه على خلقه, وحملاً للأمور على ظاهر السلامة ورداً للسرائر إلى عالمها {ولتعرفنهم في لحن القول} أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه, وهو المراد من لحن القول كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وفي الحديث «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيراً فخير وإن شراً فشر» وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا, وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن سلمة عن عياض بن عياض عن أبيه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «إن منكم منافقين فمن سميت فليقم ـ ثم قال ـ قم يا فلان, قم يا فلان قم يا فلان ـ حتى سمى ستة وثلاثين رجلاً ثم قال ـ إن فيكم أو منكم ـ منافقين فاتقوا الله» قال فمر عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه فقال: مالك ؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بعداً لك سائر اليوم. وقوله عز وجل: {ولنبلونكم} أي لنختبرنكم بالأوامر والنواهي {حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب, فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا: إلا لنعلم أي لنرى.

** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَشَآقّواْ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَىَ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوَاْ أَعْمَالَكُمْ * إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ * فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه, وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئاً, وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها, وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير, بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات. وقد قال الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا أبو قدامة, حدثنا وكيع, حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله ذنب» كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} فخافوا أن يبطل الذنب العمل, ثم روي عن طريق عبد الله بن المبارك أخبرني بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك فكنا نخاف على من أصاب الكبائروالفواحش ونرجو لمن لم يصبها.
ثم أمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والاَخرة ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال, ولهذا قال تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} أي بالردة, ولهذا قال بعدها: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} كقوله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الاَية. ثم قال جل وعلا لعباده المؤمنين: {فلا تهنو} أي لا تضعفوا عن الأعداء {وتدعوا إلى السلم} أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعددكم,.. ولهذا قال: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} أي في حال علوكم على عدوكم.. فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين, ورأى الإمام في المهادنة, والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ودعوه إلى الصلح, ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك. وقوله جلت عظمته: {والله معكم} فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء {ولن يتركم أعمالكم} أي ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئاً والله أعلم.

** إِنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنتُمْ هَـَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنكُم مّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نّفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم
يقول تعالى تحقيراً لأمر الدنيا وتهويناً لشأنها {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} أي حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل, ولهذا قال تعالى: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم} أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئاً وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء, ليعود نفع ذلك عليكم ويرجع ثوابه إليكم, ثم قال جل جلاله: {إن يسألكموها فيحفكم تبخلو} أي يحرجكم تبخلوا {ويخرج أضغانكم} قال قتادة: قد علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. وقوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل} أي لا يجيب إلى ذلك {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} أي إنما نقص نفسه من الأجر وإنما يعود وبال ذلك عليه {والله الغني} أي عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه دائماً, ولهذا قال تعالى: {وأنتم الفقراء} أي بالذات إليه, فوصفه بالغني وصف لازم له, ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه.
وقوله تعالى: {وإن تتولو} أي عن طاعته واتباع شرعه {يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ثم قال «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» تفرد به مسلم بن خالد الزنجي, ورواه عنه غير واحد, وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم, والله أعلم.
آخر تفسير سورة القتال ولله الحمد والمنة.