سورة الذاريات | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 522 من المصحف
الآية: 31 - 37 {قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}
قوله تعالى: "قال فما خطبكم أيها المرسلون" لما تيقن إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: "فما خطبكم" أي ما شأنكم وقصتكم "أيها المرسلون" "قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" يريد قوم لوط. "لنرسل عليهم حجارة من طين" أي لنرجمهم بها. "مسومة" أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل: بسواد وحمرة. وقيل: "مسومة" أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في "هود". فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. "عند ربك" أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قال ابن زيد؛ وهو معنى قوله تعالى: "حجارة من سجيل" [الحجر: 74] على ما تقدم بيانه في "هود". وقيل: هي الحجارة التي نراها وأصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: "من طين" ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري.
قوله تعالى: "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين" أي لما أردنا إهلال قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين؛ لئلا يهلك المومنون، وذلك قوله تعالى: "فأسر بأهلك" [هود: 81]. "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار؛ أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله: "فيها" كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: "إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" يدل على القرية؛ لأن القوم إنما يسكنون قرية. وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال: "إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله" [يوسف: 86]. وقيل: الإيمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقوله: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا" [الحجرات: 14] يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. "وتركنا فيها آية" أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم؛ نظيره: "ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون" [العنكبوت: 35]. ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية الخربة. وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. "للذين يخافون" لأنهم المنتفعون.
الآية: 38 - 40 {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين، فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}
قوله تعالى: "وفي موسى" أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله: "وفي الأرض آيات" "وفي موسى". "إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين" أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. "فتولى بركنه" أي فرعون أعرض عن الإيمان "بركنه" أي بمجموعة وأجناده؛ قال ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: "أو آوي إلى ركن شديد" [هود: 80] يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قوله عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني ولكن ما تقادم من زماني
وقيل: بنفسه. وقال الأخفش: بجانبه؛ كقوله تعالى: "أعرض ونأى بجانبه" [فصلت: 51] وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الإعراض عن الشيء "وقال ساحر أو مجنون" "أو" بمعنى الواو، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
وقد توضع "أو" بمعنى الواو؛ كقوله تعالى: "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" [الإنسان: 24] والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" [النساء: 3] وقد تقدم جميع هذا. "فأخذناه وجنوده" لكفرهم وتوليهم عن الإيمان. "فنبذناهم" أي طرحناهم "في اليم وهو مليم" يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه.
الآية: 41 - 42 {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}
قوله تعالى: "وفي عاد" أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. "إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم" وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة؛ ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الريح العقيم الجنوب) وقال مقاتل: هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصبا) وأهلكت عاد بالدبور). وقال ابن عباس: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم" أي كالشيء الهشيم؛ يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشيء الهالك البالي؛ وقاله مجاهد: ومنه قول الشاعر:
تركتني حين كف الدهر من بصري وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلأ بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي؛ تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال الشاعر:
ورأى عواقب خلف ذاك مذمة تبقى عليه والعظام رميم
والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية: "تدمر كل شيء" [الأحقاف: 25] حسب ما تقدم.
الآية: 43 - 45 {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين}
قوله تعالى: "وفي ثمود" أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا "حتى حين" أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" [هود: 65]. وقيل: معنى "تمتعوا" أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. "فعتوا عن أمر ربهم" أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة "فأخذتهم الصاعقة" أي الموت. وقيل: هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي "الصعقة" يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في "البقرة" وغيرها. "وهم ينظرون" إليها نهارا. "فما استطاعوا من قيام" قيل: معناه من نهوض. وقيل: ما أطاقوا أن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم؛ تقول: لا أقوم لهذا الأمر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس: أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب. "وما كانوا منتصرين" أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا، أي ما كان لهم ناصر.
الآية: 46 {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}
قوله تعالى: "وقوم نوح من قبل" قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو "وقوم نوح" بالخفض؛ أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوج، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في "أخذتهم" أو الهاء في "أخذناه" أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوج، أو "فنبذناهم في اليم" [الذاريات: 40] ونبذنا قوم نوج، أو يكون بمعنى اذكر.
الآية: 47 - 49 {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}
قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد" لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى "بأيد" أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. "وإنا لموسعون" قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم؛ دليله: "على الموسع قدره" [البقرة: 236]. وقال القتبي: ذو سعه على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل: جعلنا بينهما وبين الأرض سعة. الجوهري: وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى، ومنه قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الأقوال. "والأرض فرشناها" أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. "فنعم الماهدون" أي فنعم الماهدون نحن لهم. والمعنى في الجمع التعظيم؛ مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. "ومن كل شيء خلقنا زوجين" أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد. يعني الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والإنس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة. وقيل: "ومن كل شيء خلقنا زوجين" لتعلموا أن خالق الأزواج فرد، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء؛ إذ عز وجل وتر "ليس كمثله شيء" [الشورى: 11]. " لعلكم تذكرون".
الآية: 50 - 55 {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين، كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون، فتول عنهم فما أنت بملوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}
قوله تعالى: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان: "ففروا إلى الله" اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله: فروا مما سوى الله إلى الله. "إني لكم منه نذير مبين" أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية.
قوله تعالى: "ولا تجعلوا مع الله إلها آخر" أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. "إني لكم منه" أي من محمد وسيوفه "نذير مبين" أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي؛ قاله ابن عباس.
قوله تعالى: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول" هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من "كذلك" يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: "كذلك" عن يعقوب وغيره. "أتواصوا به" أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. "بل هم قوم طاغون" أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. "فتول عنهم" أي أعرض عنهم وأصفح عنهم "فما أنت بملوم" عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: "فتول عنهم" فأعرض عنهم "فما أنت بملوم" أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك "وذكر" أي بالعظة فإن العظة "تنفع المؤمنين". قتادة: "وذكر" بالقرآن "فإن الذكرى" به"تنفع المؤمنين". وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 522
522- تفسير الصفحة رقم522 من المصحفالآية: 31 - 37 {قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}
قوله تعالى: "قال فما خطبكم أيها المرسلون" لما تيقن إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: "فما خطبكم" أي ما شأنكم وقصتكم "أيها المرسلون" "قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" يريد قوم لوط. "لنرسل عليهم حجارة من طين" أي لنرجمهم بها. "مسومة" أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل: بسواد وحمرة. وقيل: "مسومة" أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: على كل حجر اسم من يهلك به. وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في "هود". فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. "عند ربك" أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قال ابن زيد؛ وهو معنى قوله تعالى: "حجارة من سجيل" [الحجر: 74] على ما تقدم بيانه في "هود". وقيل: هي الحجارة التي نراها وأصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: "من طين" ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري.
قوله تعالى: "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين" أي لما أردنا إهلال قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين؛ لئلا يهلك المومنون، وذلك قوله تعالى: "فأسر بأهلك" [هود: 81]. "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار؛ أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الأهل. وقوله: "فيها" كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: "إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" يدل على القرية؛ لأن القوم إنما يسكنون قرية. وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال: "إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله" [يوسف: 86]. وقيل: الإيمان تصديق القلب، والإسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الأولى مؤمنين؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقوله: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا" [الحجرات: 14] يدل على الفرق بين الإيمان والإسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. "وتركنا فيها آية" أي عبرة وعلامة لأهل ذلك الزمان ومن بعدهم؛ نظيره: "ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون" [العنكبوت: 35]. ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية الخربة. وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. "للذين يخافون" لأنهم المنتفعون.
الآية: 38 - 40 {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين، فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}
قوله تعالى: "وفي موسى" أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله: "وفي الأرض آيات" "وفي موسى". "إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين" أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. "فتولى بركنه" أي فرعون أعرض عن الإيمان "بركنه" أي بمجموعة وأجناده؛ قال ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: "أو آوي إلى ركن شديد" [هود: 80] يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قوله عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني ولكن ما تقادم من زماني
وقيل: بنفسه. وقال الأخفش: بجانبه؛ كقوله تعالى: "أعرض ونأى بجانبه" [فصلت: 51] وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الإعراض عن الشيء "وقال ساحر أو مجنون" "أو" بمعنى الواو، لأنهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
وقد توضع "أو" بمعنى الواو؛ كقوله تعالى: "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" [الإنسان: 24] والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" [النساء: 3] وقد تقدم جميع هذا. "فأخذناه وجنوده" لكفرهم وتوليهم عن الإيمان. "فنبذناهم" أي طرحناهم "في اليم وهو مليم" يعني فرعون، لأنه أتى ما يلام عليه.
الآية: 41 - 42 {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}
قوله تعالى: "وفي عاد" أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. "إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم" وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة؛ ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الريح العقيم الجنوب) وقال مقاتل: هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصبا) وأهلكت عاد بالدبور). وقال ابن عباس: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: مسكنها الأرض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم" أي كالشيء الهشيم؛ يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشيء الهالك البالي؛ وقاله مجاهد: ومنه قول الشاعر:
تركتني حين كف الدهر من بصري وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلأ بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي؛ تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال الشاعر:
ورأى عواقب خلف ذاك مذمة تبقى عليه والعظام رميم
والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية: "تدمر كل شيء" [الأحقاف: 25] حسب ما تقدم.
الآية: 43 - 45 {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين}
قوله تعالى: "وفي ثمود" أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا "حتى حين" أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" [هود: 65]. وقيل: معنى "تمتعوا" أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. "فعتوا عن أمر ربهم" أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة "فأخذتهم الصاعقة" أي الموت. وقيل: هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي "الصعقة" يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في "البقرة" وغيرها. "وهم ينظرون" إليها نهارا. "فما استطاعوا من قيام" قيل: معناه من نهوض. وقيل: ما أطاقوا أن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم؛ تقول: لا أقوم لهذا الأمر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس: أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب. "وما كانوا منتصرين" أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا، أي ما كان لهم ناصر.
الآية: 46 {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}
قوله تعالى: "وقوم نوح من قبل" قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو "وقوم نوح" بالخفض؛ أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوج، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في "أخذتهم" أو الهاء في "أخذناه" أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوج، أو "فنبذناهم في اليم" [الذاريات: 40] ونبذنا قوم نوج، أو يكون بمعنى اذكر.
الآية: 47 - 49 {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}
قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد" لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لأنهما آيتان. ومعنى "بأيد" أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. "وإنا لموسعون" قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شيء نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم؛ دليله: "على الموسع قدره" [البقرة: 236]. وقال القتبي: ذو سعه على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل: جعلنا بينهما وبين الأرض سعة. الجوهري: وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى، ومنه قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الأقوال. "والأرض فرشناها" أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. "فنعم الماهدون" أي فنعم الماهدون نحن لهم. والمعنى في الجمع التعظيم؛ مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها. "ومن كل شيء خلقنا زوجين" أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد. يعني الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والإنس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة. وقيل: "ومن كل شيء خلقنا زوجين" لتعلموا أن خالق الأزواج فرد، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء؛ إذ عز وجل وتر "ليس كمثله شيء" [الشورى: 11]. " لعلكم تذكرون".
الآية: 50 - 55 {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين، كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون، فتول عنهم فما أنت بملوم، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}
قوله تعالى: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان: "ففروا إلى الله" اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله: فروا مما سوى الله إلى الله. "إني لكم منه نذير مبين" أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية.
قوله تعالى: "ولا تجعلوا مع الله إلها آخر" أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. "إني لكم منه" أي من محمد وسيوفه "نذير مبين" أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي؛ قاله ابن عباس.
قوله تعالى: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول" هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من "كذلك" يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: "كذلك" عن يعقوب وغيره. "أتواصوا به" أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. "بل هم قوم طاغون" أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. "فتول عنهم" أي أعرض عنهم وأصفح عنهم "فما أنت بملوم" عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: "فتول عنهم" فأعرض عنهم "فما أنت بملوم" أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك "وذكر" أي بالعظة فإن العظة "تنفع المؤمنين". قتادة: "وذكر" بالقرآن "فإن الذكرى" به"تنفع المؤمنين". وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.
الصفحة رقم 522 من المصحف تحميل و استماع mp3