سورة الطور | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 523 من المصحف
قوله تعالى: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول" هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من "كذلك" يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: "كذلك" عن يعقوب وغيره. "أتواصوا به" أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. "بل هم قوم طاغون" أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. "فتول عنهم" أي أعرض عنهم وأصفح عنهم "فما أنت بملوم" عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: "فتول عنهم" فأعرض عنهم "فما أنت بملوم" أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك "وذكر" أي بالعظة فإن العظة "تنفع المؤمنين". قتادة: "وذكر" بالقرآن "فإن الذكرى" به"تنفع المؤمنين". وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.
الآية: 56 - 60 {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون، فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون}
قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس" [الأعراف: 179] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم؛ وهو كقوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا" [الحجرات: 14] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبدالله: "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون" وقال علي رضي الله عنه: أي وما خلقت الجن ولإنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا" [التوبة: 31]. فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل تذللوا لقضائه عليهم؛ لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضامه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: "إلا ليعدون" أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها؛ رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني. الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" [الزخرف: 87] "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" [الزخرف: 9] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة؛ فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين" [لقمان: 32] الآية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب؛ تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد. قال:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى "ليعبدون" ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. "ما أريد منهم من رزق" "من" صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم "إن الله هو الرزاق" وقرأ ابن محيصن وغيره "الرازق". "ذو القوة المتين" أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي "المتين" بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ "الرزاق" أو "ذو" من قوله: "ذو القوة" أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل؛ يقال: حبل متين. وأنشد الفراء:
لكل دهر قد لبست أثوبا حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
من ريطة واليمنة المعصبا
فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى: "فمن جاءه موعظة" [البقرة: 275] أي وعظ "وأخذ الذين ظلموا الصيحة" [هود: 67] أي الصياح والصوت.
قوله تعالى: "فإن للذين ظلموا" أي كفروا من أهل مكة "ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم" أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز:
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
وقال علقمة:
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقال آخر:
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. "فلا يستعجلون" أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: يا محمد "فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" [الأعراف: 70] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد. تم تفسير سورة "الذاريات" والحمد لله.
سورة الطور
مقدمة السورة
روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه.
الآية: 1 - 8 {والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع}
قوله تعالى: "والطور" الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة) قيل: فما الأجبل؟ قال: (جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة) وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب "التذكرة" قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في "البقرة" مستوفى.
قوله تعالى: "وكتاب مسطور" أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون" [الواقعة:78]. وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن أخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره: "ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا" [الإسراء: 13] وقوله: "وإذا الصحف نشرت" [التكوير: 10]. وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" [المجادلة: 22].
قلت: وفي هذا القول تجوز؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: "في رق منشور" والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور
وأما الرق بالكسر فهو الملك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب.
قوله تعالى: "والبيت المعمور" قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في "الصحاح": والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: (ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق) الحديث؛ وفيه: (ثم عرج بنا إلى السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات. وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول ببت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان؛ قال الله تعالى: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود" [الحح: 26].
قوله تعالى: "والسقف المرفوع" يعني السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه: "وجعلنا السماء سقفا محفوظا" [الأنبياء: 32]. وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. "والبحر المسجور" قال مجاهد: الموقد؛ وقد جاء في الخبر: (إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا). وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا شاء طالع سجورة ترى حولها النبع والساسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "وإذا البحار سجرت" [التكوير: 6] أي أوقدت؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: "والبجر المسجور". "وإذا البحار سجرت" [التكوير: 6] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارع، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله: "وإذا البحار فجرت" [الانفطار: 3] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح.
قلت: إليه يرجع معنى "فجرت" في أحد التأويلين؛ أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس.
قوله تعالى: "إن عذاب ربك لواقع" هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب "والطور" إلى قوله: "إن عذاب ربك لواقع. ما له من دافع" فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ "والطور" حتى بلغ "إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع" فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول "والطور" إلى أن قال له قل "إن عذاب ربك لواقع" إن كنت كاذبا؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.
الآية: 9 - 16 {يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون، يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، هذه النار التي كنتم بها تكذبون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "يوم تمور السماء مورا" العامل في يوم قوله: "واقع" أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:
... فوق مور معبد
والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:
على ظهر موار الملاط حصان
الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره؛ قاله ابن بحر. "وتسير الجبال سيرا" قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا؛ بيانه "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" [النمل: 88]. وقد مضى هذا المعنى في "الكهف". "فويل يومئذ للمكذبين" "ويل" كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. "الذين هم في خوض يلعبون" أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في "التوبة".
قوله تعالى: "يوم يدَعُّون" "يوم" بدل من يومئذ. و"يدعون" معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: "فذلك الذي يدع اليتيم" [الماعون: 2]. وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع "يوم يدعون إلى نار جهنم دعا" بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: "هذه النار التي كنتم بها تكذبون" في الدنيا.
قوله تعالى: "أفسحر هذا" استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم: "أفسحر هذا" الذي ترون الآن بأعينكم "أم أنتم لا تبصرون" وقيل: "أم" بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. "اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا" أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. "سواء عليكم" أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ "سواء" خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا" [إبراهيم: 21]. "إنما تجزون ما كنتم تعملون".
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 523
523- تفسير الصفحة رقم523 من المصحفقوله تعالى: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول" هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من "كذلك" يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الأمر كذلك أي كالأول. والأول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: "كذلك" عن يعقوب وغيره. "أتواصوا به" أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطؤوا عليه؛ والألف للتوبيخ والتعجب. "بل هم قوم طاغون" أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. "فتول عنهم" أي أعرض عنهم وأصفح عنهم "فما أنت بملوم" عند الله لأنك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" وقيل: نسخ بآية السيف. والأول قول الضحاك؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: "فتول عنهم" فأعرض عنهم "فما أنت بملوم" أي ليس يلومك ربك على تقصير كان منك "وذكر" أي بالعظة فإن العظة "تنفع المؤمنين". قتادة: "وذكر" بالقرآن "فإن الذكرى" به"تنفع المؤمنين". وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها.
الآية: 56 - 60 {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون، فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون}
قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع؛ لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس" [الأعراف: 179] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم؛ وهو كقوله تعالى: "قالت الأعراب آمنا" [الحجرات: 14] وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبدالله: "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون" وقال علي رضي الله عنه: أي وما خلقت الجن ولإنس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا" [التوبة: 31]. فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل تذللوا لقضائه عليهم؛ لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضامه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: "إلا ليعدون" أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها؛ رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني. الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله" [الزخرف: 87] "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" [الزخرف: 9] وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة؛ فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء؛ يدل عليه قوله تعالى: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين" [لقمان: 32] الآية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لأستعبدهم. والمعنى متقارب؛ تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل؛ يقال: طريق معبد. قال:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى "ليعبدون" ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. "ما أريد منهم من رزق" "من" صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم "إن الله هو الرزاق" وقرأ ابن محيصن وغيره "الرازق". "ذو القوة المتين" أي الشديد القوي. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب والنخعي "المتين" بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت لـ "الرزاق" أو "ذو" من قوله: "ذو القوة" أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان حقه المتينة فذكره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل؛ يقال: حبل متين. وأنشد الفراء:
لكل دهر قد لبست أثوبا حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
من ريطة واليمنة المعصبا
فذكر المعصب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى: "فمن جاءه موعظة" [البقرة: 275] أي وعظ "وأخذ الذين ظلموا الصيحة" [هود: 67] أي الصياح والصوت.
قوله تعالى: "فإن للذين ظلموا" أي كفروا من أهل مكة "ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم" أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة. وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا؛ قال الراجز:
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
وقال علقمة:
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقال آخر:
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملأى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. "فلا يستعجلون" أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: يا محمد "فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" [الأعراف: 70] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد. تم تفسير سورة "الذاريات" والحمد لله.
سورة الطور
مقدمة السورة
روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه.
الآية: 1 - 8 {والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع}
قوله تعالى: "والطور" الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة) قيل: فما الأجبل؟ قال: (جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة) وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب "التذكرة" قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في "البقرة" مستوفى.
قوله تعالى: "وكتاب مسطور" أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون" [الواقعة:78]. وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن أخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره: "ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا" [الإسراء: 13] وقوله: "وإذا الصحف نشرت" [التكوير: 10]. وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه: "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" [المجادلة: 22].
قلت: وفي هذا القول تجوز؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: "في رق منشور" والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور
وأما الرق بالكسر فهو الملك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب.
قوله تعالى: "والبيت المعمور" قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في "الصحاح": والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: (ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق) الحديث؛ وفيه: (ثم عرج بنا إلى السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات. وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول ببت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان؛ قال الله تعالى: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود" [الحح: 26].
قوله تعالى: "والسقف المرفوع" يعني السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه: "وجعلنا السماء سقفا محفوظا" [الأنبياء: 32]. وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. "والبحر المسجور" قال مجاهد: الموقد؛ وقد جاء في الخبر: (إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا). وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا شاء طالع سجورة ترى حولها النبع والساسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: "وإذا البحار سجرت" [التكوير: 6] أي أوقدت؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: "والبجر المسجور". "وإذا البحار سجرت" [التكوير: 6] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارع، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله: "وإذا البحار فجرت" [الانفطار: 3] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح.
قلت: إليه يرجع معنى "فجرت" في أحد التأويلين؛ أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس.
قوله تعالى: "إن عذاب ربك لواقع" هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب "والطور" إلى قوله: "إن عذاب ربك لواقع. ما له من دافع" فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ "والطور" حتى بلغ "إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع" فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول "والطور" إلى أن قال له قل "إن عذاب ربك لواقع" إن كنت كاذبا؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.
الآية: 9 - 16 {يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون، يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، هذه النار التي كنتم بها تكذبون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون}
قوله تعالى: "يوم تمور السماء مورا" العامل في يوم قوله: "واقع" أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:
... فوق مور معبد
والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:
على ظهر موار الملاط حصان
الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره؛ قاله ابن بحر. "وتسير الجبال سيرا" قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا؛ بيانه "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" [النمل: 88]. وقد مضى هذا المعنى في "الكهف". "فويل يومئذ للمكذبين" "ويل" كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. "الذين هم في خوض يلعبون" أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في "التوبة".
قوله تعالى: "يوم يدَعُّون" "يوم" بدل من يومئذ. و"يدعون" معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: "فذلك الذي يدع اليتيم" [الماعون: 2]. وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع "يوم يدعون إلى نار جهنم دعا" بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: "هذه النار التي كنتم بها تكذبون" في الدنيا.
قوله تعالى: "أفسحر هذا" استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم: "أفسحر هذا" الذي ترون الآن بأعينكم "أم أنتم لا تبصرون" وقيل: "أم" بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. "اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا" أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. "سواء عليكم" أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ "سواء" خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا" [إبراهيم: 21]. "إنما تجزون ما كنتم تعملون".
الصفحة رقم 523 من المصحف تحميل و استماع mp3