تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 522 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 522

521

وجملة 31- "قال فما خطبكم أيها المرسلون" مستأنفة جوباً عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة، والخطب الشأن والقصة، والمعنى: فما شأنكم وما قصتكم أيها المرسلون من جهة الله، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة.
32- "قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين" يريدون قوم لوط.
33- "لنرسل عليهم حجارة من طين" أي لنرجمهم بحجارة من طين متحجر. وانتصاب " مسومة " على الصفة لحجارة أو على الحال في الضمير المستكن في الجار والمجرور أو من الحجارة لكونها وصفة بالجار والمجرور .
34- ومعنى " مسومة " معلمة بعلامات تعرف بها قيل كانت مخططة بسواد وبياض وقيل بسواد وحمرة وقيل معروفة بأنها حجارة العذاب، وقيل مكتوب على كل حجر من يهلك بها ، وقوله " عند ربك " ظرف لمسومة أي : معلمة عنده " للمسرفين " المتمادين في الضلالة المتجاوزين الحد في الفجور وقال مقاتل : للمشركين. والشرك أسرف الذنوب وأعظمها .
35- "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين" هذا كلام من جهة الله سبحانه: أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه المؤمنين به.
36- "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" أي غير أهل بيت. يقال بيت شريف ويراد به أهله، قيل وهم أهل بيت لوط، والإسلام: الانقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه، فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان في الحديث في الصحيحين وغيرهما الثابت من طرق أنه" سئل عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره" فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق والمصدوق، ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة، وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها.
37- "وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم" أي وتركنا في تلك القرى علامة ودلالة تدل على ما أصابهم من العذاب، كل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم، وهذه الآية هي آثار العذاب في تلك القرى، فإنها ظاهرة بينة، وقيل هي الحجارة التي رجموا بها، وإنما خص الذين يخافون العذاب الأليم لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ ويتفكرون في الآيات دون غيرهم ممن لا يخاف ذلك وهم المشركون المكذبون بالبعث والوعد والوعيد. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "في صرة" قال: في صيحة "فصكت وجهها" قال: لطمت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" قال: لوط وابنتيه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانوا ثلاثة عشر.
قوله: 38- "وفي موسى" معطوف على قوله فيها بإعادة الخافض، والتقدير: وتركنا في قصة موسى آية أو معطوف على "وفي الأرض" والتقدير: وفي الأرض وفي موسى آيات، قاله الفراء وابن عطية والزمخشري. قال أبو حيان: وهو بعيد جداً ينزه القرآن عن مثله، ويجوز أن يكون متعلقاً بجعلنا مقدراً للدلالة "وتركنا عليه" قيل ويجوز أن يعطف على وتركنا على طريقة قول القائل: علفتها تبناً وماءً بارداً والتقدير: وتركنا فيها آية، وجعلنا في موسى آية. قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار، وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا. والوجه الأول هو الأولى، وما عداه متكلف متعسف لم تلجئ إليه حاجة ولا دعت إليه ضرورة "إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين" الظرف متعلق بمحذوف هو نعت الآية: أي كائنة وقت أرسلناه، أو بآية نفسها، والأول أولى. والسلطان المبين الحجة الظاهرة الواضحة، وهي العصا وما معها من الآيات.
39- "فتولى بركنه" التولي: الإعراض، والركن: الجانب. قاله الأخفش. والمعنى: أعرض بجانبه كما في قوله: "أعرض ونأى بجانبه" قال الجوهري: ركن الشيء جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد: أي عز ومنعة. وقال ابن زيد ومجاهد وغيرهما: الركن جمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم، ومنه قوله تعالى: "أو آوي إلى ركن شديد" أي عشيرة ومنعة، وقيل الركن: نفس القوة، وبه قال قتادة وغيره، ومنه قول عنترة: فما أوهي مراس الحرب ركني ولكن ما تقادم من زماني "وقال ساحر أو مجنون" أي قال فرعون: في حق موسى هو ساحر أو مجنون فردد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحراً أو مجنوناً، وهذا من اللعين مغالطة وإيهام لقومه، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر ولا يفعله من به جنون. وقيل إن أو بمعنى الواو، لأنه قد قال ذلك جميعاً ولم يتردد، قاله المؤرج والفراء، كقوله: " ولا تطع منهم آثما أو كفورا ".
40- "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم" أي طرحناهم في البحر، وجملة "وهو مليم" في محل نصب على الحال: أي آت بما يلام عليه حين ادعى الربوبية وكفر بالله وطغى في عصيانه.
41- "وفي عاد" أي وتركنا في قصة عاد آية "إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم" وهي التي لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجراً ولا تحمل مطراً، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب.
ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال: 42- "ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم" أي ما تذر من شيء مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا جعلته كالشيء الهالك البالي. قال الشاعر: تركتني حين كف الدهر من بصري وإذ بقيت كعظم الرمة البالي وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات، وقال السدي وأبو العالية: إنه التراب المدقوق، وقال قطرب: إنه الرماد، وأصل الكلمة من رم العظم: إذا بلي فهو رميم، والرمة: العظام البالية.
43- "وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين" أي وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك، وهو ثلاثة أيام كما في قوله: "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام".
44- "فعتوا عن أمر ربهم" أي تكبروا عن امتثال أمر الله "فأخذتهم الصاعقة" وهي كل عذاب مهلك. قرأ الجمهور "الصاعقة" وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي " الصاعقة " وقد مر الكلام على الصاعقة في البقرة، وفي مواضع "وهم ينظرون" أي يرونها عياناً، والجملة في محل نصب على الحال، وقيل إن المعنى: ينتظرون ما وعدوه من العذاب، والأول أولى.
45- "فما استطاعوا من قيام" أي لم يقدروا على القيام. قال قتادة: من نهوض: يعني لم ينهضوا من تلك الصرعة، والمعنى: أنهم عجزوا عن القيام فضلاً عن الهرب، ومثله قوله: "فأصبحوا في دارهم جاثمين" "وما كانوا منتصرين" أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم.
46- "وقوم نوح من قبل" أي من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدم على زمن فرعون وعاد وثمود "إنهم كانوا قوماً فاسقين" أي خارجين عن طاعة الله. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بخفض "قوم" أي وفي قوم نوح آية، وقرأ الباقون بالنصب: أي وأهلكنا قوم نوح، أو هو معطوف على مفعول أخذتهم الصاعقة، أو على مفعول نبذناهم: أي نبذناهم ونبذنا قوم نوح، أو يكون العامل فيه اذكر.
47- "والسماء بنيناها بأيد" أي بقوة وقدرة، قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال، والتقدير: وبنينا السماء بنيناها. وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها على الابتداء "وإنا لموسعون" الموسع ذو الوسع والسعة، والمعنى: إنا لذوا سعة بخلقها وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، وقيل لقادرون، من الوسع بمعنى الطاقة والقدرة، وقيل إنا لموسوعون الرزق بالمطر، قال الجوهري: وأوسع الرجل: صار ذا سعة وغنى.
48- "والأرض فرشناها" قرأ الجمهور بنصب "الأرض" على الاشتغال، وقرأ أبو السماك وابن مقسم برفعها كما تقدم في قوله: "والسماء بنيناها" ومعنى فرشناها: بسطناها كالفراش "فنعم الماهدون" أي نحن، يقال مهدت الفراش: بسطته ووطأته، وتمهدي الأمور: تسويتها وإصلاحها.
49- "ومن كل شيء خلقنا زوجين" أي صنفين ونوعين من ذكر وأنثى وبر وبحر وشمس وقمر وحلو ومر وسماء وأرض وليل ونهار ونور وظلمة وجن وإنس وخير وشر "لعلكم تذكرون" أي خلقنا ذلك هكذا لتذكروا فتعرفوا أنه خالق كل شيء وتستدلوا بذلك على توحيده وصدق وعده ووعيده.
50- "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" أي قل لهم يا محمد: ففروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، وجملة "إني لكم منه نذير مبين" تعليل للأمر بالفرار، وقيل معنى "ففروا إلى الله" اخرجوا من مكة. وقال الحسين بن الفضل/ احترزوا من كل شيء غير الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقيل فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وقيل فروا من الجهل إلى العلم، ومعنى "إني لكم منه" أي من جهته منذر بين الإنذار.
51- "ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر" نهاهم عن الشرك بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله. وجملة "إني لكم منه نذير مبين" تعليل للنهي.