تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 548 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 548

547

17- "فكان عاقبتهما أنهما في النار" قرأ الجمهور "عاقبتهما" بالنصب على أنه حبر كان، واسمها أنهما في النار. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد بالرفع على أنها اسم كان، والخبر ما بعده، والمعنى فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار "خالدين فيها" قرأ الجمهور "خالدين" بالنصب على الحال، وقرأ ابن مسعود والأعمش وزيد بن علي وابن أبي عبلة خالدان على أنه خبر أن والظرف متعلق به "وذلك جزاء الظالمين" أي الخلود في النار جزاء الظالمين، ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً.
ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة فقال: 18- "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله" أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه "ولتنظر نفس ما قدمت لغد" أي لتنظر أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة، والعرب تكفي من المستقبل بالغد، وقيل ذكر الغد تنبيهاً على قرب الساعة "واتقوا الله" كرر الأمر بالتقوى للتأكيد "إن الله خبير بما تعملون" لا تخفى عليه من ذكر خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
19- "ولا تكونوا كالذين نسوا الله" أي تركوا أمره، أو ما قدروه حق قدره، أو لم يخافوه، أو جميع ذلك "فأنساهم أنفسهم" أي جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب، ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه، ففي الكلام مضاف محذوف: أي أنساهم حظوظ أنفسهم. قال سفيان: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، وقيل نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد "أولئك هم الفاسقون" أي الكاملون في الخروج عن طاعة الله.
20- "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة" في الفضل والرتبة، والمراد الفريقان على العموم، فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولاً أولياً، ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولاً أولياً لأن السياق فيهم، وقد تقدم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة، وفي سورة السجدة، وفي سورة ص. ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار فقال: "أصحاب الجنة هم الفائزون" أي الظافرون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "ألم تر إلى الذين نافقوا" قال: عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي، وإخوانهم بنو النضير. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم في الدلائل عنه أن رهطاً من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعير فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" قال: هم المشركون. وأخرج عبد الرزاق وابن راهويه وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة وأن امرأة كان لها إخوة، فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فرقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها، فجاءوا فأخذوه فذهوبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك، فسجد له، فذلك قوله: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر" الآية. قلت: وهذا لا يدل على أن هذ الإنسان هو المقصود بالآية، بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه. وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا، وليس فيه ما يدل على أنه المقصود بالآية. وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "كمثل الشيطان" قال: ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.
لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم استوائهم في شيء من الأشياد ذكر تعظيم كتابه الكريم، وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب وترق له الأفئدة فقال: 21- " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " أي من شأنه وعظمته وجودة ألفاظه وقوة مبانيه وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم خاشعاً متصدعاً: أي متشققاً من خشية الله سبحانه حذراً من عقابه وخوفاً من أن لا يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل يقتضي علوا شأن القرآن وقوة تأثيره في القلوب ويدل على هذا قوله: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" فيما يجب عليهم التفكر فيه لتعظوا بالمواعظ وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره والخاشع الذليل المتواضع. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت ولتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له وقويناك عليه، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي.
ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته، فقال: 22- "هو الله الذي لا إله إلا هو" وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك "عالم الغيب والشهادة" أي عالم ما غاب من الإحساس وما حضر، وقيل عالم السر والعلانية، وقيل ما كان وما يكون، وقيل الآخرة والدنيا، وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدماً وجوداً " هو الرحمن الرحيم " قد تقدم تفسير هذين الاسمين.
23- "هو الله الذي لا إله إلا هو" كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقاً بذلك "الملك القدوس" أي الطاهر من كل عيب المنزه عن كل نقص، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل، لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء. قرأ الجمهور "القدوس" بضم القاف. وقرأ أبو ذر وأبو السماك بفتحها، وكان سيبويه يقول سبوح قدوس بفتح أولهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يقرأ القدوس بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان "السلام" أي الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل المسلم على عباده في الجنة، كما قال: "سلام قولاً من رب رحيم" وقيل الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال الأكثر، وقيل المسلم لعباده، وهو مصدر وصف به للمبالغة "المؤمن" أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه، وقيل المصدق لرسله لإظهار المعجزات، وقيل المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب، يقال أمنه من الأمن وهو ضد الخوف، ومنه قول النابغة: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند وقال مجاهد: المؤمن الذي وجد نفسه بقوله: "شهد الله أنه لا إله إلا هو". قرأ الجمهور "المؤمن" بكسر الميم اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله: "واختار موسى قومه" وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفاً فأمنه غيره "المهيمن" أي الشهيد على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم. كذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل: يقال هيمن يهيمن فهو مهيمن: إذا كان رقيباً على الشيء. قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن، والأول أولى، وقد قدمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة "العزيز" الذي لا يوجد له نظير، وقيل القاهر، وقيل الغالب غير المغلوب، وقيل القوي "الجبار" جبروت الله عظمته، والعرب تسمي الملك الجبار، ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير وأصله الكسير، ويجوز أن يكون من جبره على كذا إذا أكرهه، على ما أراد، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السدي ومقاتل، واختاره الزجاج والفراء، قال: هو من أجبره على الأمر: أي قهره. قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك، وقيل الجبار الذي لا تطاق سطوته "المتكبر" أي الذي تكبر عن كل نقص وتعظم عما لا يليق به، وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد، ومنه قول حميد بن ثور: عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول والكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. قال قتادة: هو الذي تكبر عن كل سوء. قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء، وهو الملك، ثم نزه سبحانه نفسه عن شرك المشركين، فقال: "سبحان الله عما يشركون" أي عما شركونه أو عن إشراكهم به.
24- " هو الله الخالق " أي المقدر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته "البارئ" أي المنشء المخترع للأشياء الموجد لها. وقيل المميز لبعضها من بعض "المصور" أي الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة، فالتصوير مترتب على الخلق والبراية وتابع هلما، ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل قال النابغة: الخالق البارئ المصور في الـ أرحام ماء حتى يصير دماً وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي المصور بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارئ: أي الذي برأ المصور: أي ميزه "له الأسماء الحسنى" قد تقدم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" "يسبح له ما في السموات والأرض" أي ينطق بتنزيهه بلسان الحال، أو المقال كل ما فيهما "وهو العزيز الحكيم" أي الغالب لغير الذي لا يغالبه مغالب، الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها. وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس، في قوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" قال: يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود وعلي مرفوعاً في قوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" إلى آخر السورة قال: هي رقية الصداع. رواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف حال رجالهما. وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك، فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأ على الأعمش ثم ساق الإسناد مسلسلاً هكذا إلى ابن مسعود فقال: فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت هذه الآية قال لي: ضع يد على رأسك، فإن جبريل لما نزل بها قال لي ضع يدل على رأسك، فإنها شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت. قال الذهبي: هو باطل. وأخرجه ابن السني في عمل يوم وليلة وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا آوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر وقال: إن مت مت شهيداً. وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكاً يطردون عنه شياطين الإنس والجن إن كان ليلاً حتى يصبح، وإن كان نهاراً حتى يمسي". وأخرج أحمد والدرامي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالل السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة". قال الترمذي بعد أخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرج ابن عدي وابن مردويه والخطيب والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "عالم الغيب والشهادة" قال: السر والعلانية. وفي قوله: "المؤمن" قال: المؤمن خلقه من أن يظلمهم، وفي قوله: "المهيمن" قال: الشاهد.