تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 565 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 565

565- تفسير الصفحة رقم565 من المصحف
الآية: 16 {سنسمه على الخرطوم}
قوله تعالى: "سنسمه" قال ابن عباس: معنى "سنسمه" سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف؛ فلم يزل مخطوما إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها؛ يقال: وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" [آل عمران: 106] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى: "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا" [طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار؛ وهذا كقوله تعالى: "يعرف المجرمون بسيماهم" [الرحمن: 41] قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد: "سنسمه على الخرطوم" أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم: الأنف من الإنسان. ومن السباع: موضع الشفة. وخراطيم القوم: ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه؛ لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال الطبري: نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء؛ أي الصق به عار لا يفارقه؛ كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء. قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة؛ كالوسم على الخرطوم. وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقول الأعشى:
فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها بشعرك وأعلب أنف من أنت واسم
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شرَّاب الخراطيم
قال الراجز:
صهباء خرطوما عقارا قرقفا
وقال آخر:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
قال ابن العربي: "كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي - كما تقدم - أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه؛ وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته؛ فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار؛ فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود؛ حسب ما ثبت في الصحيح.
الآية: 17 - 19 {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون}
قوله تعالى: "إنا بلوناهم" يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا؛ فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها؛ فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان؛ ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم؛ أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلا سواد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها. فيقال: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم؛ ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم: سميت الطائف لأن رجلا من الصدف يقال له الدمون، بنى حائطا وقال: قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم؛ فسميت الطائف. والله أعلم.
قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره؛ وذلك معنى قوله: "وآتوا حقه يوم حصاده" [الأنعام: 141] وأنه غير الزكاة على ما تقدم في "الأنعام" بيانه. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحاصدون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة "ن والقلم". قيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهوام الأرض.
قلت: الأول أصح؛ والثاني حسن. وإنما قلنا الأول أصح لأن العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فما يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا؛ فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين؛ ولم يستثنوا؛ فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين؛ فذلك قوله تعالى: "إذ أقسموا" يعني حلفوا فيما بينهم "ليصر منها مصبحين" يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين؛ ولا يستثنون؛ يعني لم يقولوا إن شاء الله. وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر؛ فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا: قل المال وكثر العيال؛ فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله: "إذ أقسموا" أي حلفوا "ليصر منها" ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامه. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده.
قوله تعالى: "ولا يستثنون" أي ولم يقولوا إن شاء الله. وقال مجاهد: كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا. وقيل: معنى "ولا يستثنون" أي لا يستثنون حق المساكين؛ قاله عكرمة. فجاؤوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام؛ على ما تقدم ذكره. وقال ابن عباس: أمر من ربك. وقال قتادة: عذاب من ربك. ابن جريج: عتق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل؛ قاله الفراء.
قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" [الحج: 25]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). وقد مضى مبينا في سورة "آل عمران" عند قوله تعالى: "ولم يصروا على ما فعلوا" [آل عمران: 135].
الآية: 20 - 22 {فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين}
قوله تعالى: "فأصبحت كالصريم" أي كالليل المظلم؛ عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر:
تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم
أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس أيضا: كالرماد الأسود. قال: الصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. الثوري: كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه. وقال الحسن: صرم عنها الخير أي قطع؛ فالصريم مفعول أيضا. وقال المؤرج: أي كالرملة أنصرمت من معظم الرمل. يقال: صريمة وصرائم؛ فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به. وقال الأخفش: أي كالصبح أنصرم من الليل. وقال المبرد: أي كالنهار؛ فلا شيء فيها. قال شمر: الصريم الليل والصريم النهار؛ أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرف؛ ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف. "فتنادوا مصبحين" ينادي بعضهم بعضا ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل لئلا ينتبه المساكين "أن اغدوا على حرثكم" عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: حاصدين زرعكم. وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل. فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين.
الآية: 23 - 25 {فانطلقوا وهم يتخافتون، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين}
قوله تعالى: "فانطلقوا وهم يتخافتون" أي يتسارون؛ أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد؛ قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة:
وإني لم أهلك سلالا ولم أمت خفاتا وكلا ظنه بي عودي
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. "وغدوا على حرد قادرين" أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرَد يحرِد (بالكسر) حردا قصد. تقول: حردْتُ حردَك؛ أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز:
أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المُغِلَّة
أنشده النحاس:
قد جاء سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغلة
قال البرد: المغلة ذات الغلة. وقال غيره: المِغلة التي يجري الماء في غللها أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا. وقال قتادة ومجاهد: "على حرد" أي على جد. الحسن: على حاجة وفاقة. وقال أبو عبيدة والقتيبي: على حرد على منع؛ من قولهم حاردت الإبل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان: "على حرد" على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: وهو مخفف؛ وأنشد شعراً:
إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد
وقال ابن السكيت: وقد يحرك؛ تقول منه: حرد (بالكسر) حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد. وقيل: "على حرد" على انفراد. يقال: حرد يحرد حرودا؛ أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد: رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا؛ إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد؛ أي معتزل عن الكواكب. قال الأصمعي: رجل حريد؛ أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لأبي ذؤيب:
كأنه كوكب في الجو منحرد
ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسره: منفرد. قال: وهو سهيل. وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم. السدي: اسم جنتهم؛ وفيه لغتان: حرد وحرد. وقرأ العامة بالإسكان. وقرأ أبو العالية وابن السميقع بالفتح؛ وهما لغتان. ومعنى "قادرين" قد قدروا أموهم وبنوا عليه؛ قاله الفراء. وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي: "قادرين" يعني على المساكين. وقيل: معناه من الوجود؛ أي منعوا وهم واجدون.
الآية: 26 - 27 {فلما رأوها قالوا إنا لضالون، بل نحن محرومون}
قوله تعالى: "فلما رأوها قالوا إنا لضالون" أي لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها. وقال بعضهم لبعض: "إنا لضالون" أي ضللنا الطريق إلى جنتنا؛ قاله قتادة. وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين؛ فلذلك عوقبنا. "بل نحن محرومون" أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هيء له - ثم تلا - "فطاف عليها طائف من ربك" [القلم: 19]) الآيتين.
الآية: 28 - 32 {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون، قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون}
قوله تعالى: "قال أوسطهم" أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. "ألم أقل لكم لولا تسبحون" أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا؛ قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم: هلا تسبحون الله؛ أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل؛ فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله؛ لأن المعنى تنزيه الله عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم؛ فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين "قالوا سبحان ربنا" اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم: "سبحان ربنا" أي نستغفر الله من ذنبنا. "إنا كنا ظالمين" لأنفسنا في منعنا المساكين. "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. "قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين" أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. "عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها" تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا؛ فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. وقال الحسن: قول أهل الجنة "إنا إلى ربنا راغبون" لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة؛ فيوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا؛ حكاه القشيري. وقراءة العامة "يبدلنا" بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان. وقيل: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم. والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة "النساء" القول في هذا.
الآية: 33 {كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}
قوله تعالى: "كذلك العذاب" أي عذاب الدنيا وهلاك الأموال؛ عن ابن زيد. وقيل: إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا "ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم؛ فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا؛ والأول أظهر، والله أعلم. وقيل: السورة مكية؛ فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر.
الآية: 34 - 39 {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم، أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون، أم لكم كتاب فيه تدرسون، إن لكم فيه لما تخيرون، أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون}
قوله تعالى: "إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم" تقدم القول فيه؛ أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها؛ فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين" أي كالكفار. وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون؛ فنزلت "أفنجعل المسلمين كالمجرمين" ثم وبخهم فقال: "ما لكم كيف تحكمون" هذا الحكم الأعوج؛ كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. "أم لكم كتاب فيه تدرسون" أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. "إن لكم فيه لما تخيرون" تختارون وتشتهون. والمعنى: أن لكم (بالفتح) ولكنه كسر لدخول اللام؛ تقول علمت أنك عاقل (بالفتح)، وعلمت إنك لعاقل (بالكسر). فالعامل في "إن لكم فيه لما تخيرون" "تدرسون" في المعنى. ومنعت اللام من فتح "إن". وقيل: تم الكلام عند قوله: "تدرسون" ثم ابتدأ فقال: "إن لكم قيه لما تخيرون" أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون؛ أي ليس لكم ذلك. والكناية في "فيه" الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب.
قوله تعالى: "أم لكم أيمان علينا" أي عهود ومواثيق. "بالغة إلى يوم القيامة" مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. "إن لكم لما تحكمون" كسرت "إن" لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة "إيمان"، والموضع النصب ولكن كسرت لأجل اللام؛ تقول: حلفت إن لك لكذا. وقيل: تم الكلام عند قوله: "إلى يوم القيامة" ثم قال: "إن لكم لما تحكمون" إذا؛ أي ليس الأمر كذلك. وقرأ ابن هرمز "أين لكم فيه لما تخيرون" "أين لكم لما تحكمون"؛ بالاستفهام فيهما جميعا. وقرأ الحسن البصري "بالغة" بالنصب على الحال؛ إما من الضمير في "لكم" لأنه خبر عن "إيمان" ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في "علينا" إن قدرت "علينا" وصفا للإيمان لا متعلقا بنفس الإيمان؛ لأن فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من "إيمان" وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب "حقا" على الحال من "متاع" في قوله تعالى: "متاع بالمعروف حقا على المتقين" [البقرة: 241]. وقرأ العامة "بالغة" بالرفع نعت لـ "أيمان".
الآية: 40 - 41 {سلهم أيهم بذلك زعيم، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين}
قوله تعالى: "سلهم أيهم بذلك زعيم" أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين علي: أيهم كفيل بما تقدم ذكره. وهو أن لهم من الخير ما للمسلمين. والزعيم: الكفيل والضمين؛ قال ابن عباس وقتادة. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن: الزعيم الرسول. "أم لهم شركاء" أي ألهمزه والميم صلة. "شركاء" أي شهداء. "فليأتوا بشركائهم" يشهدون على ما زعموا. "إن كانوا صادقين" في دعواهم. وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم؛ فهو أمر معناه التعجيز.
الآية: 42 - 43 {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون}
قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق" يجوز أن يكون العامل في "يوم" "فليأتوا" أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل، أي اذكر يوم يكشف عن ساق؛ فيوقف على "صادقين" ولا يوقف عليه على التقدير الأول. وقرئ "يوم نكشف" بالنون. "وقرأ" ابن عباس "يوم تكشف عن ساق" بتاء مسمى الفاعل؛ أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها؛ كقولهم: شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر:
فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال الراجز:
قد كشفت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا
وقال آخر:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سَنة قد كشفت عن ساقها حمراء تبري اللحم عن عراقها
وقال آخر: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية "تكشف" بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى "يكشف" وكأنه قال: يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرئ "يوم تكشف" بالتاء المضمومة وكسر الشين؛ من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف؛ إذا انقلبت شفته العليا. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق" قال: عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الأمر وجده. وقال مجاهد: قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل: كشف الأمر عن ساقه. والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه؛ فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه؛ كساق الشجرة وساق الإنسان. أي يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصلها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: يريد وقت أقتراب الأجل وضعف البدن؛ أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عز وجل يتعالى عن الأعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل.
وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "عن ساق" قال: (يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا). وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد ابن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره - قال - وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" فيقول الله تعالى عبادي أرفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار). قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبدالعزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمان؛ فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن: حدث عبدالله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال: إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما، ثم ينادي مناد: أيها الناس، أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا؛ فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد، فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة؛ فذلك قوله تعالى: "ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون".
قوله تعالى: "خاشعة أبصارهم" أي ذليلة متواضعة؛ ونصبها على الحال. "ترهقهم ذلة" وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج. وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار.
قلت: معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره.
"وقد كانوا يدعون إلى السجود" أي في الدنيا. "وهم سالمون" معافون أصحاء. قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل: أي بالتكليف الموجه عليهم في الشرع؛ والمعنى متقارب. وقد مضى في سورة "البقرة" الكلام في وجوب صلاة الجماعة. وكان الربيع بن خيثم قد فلج وكان يهادى بين الرجلين إلى المسجد؛ فقيل: يا أبا يزيد، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. وقيل لسعيد بن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فتغيب. فقال: أبحيث لا يقدر الله علي؟ فقيل له: اجلس في بيتك. فقال: أسمع حي على الفلاح، فلا أجيب!