تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 565 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 565

564

16- "سنسمه على الخرطوم" أي سنسمه بالكي على خرطومه. قال أبو عبيدة وأبو زيد والمبرد: الخرطوم الأنف. قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار. قال الفراء: والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض. وقال الزجاج: سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم. وقال قتادة: سنلحق به شيئاً لا يفارقه، واختار هذا ابن قتيبة، قال: والعرب تقول: قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عاراً لا يفارقه، فالمعنى: أن الله ألحق به عاراً لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وقيل معنى سنسمه: سنحطمه بالسيف. وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شر الخمر، وقد يسمى الخمر بالخرطوم ومنه قول الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه. وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات والخطيب في تاريخه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال له اكتب، فقال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم طوي الكتاب ورفع القلم، وكان عرشه على الماء، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه، والأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض. فأثبتت الجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة، ثم قرأ ابن عباس " ن والقلم وما يسطرون ": وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن مردويه عن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد". وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون، وهي الدواة وخلق القلم، فقال اكتب، قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: ن الدواة. وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "النون السمكة التي عليها قرار الأرضين، والقلم الذي خط به ربنا عز وجل القدر خيره وشره وضره ونفعه "وما يسطرون" قال: الكرام الكاتبون". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: "وما يسطرون" قال: ما يكتبون. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "وما يسطرون" قال: وما يعلمون. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقالت: يا أم المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن "إنك لعلى خلق عظيم". وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والواحدي عنها قالت: "ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، فلذلك أنزل الله "وإنك لعلى خلق عظيم"" وأخرج ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي الدرداء قال: "سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه". وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي قال: "قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لم يكن فاحشاً ولا متفاحشاً، ولا صخابي في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح". وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فستبصر ويبصرون" قال: تعلم ويعلمون يوم القيامة "بأيكم المفتون" قال الشيطان، كانوا يقولون إنه شيطان وإنه مجنون. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: بأيكم المجنون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " يقول: لو ترخص لهم فيرخصون. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً "ولا تطع كل حلاف مهين" الآية قال: يعني الأسود بن عبد يغوث. وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال: زقال مروان لما بايع الناس ليزيد: سنة أبي بكر وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: "إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر ولكنها سنة هرقل، فقال مروان: هذا الذي أنزل فيه "والذي قال لوالديه أف لكما" الآية.قال: فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم تنزل في عبد الرحمن، ولكن نزل في أبيك " ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم "" وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: " نزل على النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم " فلم نعرف حتى نزل عليه "بعد ذلك زنيم"، فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: العتل هو الدعي، والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشر. وأخرج عبد بن حميد وابن عساكر عنه قال: الزنيم: هو الدعي. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه عنه أيضاً قال: الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: هو الرجل يمر على القوم، فيقولون رجل سوء. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "زنيم" قال: ظلوم، وقد قيل إن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق، وقيل في الوليد بن المغيرة.
قوله: 17- "إنا بلوناهم" يعني كفار مكة، فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والابتلاء الاختبار، والمعنى: أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط "كما بلونا أصحاب الجنة" المعروف خبرهم عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدي حق الله منها، فمات وصارت إلى أولاده، فمنعوا الناس خيرها، وبخلوا بحق الله فيها. قال الواحدي: هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظاً للمساكين عند الحصاد والصرام، فقالت بنوه: المال القليل، والعيال كثير، وال يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا، وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان [ابتلاهم] الله بأن حرق جنتهم. وقيل هي جنة كانت بصوران، وصوران على فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير " إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين " أي حلفوا ليقطعنها داخلين في وقت الصباح، والصرم القطع للثمر والزرع، وانتصاب مصبحين على الحال من فاعل ليصر منها، والكاف في كما بلونا نعت مصدر محذوف: أي بلوناهم ابتلاء كما بلونا، وما مصدرية، أو بمعنى الذي، وإذا ظرف لبلونا منتصب به، وليصر منها جواب القسم.
18- "ولا يستثنون" يعني ولا يقولون إن شاء الله، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم، أو حال. وقيل المعنى: ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم، قاله عكرمة.
19- "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون" أي طاف على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه، والطائف قيل هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء، كذا قال مقاتل: وقيل الطائف جبريل اقتلعها، وجملة "وهم نائمون" في محل نصب على الحال.
20- "فأصبحت كالصريم" أي كالشيء الذي صرمت ثماره: أي قطعت، فعيل بمعنى مفعول. وقال الفراء: كالصريم كالليل المظلم، ومنه قول الشاعر: تطاول ليلك الجون الصريم فما ينجاب عن صبح بهيم والمعنى: أنها حرقت فصارت كالليل الأسود قال: والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. وقال الأخفش أي كالصبح انصرم من الليل، يعني أنها يبست وابيضت. وقال المبرد: الصريم الليل، والصريم النهار: أي ينصرم هذا عن هذا، وذاك عن هذا، وقيل سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرف. وقال المؤرج: الصريم الرملة لأنها لا يثبت عليها شيء ينتفع به. وقال الحسن: صرم منها الخير: أي قطع.
21- "فتنادوا مصبحين" أي نادى بعضهم بعضاً داخلين في الصباح.
قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض 22- "أن اغدوا على حرثكم" وأن في قوله أن اغدوا هي المفسرة لأن في التنادي معنى القول، أو هي المصدرية: أي بأن اغدوا، والمراد اخرجوا غدوة، والمراد بالحرث الثمار والزرع "إن كنتم صارمين" أي قاصدين للصرم، والغدو يتعدى بإلى وعلى، فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل، وجواب الشرط محذوف: أي إن كنتم صارمين فاغدوا، وقيل معنى صارمين ماضين في العزم، من قولك سيف صارم.
23- "فانطلقوا وهم يتخافتون" أي ذهبوا إلى جنتهم وهم يسرون الكلام بينهم لئلا يعلم أحد بهم، يقال خفت يخفت: إذا سكن ولم ينبس، ومنه قول دريد بن الصمة: وإن لم أهلك ملالاً ولم أمت خفاتاً وكلاً ظنه بي عويمر وقيل المعنى: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم، فيقصدوهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد.
والأول أولى لقوله: 24- "أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين" فإن أن هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول. والمعنى: يسر بعضهم إلى بعض هذا القول، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم.
25- "وغدوا على حرد قادرين" الحرد يكون بمعنى المنع والقصد. قال قتادة ومقاتل والكلبي والحسن ومجاهد: الحرد هنا بمعنى القصد، لأن القاصد إلى الشيء حارد يقال: حرد يحرد إذا قصد، تقول: حردت حردك: أي قصدت قصدك، ومنه قول الراجز: أقبل سيـل جـاء من عند اللـه يحـرد حرد الجنـة المحلـة وقال أبو عبيدة والمبرد والقتيبي: على حرد على منع، من قولهم حردت الإبل حرداً: إذا قلت ألبانها، والحرود من النوق هي القليلة اللبن. وقال السدي ويفيان والشعبي "على حرد" على غضب، ومنه قول الشاعر: إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد وقول الآخر: تساقوا على حرد دماء الأساود ومنه قيل أسد حارد. وروي عن قتادة ومجاهد أيضاً أنهما قالا: على حرد: أي على حسد. وقال الحسن أيضاً: على حاجة وفاقة. وقيل على حرد: على انفراد، يقال حرد يحرد حرداً أو حروداً: إذا تنحى عن قومه ونزل منفرداً عنهم ولم يخالطهم، وبه قال الأصمعي وغيره. وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم، وقال السدي: اسم جنتهم. قرأ الجمهور حرد بسكون الراء. وقرأ أبو العالية وابن السميفع بفتحها، وانتصاب "قادرين" على الحال. قال الفراء: ومعنى قادرين: قد قدروا وبنوا عليه، وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم. وقال الشعبي: يعني قادرين على المساكين.
26- "فلما رأوها" أي لما رأوا جنتهم وشاهدوا ما قد حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها "قالوا إنا لضالون" أي قال بعضهم لبعض: قد ضللنا طريق جنتنا وليست هذه.
ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع قالوا: 27- "بل نحن محرومون" أي حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها، فأضربوا عن قولهم الأول إلى هذا القول، وقيل معنى قولهم "إنا لضالون" أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم.
28- "قال أوسطهم" أي أمثلهم وأعقلهم وخيرهم "ألم أقل لكم لولا تسبحون" أي هلا تسبحون: يعني تستثنون، وسمي الاستثناء تسبيحاً، لأنه تعظيم لله وإقرار به، وهذا يدل على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه، وقال مجاهد وأبو صالح وغيرهما: كان استثناؤهم تسبيحاً. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله. وقيل المعنى: هلا تستغفرون الله من فعلكم وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك، فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم الجنة على تلك الصفة.
29- "قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين" أي تنزيهاً له عن أن يكون ظالماً فيما صنع بجنتنا، فإن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه، وقيل معنى تسبيحهم الاستغفار: أي نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين.
30- "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" أي يلوم بعضهم بعضاً في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث 31- "قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين" أي عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء. قال ابن كيسان: أي طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل.
ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم بخير منها فقالوا: 32- "عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها" لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عز وجل: أن يبدلهم جنة خيراً من جنتهم، قيل إنهم تعاقدوا فيما بينهم وقالوا إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعن كما صنع أبونا، فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها. قرأ الجمهور "يبدلنا" بالتخفيف، وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتشديد، وهما لغتان، والتبديل تغيير ذات الشيء، أو تغيير صفته، والإبدال رفع الشيء جملة ووضع آخر مكانه، كما مضى في سورة سبأ "إنا إلى ربنا راغبون" أي طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه وعدي بإلى وهو إنما يتعدى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع.
33- "كذلك العذاب" أي مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا، والعذاب مبتدأ مؤخر، وكذلك خبره "ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" أي أشد وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك ولكنهم لا يعلمون. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كما بلونا أصحاب الجنة" قال: هم ناس من الحبشة كان لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين، فمات أبوهم فقال بنوه: أن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين " أقسموا ليصرمنها مصبحين " وأن لا يطعموا مسكيناً. وأخرج ابن جرير "فطاف عليها طائف" قال: أمر من الله وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إياكم والمعصية، فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسي به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيئ له. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم " قد حرموا خير جنتهم بذنبهم". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "كالصريم" قال: مثل الليل الأسود وأخرج ابن المنذر عنه "وهم يتخافتون" قال: الإسرار والكلام الخفي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً "على حرد قادرين" يقول ذو قدرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "إنا لضالون" قال: أضللنا مكان جنتنا. وأخرجا عنه أيضاً "قال أوسطهم" قال: أعدلهم.
لما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار، وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ذكر حال المتقين وما أعده لهم من الخير. فقال: 34- "إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم" أي المتعين ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي عنده عز وجل في الدار الآخرة جنات النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ولا ينغصه خوف زوال.
35- "أفنجعل المسلمين كالمجرمين" الاستفهام للإنكار. وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها، فلما سمعوا بذكر الآخرة، وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا: إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، فقال الله مكذباً لهم رادا عليهم: أفنجعل المسلمين الآية، والفاء للعطف على مقدر كنظائره.
ثم وبخهم الله. فقال: 36- "ما لكم كيف تحكمون" هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم تحكمون فيها بما شئتم.
37- "أم لكم كتاب فيه تدرسون" أي تقرأون فيه فتجدون المطيع كالعاصي، ومثل هذا قوله تعالى: " أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم " ثم قال سبحانه: "إن لكم فيه لما تخيرون" قرأ الجمهور بكسر إن على أنها معمولة لتدرسون: أي تدرسون في الكتاب.
38- "إن لكم فيه لما تخيرون" فلما دخلت اللام كسرت الهمزة كقوله: علمت إنك لعاقل بالكسر، أو على الحكاية للمدروس، كما في قوله: " وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين " وقيل قد تم الكلام عند قوله: "تدرسون" ثم ابتدأ فقال: "إن لكم فيه لما تخيرون" أي ليس لكم ذلك، وقرأ طلحة بن مصرف والضحاك أن لكم بفتح الهمزة على أن العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد ومعنى "تخيرون" تختارون وتشتهون.
ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال: 39- "أم لكم أيمان علينا بالغة" أي عهود مؤكدة موثقة متناهية، والمعنى أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة، وقوله: "إلى يوم القيامة" متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذ، وجواب القسم قوله: "إن لكم لما تحكمون" لأن معنى "أم لكم أيمان" أي أم أقسمنا لكم. قال الرازي: والمعنى أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. وقيل قد تم الكلام عند قوله: "إلى يوم القيامة" ثم ابتدأ فقال: "إن لكم لما تحكمون" أي ليس الأمر كذلك. قرأ الجمهور " بالغة " بالرفع على النعت لأيمان، وقرأ الحسن وزيد بن علي بنصبها على الحال من أيمان، لأنها قد تخصصت بالوصف، أو من الضمير في لكم أو من الضمير في علينا.
40- "سلهم أيهم بذلك زعيم" أي سل يا محمد الكفار موبخاً لهم ومقرعاً أيهم بذلك الحكم الخارج عن الصواب كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن: الزعيم الرسول.
41- "أم لهم شركاء" يشاركونهم في هذا القول يوافقونهم فيه "فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين" فيما يقولون وهو أم تعجيز، وجواب الشرط محذوف، وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة.
42- "يوم يكشف عن ساق" يوم ظرف لقوله فليأتوا: أي فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل مقدر: أي اذكر يوم يكشف. قال الواحدي: قال المفسرون في قوله: "عن ساق" عن شدة من الأمر. قال ابن قتيبة: أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه، فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدة، وأنشد لدريد بن الصمة: كميش الإزار خارج نصف ساقه صبوراً على الجلاء طلاع أنجد وقال: وتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق. قال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والأمر قيل كشف الأمر عن ساقه، والأصل فيه من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدة، وهكذا قال غيره من أهل اللغة، وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها، ومن ذلك قول الشاعر: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقول الآخر: والخيـــل تعـــدو عنــد وقت الاشراق وقــامت الحـرب بنــا عـلى ســاق وقول آخر أيضاً: قــد كشفـت عـن ساقـهــا فـشــدوا وجــدت الحــرب بكـم فــجــدوا وقول آخر أيضاً في سنة: قـد كــشــفـت عن ساقـهـــا حمــرا ء تبري اللــحــم عــن عــراقــهــا وقيل ساق الشيء: أصله وقوامه كساق الشجرة، وساق الإنسان: أي يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه، وقيل يكشف عن ساق جهنم، وقيل عن ساق العرش، وقيل هو عبارة عن القرب، وقيل يكشف الرب سبحانه عن نوره، وسيأتي في آخر البحث ما هو الحق، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، قرأ الجمهور "يكشف" بالتحية مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن أبي عبلة تكشف بالفوقية مبنياً للفاعل: أي الشدة أو الساعة، وقرئ بالفوقية مبنياً للمفعول، وقرئ بالنون، وقرئ بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر: أي دخل في الكشف "ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" قال الواحدي: قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود. قال الربيع بن أنس: يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا فيسجدون له، ويدعي الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون، لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا.