تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 565 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 565

565 : تفسير الصفحة رقم 565 من القرآن الكريم

** إِنّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مّن رّبّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصّرِيمِ * فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُواْ عَلَىَ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاّ يَدْخُلَنّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ * وَغَدَوْاْ عَلَىَ حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمّا رَأَوْهَا قَالُوَاْ إِنّا لَضَآلّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَ رَبّنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ * قَالُواْ يَوَيْلَنَا إِنّا كُنّا طَاغِينَ * عَسَىَ رَبّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَآ إِنّآ إِلَىَ رَبّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة, وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة, ولهذا قال تعالى: {إنا بلوناهم} أي اختبرناهم {كما بلونا أصحاب الجنة} وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين} أي حلفوا فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلاً لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء {ولا يستثنون} أي فيما حلفوا به, ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال تعالى: {فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون} أي أصابتها آفة سماوية {فأصبحت كالصريم} قال ابن عباس كالليل الأسود وقال الثوري والسدي مثل الزرع إذا حصد أي هشيماً يبساً. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن أحمد بن الصباح أنبأنا بشير بن زاذان عن عمر بن صبح عن ليث بن أبي سليم, عن عبد الرحمن بن سابط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم «فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم» قد حرموا خير جنتهم بذنبهم.
{فتنادوا مصبحين} أي لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضاً ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع {أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين} أي تريدون الصرام قال مجاهد: كان حرثهم عنباً {فانطلقوا وهم يتخافتون} أي يتناجون فيما بينهم بحيث لا يسمعون أحداً كلامهم. ثم فسر الله سبحانه وتعالى عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به فقال تعالى: {فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} أي يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها عليكم, قال الله تعالى: {وغدوا على حرد} أي قوة وشدة.
وقال مجاهد {وغدوا على حرد} أي جد, وقال عكرمة: على غيظ, وقال الشعبي {على حرد} على المساكين, وقال السدي {على حرد} أي كان اسم قريتهم حرد فأبعد السدي في قوله هذا {قادرين} أي عليها فيما يزعمون ويرومون {فلما رأوها قالوا إنا لضالون} أي فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها وهي على الحالة التي قال الله عز وجل قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشيء منها فاعتقدوا أنهم قد أخطأوا الطريق ولهذا قالوا {إنا لضالون} أي قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها قاله ابن عباس وغيره, ثم رجعوا عما كانوا فيه وتيقنوا أنها هي فقالوا {بل نحن محرومون} أي بل هي هذه ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب.
{قال أوسطهم} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن كعب والربيع بن أنس والضحاك وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم {ألم أقل لكم لولا تسبحون ؟} قال مجاهد والسدي وابن جريج {لولا تسبحون} أي لولا تستثنون قال السدي: وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحاً وقال ابن جرير: هو قول القائل إن شاء الله, وقيل معناه قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم {قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين} أتوا بالطاعة حيث لا تنفع وندموا واعترفوا حيث لا ينجع, ولهذا قالوا {إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} أي يلوم بعضهم بعضاً على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ, فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب {قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين} أي اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا.
{عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون} قيل: رغبوا في بذلها لهم في الدنيا وقيل احتسبوا ثوابها في الدار الاَخرة والله أعلم. ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن, قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء. وقيل: كانوا من أهل الحبشة, وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة وكانوا من أهل الكتاب. وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالفاضل, فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء, ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم, فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء. قال الله تعالى: {كذلك العذاب} أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفراً {ولعذاب الاَخرة أكبر لو كانوا يعلمون} أي هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الاَخرة أشق, وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجذاذ بالليل والحصاد بالليل.

** إِنّ لّلْمُتّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتِ النّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
لما ذكر الله تعالى حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عز وجل, وخالفوا أمره بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الاَخرة جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها ثم قال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} أي أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء ؟ كلا ورب الأرض والسماء ولهذا قال: {ما لكم كيف تحكمون} أي كيف تظنون ذلك ؟
ثم قال تعالى: {أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون} يقول تعالى: أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف متضمن حكماً مؤكداً كما تدعونه ؟ {إن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة ؟ إن لكم لما تحكمون} أي أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة ؟ {إن لكم لما تحكمون} أي أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون {سلهم أيهم بذلك زعيم} أي قل لهم من هو المتضمن المتكفل بهذا ؟ قال ابن عباس: يقول أيهم بذلك كفيل {أم لهم شركاء} أي من الأصنام والأنداد {فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين}.