تفسير الطبري تفسير الصفحة 565 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 565
566
564
 الآية : 17-18
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: إنّا بَلَوْناهُمْ: أي بلونا مشركي قريش, يقول: امتحناهم فاختبرناهم, كمَا بَلَوْنا أصحَابَ الجَنّةِ يقول: كما امتحنا أصحاب البستان إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنّها مُصْبِحِينَ يقول: إذ حلفوا ليصرمُنّ ثمرها إذا أصبحوا. وَلا يَستَثْنون: ولا يقولون إن شاء الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26795ـ حدثنا هناد بن السريّ, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماكَ, عن عكرِمة, في قوله: لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكينٌ قال: هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة, كان يطعم المساكين منها, فلما مات أبوهم, قال بنوه: والله إن كان أبونا الأحمق حين يُطعم المساكين, فأقسموا ليصرمنها مصبحين, ولا يستثنون, ولا يطعمون مسكينا.
26796ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: لَيَصْرِمُنّها مُصْبِحينَ قال: كانت الجنة لشيخ, وكان يتصدّق, فكان بنوه ينهونه عن الصدقة, وكان يمسك قوت سنته, وينفق ويتصدّق بالفضل فلما مات أبوهم غدوا عليها فقالوا: لا يَدْخُلَنّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
وذُكر أن أصحاب الجنة كانوا أهل كتاب. ذكر من قال ذلك:
26797ـ حدثنا محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: إنّا بَلَوْناهُمْ كمَا بَلَوْنا أصحَابَ الجَنّةِ إذْ أقْسَمُوا... الاَية, قال: كانوا من أهل الكتاب.
والصرم: القطع, وإنما عنى بقوله لَيَصْرِمُنّها لَيَجُدّنّ ثمرتها ومنه قول امرىء القيس:
صَرَمَتْكَ بَعْدَ تَوَاصُلٍ دَعْدُوَبَدا لِدَعْدٍ بعضُ ما يَبْدُو

الآية : 19-20
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مّن رّبّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصّرِيمِ }.
يقول تعالى ذكره: فطرق جنة هؤلاء القوم ليلاً طارق من أمر الله وهم نائمون, ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلاً, ولا يكون نهارا, وقد يقولون: أطفت بها نهارا.
وذكر الفرّاء أن أبا الجرّاح أنشده:
أطَفْتُ بِها نَهارا غَيْرَ لَيْلٍوألْهَى رَبّها طَلَبُ الرّخالِ
والرّخال: هي أولاد الضأن الإناث. وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26798ـ حدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا محمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كريب, عن قابوس, عن أبيه, قال: سألت ابن عباس, عن الطوَفان فَطافَ عَلَيْها طائفٌ مِنْ رَبّكَ قال: هو أمر من أمر الله.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فَطافَ عَلَيْها طائفٌ مِنْ رَبّكَ وَهُمْ نائِمُونَ قال: طاف عليها أمر من أمر الله وهم نائمون.
وقوله: فأصْبَحَتْ كالصّرِيمِ اختلف أهل التأويل في الذي عُنِي بالصريم, فقال بعضهم: عُني به الليل الأسود, وقال بعضهم: معنى ذلك: فأصبحت جنتهم محترقة سوداء كسواد الليل المظلم البهيم. ذكر من قال ذلك:
26799ـ حدثني محمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا شيخ لنا عن شيخ من كلب يقال له سليمان عن ابن عباس, في قوله: فأصْبَحَتْ كالصّرِيمِ قال: الصّريم: الليل. قال: وقال في ذلك أبو عمرو بن العلاء رحمه الله.
ألا بَكَرَتْ وَعاذِلَتِي تَلُومُتُهَجّدُنِي ومَا انْكَشَفَ الصّرِيمُ
وقال أيضا:
تَطاوَلَ لَيْلُكَ الجَوْنُ البَهِيمُفَمَا يَنْجابُ عَنْ صُبْحٍ صَريم
إذَا ما قُلْتَ أقْشَعَ أوْ تناهَىجَرَتْ مِنْ كُلّ ناحِيَةٍ غُيُومُ
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فأصبحت كأرض تدعى الصريم معروفة بهذا الاسم. ذكر من قال ذلك:
26800ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: أخبرني نعيم بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن جُبير يقول: هي أرض باليمن يقال لها ضَرَوان من صنعاء على ستة أميال.
الآية : 21-25
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُواْ عَلَىَ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاّ يَدْخُلَنّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ * وَغَدَوْاْ عَلَىَ حَرْدٍ قَادِرِينَ }.
يقول تعالى ذكره: فتنادى هؤلاء القوم وهم أصحاب الجنة. يقول: نادى بعضهم بعضا مصبحين يقول: بعد أن أصبحوا أن اغْدُوا على حَرْثِكُمْ وذلك الزرع إنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ يقول: إن كنتم حاصدي زرعكم فانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يقول: فمضَوا إلى حرثهم وهم يتسارّون بينهم أنْ لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ علَيْكُمْ مِسْكِين يقول: وهم يتسارّون يقول بعضهم لبعض: لا يدخلنّ جنتكم اليوم عليكم مسكين, كما:
26801ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أن اغْدُوا على حَرْثِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يقول: يُسِرّون أن لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
26802ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: لما مات أبوهم غدوا عليها, فقالوا: لا يَدْخُلَنّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
واختلف أهل التأويل في معنى الحرْد في هذا الموضع, فقال بعضهم: معناه: على قُدْرة في أنفسهم وجدّ. ذكر من قال ذلك:
26803ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ عن ابن عباس, قوله: وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: ذوي قدرة.
26804ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حجاج عمن حدثه, عن مجاهد في قول الله: على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: على جدّ قادرين في أنفسهم.
26805ـ قال: ثنا ابن عُلَية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: على جهد, أو قال على جِدّ.
26806ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ غدا القوم وهي مُحْردون إلى جنتهم, قادرون عليها في أنفسهم.
26807ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: على جِدّ من أمرهم.
26808ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: على حَرْدٍ قادِرِينَ على جِدّ قادرين في أنفسهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وغدوا على أمرهم قد أجمعوا عليه بينهم, واستسرّوه, وأسرّوه في أنفسهم. ذكر من قال ذلك:
26809ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد وَغَدَوا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: كان حرث لأبيهم, وكانوا إخوة, فقالوا: لا نطعم مسكينا منه حتى نعلم ما يخرج منه وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ على أمر قد أسسوه بينهم.
حدثنا محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله على حَرْدٍ قال: على أمر مجمع.
26810ـ حدثنا هناد, قال: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرِمة وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: على أمر مُجْمَع.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وغدوا على فاقة وحاجة. ذكر من قال ذلك:
26811ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: قال الحسن, في قوله: وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادِرِينَ قال: على فاقة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: على حنق. ذكر من قال ذلك:
26812ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرينَ قال: على حنق, وكأن سفيان ذهب في تأويله هذا إلى مثل قول الأشهب بن رُميلة:
أُسُودُ شَرًى لاقَتْ أُسُودَ خفِيّةٍتَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأساوِدِ
يعني: على غضب. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يتأوّل ذلك: وغدوا على منع. ويوجهه إلى أنه مِن قولهم: حاردَتِ السنة إذا لم يكن فيها مطر, وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن, كما قال الشاعر:
شع فإذا ما حارَدَتْ أوْ بَكأَتْ
فُتّ عَنْ حاجِب أُخْرَى طِينُها
وهذا قول لا نعلم له قائلاً من متقدّمي العلم قاله وإن كان له وجه, فإذا كان ذلك كذلك, وكان غير جائز عندنا أن يتعدّى ما أجمعت عليه الحجة, فما صحّ من الأقوال في ذلك إلا أحد الأقوال التي ذكرناها عن أهل العلم. وإذا كان ذلك كذلك, وكان المعروف من معنى الحرد في كلام العرب القصد من قولهم: قد حرد فلان حَرْد فلان: إذا قصد قصده ومنه قول الراجز:
وجاءَ سَيْلٌ كانَ مِنْ أمْرِ اللّهْيَحْرُدُ حَرْدَ الجَنّةِ المُغِلّهْ
يعني: يقصد قصدها, صحّ أن الذي هو أولى بتأويل الاَية قول من قال: معنى قوله وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرِينَ وَغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه, واستسرّوه بينهم, قادرين عليه في أنفسهم.
الآية : 26-28
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{فَلَمّا رَأَوْهَا قَالُوَاْ إِنّا لَضَآلّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ }.
يقول تعالى ذكره: فلما صار هؤلاء القوم إلى جنتهم, ورأوها محترقا حرثها, أنكروها وشكوا فيها, هل هي جنتهم أم لا؟ فقال بعضهم لأصحابه ظنا منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم, وأن التي رأوا غيرها: إنا أيها القوم لضالون طريق جنتنا, فقال من علم أنها جنتهم, وأنهم لم يخطئوا الطريق: بل نحن أيها القوم محرومون, حُرِمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26813ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة فَلَمّا رَأَوْها قالُوا إنّا لَضَآلّونَ: أي أضللنا الطريق, بل نحن محرومون, بل جُوزينا فحُرمنا.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فَلَمّا رَأَوْها قالُوا إنّا لَضَآلّون. يقول قتادة: يقولون أخطأنا الطريق ما هذه بجنتنا, فقال بعضهم: بل نحن محرومون حرمنا جنتنا.
وقوله: قالَ أوْسَطُهُمْ يعني: أعدلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26814ـ حدثني محمد بن سعد, قال ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: قَالَ أوْسَطُهُمْ قال: أعدلهم, ويقال: قال خيرهم, وقال في البقرة: وكَذَلكَ جَعلْناكُمُ أُمّةً وَسَطا قال: الوسط: العدل.
حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله قالَ أوْسَطُهُمْ يقول: أعدلهم.
26815ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا الفرات بن خلاد, عن سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قالَ أوْسَطُهُمْ: أعدلهم.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله قالَ أوْسَطُهُمْ قال: أعدلهم.
26816ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد قالَ أوْسَطُهُمْ قال: أعدلهم.
26817ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قالَ أوْسَطُهُمْ: أي أعدلهم قولاً, وكان أسرع القوم فزعا, وأحسنهم رَجْعة ألَمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُونَ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قالَ أوْسَطُهُمْ قال: أعدلهم.
26818ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: قالَ أوْسَطُهُمْ يقول: أعدلهم.
وقوله: ألمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُوْنَ يقول: هلا تستثنون إذ قلتم لَنَصْرِمُنّها مُصْبِحِينَ, فتقولوا إن شاء الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26819ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد لَوْلا تُسَبّحونَ قال: بلغني أنه الاستثناء.
قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن مجاهد ألمْ أقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبّحُونَ قال: يقول: تستثنون, فكان التسبيح فيهم الاستثناء.
الآية : 29-31
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{قَالُواْ سُبْحَانَ رَبّنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ * قَالُواْ يَوَيْلَنَا إِنّا كُنّا طَاغِينَ }.
يقول تعالى ذكره: قال أصحاب الجنة: سُبْحانَ رَبّنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ في تركنا الاستثناء في قسمنا وعزمنا على ترك إطعام المساكين من ثمر جنتنا.
وقوله: فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يقول جلّ ثناؤه: فأقبل بعضهم على بعض يلوم بعضهم بعضا على تفريطهم فيما فرّطوا فيه من الاستثناء, وعزمهم على ما كانوا عليه من ترك إطعام المساكين من جنهم.
وقوله: يا وَيْلَنا إنّا كُنّا طاغِينَ يقول: قال أصحاب الجنة: يا ويلنا إنا كنا مُبْعَدين: مخالفين أمر الله في تركنا الاستثناء والتسبيح.
الآية : 32-33
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{عَسَىَ رَبّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَآ إِنّآ إِلَىَ رَبّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل أصحاب الجنة: عَسَى رَبّنا أنْ يُبْدِلَنا خَيْرا مِنْها بتوبتنا من خطأ فعلنا الذي سبق منا خيرا من جنتنا إنّا إلى رَبّنا رَاغِبُونَ يقول: إنا إلى ربنا راغبون في أن يبدلنا من جنتنا إذ هلَكت خيرا منها.
قوله تعالى ذكره كَذلكَ العَذَابُ يقول جلّ ثناؤه: كفعلنا بجنة أصحاب الجنة, إذ أصبحت كالصريم بالذي أرسلنا عليها من البلاء والاَفة المفسدة, فعلنا بمن خالف أمرنا وكفر برسلنا في عاجل الدنيا, وَلَعَذَابُ الاَخِرَة أكْبَرُ يعني عقوبة الاَخرة بمن عصى ربه وكفر به, أكبر يوم القيامة من عقوبة الدنيا وعذابها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26820ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: كَذَلكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني بذلك عذاب الدنيا.
26821ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الله: كَذَلكَ العَذَابُ: أي عقوبة الدنيا وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
26822ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: كَذَلكَ العَذَابُ قال: عذاب الدنيا: هلاك أموالهم: أي عقوبة الدينا.
وقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقول: لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا, لارتدعوا وتابوا وأنابوا, ولكنهم بذلك جهال لا يعلمون.
الآية : 34-36
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{إِنّ لّلْمُتّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتِ النّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }.
يقول تعالى ذكره: إنّ للْمُتّقِينَ الذين اتقوا عقوبة الله بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتِ النّعِيمِ يعني: بساتين النعيم الدائم.
وقوله: أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كالمُجْرِمِينَ يقول تعالى ذكره: أفنجعل أيها الناس في كرامتي ونعمتي في الاَخرة الذين خضعوا لي بالطاعة, وذلوا لي بالعبودية, وخشعوا لأمري ونهي, كالمجرمين الذي اكتسبوا المآثم, وركبوا المعاصي, وخالفوا أمري ونهي؟ كَلاّ ما الله بفاعل ذلك.
وقوله: مالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أتجَعلون المطيع لله من عبيده, والعاصي له منهم في كرامته سواء. يقول جلّ ثناؤه: لا تسوّوا بينهما فإنهما لا يستويان عند الله, بل المطيع له الكرامة الدائمة, والعاصي له الهوان الباقي.
الآية : 37-39
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ }.
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قريش: ألكم أيها القوم بتسويتكم بين المسلمين والمجرمين في كرامة الله كتاب نزل من عند الله أتاكم به رسول من رسله بأن لكم ما تَخَيّرون, فأنتم تدرسون فيه ما تقولون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
26823ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: أمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ قال: فيه الذي تقولون تقرؤونه: تدرسونه, وقرأ: أمْ آتَيْناهُمْ كِتابا فَهُمْ على بَيّنَةٍ مِنْهُ... إلى آخر الاَية.
وقوله: إنّ لَكُمْ فِيهِ لَمّا تَخَيّرُونَ يقول جلّ ثناؤه: إن لكم في ذلك الذي تخيرون من الأمور لأنفسكم, وهذا أمر من الله, توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل, ويتمون من الأمانيّ الكاذبة.
وقوله: أمْ لَكُمْ فيه أيمَانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ يقول: هل لكم أيمان علينا تنتهي بكم إلى يوم القيامة, بأن لكم ما تحكمون أي بأن لكم حكمكم, ولكن الألف كسرت من «إن» لما دخل في الخبر اللام: أي هل لكم أيمان بأن لكم حكمكم.
الآية : 40-41
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{سَلْهُمْ أَيّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سل يا محمد هؤلاء المشركين أيهم بأن لهم علينا أيمانا بالغة بحكمهم إلى يوم القيامة زَعِيمٌ يعني: كفيل به, والزعيم عند العرب: الضامن والمتكلم عن القوم, كما:
26824ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أيّهُمْ بذَلكَ زَعِيمٌ يقول: أيهم بذلك كفيل.
26825ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: سَلْهُمْ أيّهُمْ بِذَلكَ زَعِيمٌ يقول: أيهم بذلك كفيل.
وقوله: أمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيأْتُوا بِشُرَكائِهمْ إنْ كانُوا صَادِقِينَ يقول تعالى ذكره: ألهؤلاء القوم شركاء فيما يقولون ويصفون من الأمور التي يزعمون أنها لهم, فليأتوا بشركائهم في ذلك إن كانوا فيما يدّعون من الشركاء صادقين