تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 584 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 584

584- تفسير الصفحة رقم584 من المصحف
في "طوى" ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون "طوى" منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم. الباقون بغير تنوين؛ لأنه معدول مثل عمر وقثم
قال الفراء: طوى: واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول عن طاو، كما عدل عمر عن عام. وقرأ الحسن وعكرمة "طوى" بكسر الطاء، وروي عن أبي عمرو، على معنى المقدس مرة بعد مرة؛ قال الزجاج؛ وأنشد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه علي طوى من غيك المتردد
أي هو لوم مكرر علي. وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في "طه" القول فيه. "اذهب إلى فرعون" أي ناداه ربه، فحذف، لأن النداء قول؛ فكأنه؛ قال له رب "أذهب إلى فرعون". "إنه طغى" أي جاوز القدر في العصيان. وروي عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان. وعن مجاهد قال: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضا قال: من أهل أصبهان، يقال له ذو ظفر، طول أربعة أشبار. "فقل هل لك إلى أن تزكى" أي تسلم فتطهر من الذنوب. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله. "وأهديك إلى ربك" أي وأرشدك إلى طاعة ربك "فتخشى" أي تخافه وتتقيه. وقرأ نافع وبن كثير "تزكى" بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى. الباقون: "تزكى" بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء. وقال أبو عمرو: "تزكى" بالتشديد [تتصدق بـ] الصدقة، و"تزكى" يكون زكيا مؤمنا. وإنما دعا فرعون ليكون زكيا مؤمنا. قال: فلهذا اخترنا التخفيف. وقال صخر بن جويرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: "أذهب إلى فرعون" إلى قول "وأهديك إلى ربك فتخشى" ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن أمض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر، فلم يبلغوه ولا يدركوه. "فأراه الآية الكبرى" أي العلامة العظمى وهي المعجزة وقيل: العصا. وقيل: اليد البيضاء تبرق كالشمس. وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا. الحسن: يده وعصاه. وقيل: فلق البحر. وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته. "فكذب" أي كذب نبي الله موسى "وعصى" أي عصى ربه عز وجل. "ثم أدبر يسعى" أي ولى مدبرا معرضا عن الإيمان "يسعى" أي يعمل بالفساد في الأرض. وقيل: يعمل في نكاية موسى. وقيل: "أدبر يسعى" هاربا من الحية. "فحشر" أي جمع أصحابه يمنعوه منها. وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسحرة للمعارضة. وقيل: حشر الناس للحضور. "فنادى" أي قال لهم بصوت عال "أنا ربكم الأعلى" أي لا رب لكم فوقي. ويروى: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإنس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويحك! أما تعرفني؟ قال: لا. قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربكم الأعلى. ذكره الثعلبي في كتاب العرائس. وقال عطاء: كان صنع لهم أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم. وقيل: أراد القادة والسادة. هو ربهم، وأولئك، هم أرباب السفلة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فنادى فحشر؛ لأن النداء يكون قبل الحشر. "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" أي نكال قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" [القصص: 38] وقوله بعد: "أنا ربكم الأعلى" [النازعات: 24] قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة. وكان بين الكلمتين أربعون سنة؛ قال ابن عباس. والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه. وقيل: نكال الأولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذاب في الآخرة. وقال قتادة وغيره. وقال مجاهد: هو عذاب أول عمره وأخره. وقيل: الآخرة قوله "أنا ربكم الأعلى" والأولى تكذيبه لموسى. عن قتادة أيضا. و"نكال" منصوب على المصدر المؤكد في قول الزجاج؛ لأن معنى أخذه الله: نكل، الله به، فأخرج [نكال] مكان مصدر من معناه، لا من لفظه. وقيل: نصب بنزع حرف الصفة. أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزع الخافض نصب. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذا نكالا، أي للنكال. والنكال: اسم لما جعل نكالا للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به. يقال: نكل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة. والكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. وقد مضى في سورة "المزمل" والحمد لله. "إن في ذلك لعبرة" أي اعتبارا وعظة. "لمن يخشى" أي يخاف الله عز وجل.
الآية: 27 - 33 {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لكم ولأنعامكم}
قوله تعالى: "أأنتم أشد خلقا" يريد أهل مكة، أي أخلقكم بعد الموت أشد في تقديركم "أم السماء" فمن قدر على السماء قدر على الإعادة؛ كقوله تعالى: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" [غافر: 57] وقوله تعالى: "أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم" [يس: 81]، فمعنى الكلام التقريع والتوبيخ. ثم وصف السماء فقال: "بناها" أي رفعها فوقكم كالبناء. "رفع سمكها" أي أعلى سقفها في الهواء؛ يقال: سمكت الشيء أي رفعته في الهواء، وسمك الشيء سموكا: ارتفع. وقال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك. وبناء مسموك وسنام سامك تامك أي عال، والمسموكات: السموات. ويقال: أسمك في الديم، أي أصعد في الدرجة. "فسواها" أي خلقها خلقا مستويا، لا تفاوت فيه، ولا شقوق، ولا فطور.
قوله تعالى: "وأغطش ليلها" أي جعله مظلما؛ غطش الليل وأغطشه الله؛ كقولك: ظلم [الليل] وأظلمه الله. ويقال أيضا: أغطش الليل بنفسه. وأغطشه الله كما يقال: أظلم الليل، وأظلمه الله. والغطش والغبش: الظلمة. ورجل أغطش: أي أعمى، أو شبيه به، وقد غطش، والمرأة غطشاء؛ ويقال: ليلة غطشاء، وليل أغطشى وفلاة غطشى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى:
ويهماء بالليل غطشى الفلا ة يؤنسني صوت فيادها
وقال الأعشى أيضا:
عقرت لهم موهنا ناقتي وغامرهم مدلهم غطش
يعني بغامرهم ليلهم، لأنه غمرهم بسواده. وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضاف إلى السماء، ويقال: نجوم الليل، لأن ظهورها بالليل.
قوله تعالى: "وأخرج ضحاها" أي أبرز نهارها وضوءها وشمسها. وأضاف الضحا إلى السماء كما أضاف إليها الليل؛ لأن فيها سبب الظلام والضياء وهو غروب الشمس وطلوعها. "والأرض بعد ذلك دحاها" أي بسطها. وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء. وقد مضى القول فيه في أول "البقرة" عند قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء" [البقرة: 29] مستوفى.
والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحوا: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي؛ لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي
وأنشد المبرد:
دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا
وقيل: دحاها سواها؛ ومنه قول زيد بن عمرو:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
وعن ابن عباس: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، قبل أن يخلق الدنيا بألف عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وذكر بعض أهل العلم أن "بعد" في موضع "مع" كأنه قال: والأرض مع ذلك دحاها؛ كما قال تعالى: "عتل بعد ذلك زنيم" [القلم: 13]. ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سيء الخلق، قال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب. وقيل: بعد: بمعنى قبل؛ كقوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" [الأنبياء: 105] أي من قبل الفرقان، قال أبو خراش الهذلي:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقيل: "دحاها": حرثها وشقها. قال ابن زيد. وقيل: دحاها مهدها للأقوات. والمعنى متقارب وقراءة العامة "والأرض" بالنصب، أي دحا الأرض. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون "والأرض" بالرفع، على الابتداء؛ لرجوع الهاء. ويقال: دحا يدحو دحوا ودحى يدحى دحيا؛ كقولهم: طغى يطغي ويطغو ، وطغي يطغي، ومحا يمحو ويمحي، ولحى العود يلحى ويلحو، فمن قال: يدحو قال دحوت ومن قال يدحى قال دحيت "أخرج منها" أي أخرج من الأرض "ماءها" أي العيون المتفجرة بالماء. "ومرعاها" أي النبات الذي يرعى. وقال القتبي: دل بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء. "والجبال أرساها" قراءة العامة "والجبال" بالنصب، أي وأرسى الجبال
"أرساها" يعني: أثبتها فيها أوتادا لها. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم "والجبال" بالرفع على الابتداء. ويقال: هلا أدخل حرف العطف على "أخرج" فيقال:" إنه حال بإضمار قد؛ كقوله تعالى: "حصرت صدورهم" [النساء: 90]. "متاعا لكم" أي منفعة لكم "ولأنعامكم" من الإبل والبقر والغنم. و"متاعا" نصب على المصدر من غير اللفظ؛ لأن معنى "أخرج منها ماءها ومرعاها" أمتع بذلك. وقيل: نصب بإسقاط حرف الصفة تقديره لتتمتعوا به متاعا.
الآية: 34 - 36 {فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى}
قوله تعالى: "فإذا جاءت الطامة الكبرى" أي الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية، التي يكون معها البعث، قال ابن عباس في رواية الضحاك عنه، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضا والضحاك: أنها القيامة؛ سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء، فتعم ما سواها لعظم هولها؛ أي تقلبه. وفي أمثالهم:
جرى الوادي فطمَّ على القريِّ
المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميما إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله. غيره: هي مأخوذة من طم السيل الركية أي دفنها، والطم: الدفن والعلو. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: الطامة الكبري حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. وهو معنى قول مجاهد: وقال سفيان: هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار إلى الزبانية. أي الداهية التي طمت وعظمت؛ قال:
إن بعض الحب يعمي ويصم وكذاك البغض أدهى وأطم
"يوم يتذكر الإنسان ما سعى" أي ما عمل من خير أو شر. "وبرزت الجحيم" أي ظهرت. "لمن يرى" قال ابن عباس: يكشف عنها فيراها تتلظى كل ذي بصر. وقيل: المراد الكافر لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب. وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النعمة ويصلي الكافر بالنار. وجواب "فإذا جاءت الطامة" محذوف أي إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة. وقرأ مالك بن دينار: "وبرزت الجحيم". عكرمة: وغيره: "لمن ترى" بالتاء، أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. والخطاب له عليه السلام، والمراد به الناس.
الآية: 37 - 41 {فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى}
قوله تعالى: "فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا" أي تجاوز الحد في العصيان. قيل: نزلت في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر أثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وروى عن يحيى بن أبي كثير قال: من اتخذ من طعام واحد ثلاثة ألوان فقد طغى. وروى جويبر عن الضحاك قال: قال حذيفة: أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون. ويروى أنه وجد في الكتب: إن الله جل ثناؤه قال "لا يؤثر عبد لي دنياه على آخرته، إلا بثثت عليه همومه وضيعته، ثم لا أبالي في أيها هلك". "فإن الجحيم هي المأوى" أي مأواه. والألف واللام بدل من الهاء.
قوله تعالى: "وأما من خاف مقام ربه" أي حذر مقامه بين يدي ربه. وقال الربيع: مقامه يوم الحساب. وكان قتادة يقول: إن لله عز وجل مقاما قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع. نظيره: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" [الرحمن : 46]. "ونهى النفس عن الهوى" أي زجرها عن المعاصي والمحارم. وقال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة؛ لقوله عز وجل: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى" قال عبدالله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان. "فإن الجنة هي المأوى" أي المنزل. والآيتان نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه عامر بن عمير؛ فروى الضحاك عن ابن عباس قال: أما من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه؛ فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه. "وأما من خاف مقام ربه" فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه. وهي السهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطا في دمه قال: (عند الله أحتسبك) وقال لأصحابه: (لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب). وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر. وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية "وأما من خاف مقام ربه" في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأل وأكله، فقال له غلامه: لم لا تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام. فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه. فتقايأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: "وأما من خاف مقام ربه". وقال الكلبي: نزلت في من هم بمعصية وقدر عليها في خلوة ثم تركها من خوف الله. ونحوه عن ابن عباس. يعني من خاف عند المعصية مقامه بين يدي الله، فانتهى عنها. والله أعلم.
الآية: 42 - 46 {يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاه}
قوله تعالى: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" قاله ابن عباس: سأل مشركو مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تكون الساعة استهزاء، فأنزل الله عز وجل الآية. وقال عروة بن الزبير في قوله تعالى: "فيم أنت من ذكراها"؟ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة، حتى نزلت هذه الآية "إلى ربك منتهاها". ومعنى "مرساها" أي قيامها. قال الفراء: رسوها قيامها كرسو السفينة. وقال أبو عبيدة: أي منتهاها، ومرسى السفينة حيث، تنتهي. وهو قول ابن عباس. الربيع بن أنس: متى زمانها. والمعنى متقارب. وقد مضى في "الأعراف" بيان ذلك. وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة إلا بغضبة يغضبها ربك). "فيم أنت من ذكراها" أي في أي شيء أن يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ وليس لك السؤال عنها. وهذا معنى ما رواه الزهري عن عروة بن الزبير قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى نزلت: "فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها" أي منتهى علمها؛ فكأنه عليه السلام لما أكثروا عليه سأل الله أن يعرفه ذلك، فقيل له: لا تسأل، فلست في شيء من ذلك. ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له؛ أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك بيانه، ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس. والذكرى بمعنى الذكر.
قوله تعالى: "إلى ربك منتهاها" أي منتهى علمها، فلا يوجد عند غيره علم الساعة؛ وهو كقوله تعالى: "قل إنما علمها عند ربي" [الأعراف : 187] وقوله تعالى: "إن الله عنده علم الساعة" [لقمان: 34]. "إنما أنت منذر من يخشاها" أي مخوف؛ وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف؛ وهو كقوله تعالى: "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب" [يس: 11].
وقراءة العامة "منذر" بالإضافة غير منون؛ طلب التخفيف، وإلا فأصله التنوين؛ لأنه للمستقبل وإنما لا ينون في الماضي. قال الفراء: يجوز التنوين وتركه؛ كقوله تعالى: "بالغ أمره" [الطلاق: 3]، و"بالغ أمره" و"موهن كيد الكافرين" [الأنفال: 18] و"موهن كيد الكافرين" والتنوين هو الأصل، وبه قرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن محيصن وحميد وعياش عن أبي عمرو "منذر" منونا، وتكون في موضع نصب، والمعنى نصب، إنما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة. وقال أبو علي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس؛ لأنه قد فعل الإنذار، الآية رد على من قال: أحوال الآخرة غير محسوسة، وإنما هي راحة الروح أو تألمها من غير حس. "كأنهم يوم يرونها" يعني الكفار يرون الساعة "لم يلبثوا" أي في دنياهم، "إلا عشية" أي قدر عشية "أو ضحاها" أي أو قدر الضحا الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: "لم يلبثوا إلا ساعة من نهار" [الأحقاف: 35]. وروى الضحاك عن ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا. وقيل: "لم يلبثوا" في قبورهم "إلا عشية أو ضحاها"، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول. وقال الفراء: يقول القائل: وهل للعشية ضحا؟ وإنما الضحا لصدر النهار، ولكن أضيف الضحا إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب؛ يقولون: آتيك الغداة أوعشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار؛ قال: وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها جردا تعادي طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد: عشية الهلال، أو سرار العشية، فهو أشد من آتيك الغداة أو عشيها.