تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 584 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 584

583

16- "إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى" الظرف متعلق بحديث لا بأتاك لاختلاف وقتيهما، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية، وقد تقدم الاختلاف بين القراء في طوى في سورة طه. والواد المقدس: المبارك المطهر. قال الفراء طوى واد بين المدينة ومصر. قال: وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر. قال: والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيراً له. وقيل طوى معناه يا رجل بالعبرانية، فكأنه قيل يا رجل اذهب، وقيل المعنى: إن الوادي المقدس بورك فيه مرتين، والأول أولى. وقد مضى تحقيق القول فيه.
17- "اذهب إلى فرعون إنه طغى" قيل هو على تقدير القول، وقيل هو تفسير للنداء: أي ناداه نداء هو قوله اذهب. وقيل هو على حذف أن المفسرة، ويؤيده قراءة ابن مسعود أن اذهب، لأن في النداء معنى القول، وجملة "إنه طغى" تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال: أي جاوز الحد في العصيان والتكبر والكفر بالله.
18- "فقل" له "هل لك إلى أن تزكى" أي قوله بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك، وأصله تتزكى فحذفت إحدى التاءين. وقرأ الجمهور "تزكى" بالتخفيف. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي. قال أبو عمرو بن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكياً مؤمناً ومعنى قراءة التشديد الصدقة، وفي الكلام مبتدأ مقدر يتعلق به إلى، والتقدير: هل لك رغبة أو هل لك توجه أو هل لك سبيل إلى التزكي، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير؟ يريدون هل لك رغبة في الخير، ومن هذا قول الشاعر: فهل لكم فيها إلي فانني بصير بما أعيا النطاسي جذيما
19- "وأهديك إلى ربك فتخشى" أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية، لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد.
20- "فأراه الآية الكبرى" هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف، يعني فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال: "إن كنت جئت بآية فأت بها" فعند ذلك أراه الآية الكبرى. واختلف في الآية الكبرى ما هي؟ فقيل العصا، وقيل يده، وقيل فلق البحر، وقيل هي جميع ما جاء به من الآيات التسع.
21- "فكذب وعصى" أي فلما أراه الآية الكبرى كذب بموسى وبما جاء به وعصى الله عز وجل فلم يطعه.
22- "ثم أدبر" أي تولى وأعرض عن الإيمان " يسعى " أي يعمل بالفساد في الأرض ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى، وقيل أدبر هارباً من الحية يسعى خوفاً منها. وقال الرازي: معنى "أدبر يسعى" أقبل يسعى، كما يقال أقبل يفعل كذا: أي أنشأ يفعل كذا، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
23- "فحشر" أي فجمع جنوده للقتال والمحاربة، أو جمع السحرة للمعارضة، أو جمع الناس للحضور ليشاهدوا ما يقع، أو جمعهم ليمنعوه من الحية " فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى " أي قال لهم بصوت عل، أو أمر من ينادي بهذا القول.
ومعنى 24- "أنا ربكم الأعلى" أنه لا رب فوقي. قال عطاء: كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها وقال: أنارب أصنامكم وقيل أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم. والأول أولى لقوله في آية أخرى: "ما علمت لكم من إله غيري".
25- "فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" النكال نعت مصدر محذوف: أي أخذه أخذ نكال، أو هو مصدر لفعل محذوف: أي أخذه الله فنكله نكال الآخرة والأولى، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق. وقال مجاهد: عذاب أول عمره وآخره. وقال قتادة: الآخرة قوله: " أنا ربكم الأعلى " والأولى تكذيبه لموسى. وقيل الآخرة قوله: "أنا ربكم الأعلى" والأول قوله: "ما علمت لكم من إله غيري" وكان بين الكلمتين أربعون سنة، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له: أي أخذه الله لأجل نكال، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض: أي بنكال. ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد، قال: لأن معنى أخذه الله: نكل الله به، فأخرج من معناه لا من لفظه. وقال الفراء: أي أخذه الله أخذاً نكالاً: أي للنكال والنكال اسم لما جعل نكالاً للغير: أي عقوبة له، يقال نكل فلان بفلان: إذا عاقبه. وأصل الكلمة من الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد.
26- "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى" أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به عبرة عظيمة لمن شأنه أن يخشى الله ويتقيه، ويخاف عقوبته ويحاذر غضبه. وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي بن أبي طالب في قوله: "والنازعات غرقاً" قال: هي الملائكة تنزع روح الكفار "والناشطات نشطاً" قال: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها "والسابحات سبحا" هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض "فالسابقات سبقاً" هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله "فالمدبرات أمراً" هي الملائكة تدبر أم العباد من السنة إلى السنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "والنازعات غرقاً" قال: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار. وأخرج الحاكم وصححه عنه " والنازعات غرقا * والناشطات نشطا " قال: الموت. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود "والنازعات غرقاً" قال: الملائكة الذي يلون أنفس الكفار إلى قوله: "والسابحات سبحا" قال: الملائكة. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسله: "لا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار، قال الله: "والناشطات نشطاً" أتدري ما هو؟ قلت: يا نبي الله ما هو؟ قال: كلاب في النار تنشط اللحم والعظم". وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن ابن الكواء سأله عن "المدبرات أمراً" قال: هي الملائكة يدبرون ذكر الرحمن وأمره. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت عن ابن عباس قال: "المدبرات أمراً" ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم، فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمن على الدعاء، ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلى عليه ويدلى في حفرته. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "يوم ترجف الراجفة" قال: النفخة الأولى "تتبعها الرادفة" قال: النفخة الثانية "قلوب يومئذ واجفة" قال: خائفة " أإنا لمردودون في الحافرة " قال: الحياة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي بن كعب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترجف الأرض رجفاً وتزلزل بأهلها وهي التي يقول الله " يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة " يقول: مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائه" وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس "قلوب يومئذ واجفة" قال: وجلة متحركة. وأخرج عبد بن حميد عنه " أإنا لمردودون في الحافرة " قال: خلقاً جديداً. وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري في الوقف والابتداء وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله: "فإذا هم بالساهرة" فقال: الساهرة وجه الأرض، وفي لفظ قال: الأرض كلها ساهرة، ألا ترى قول الشاعر: صيد بحر وصيد ساهرة وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً "هل لك إلى أن تزكى" قال: هل لك أن تقول. لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً "فأخذه الله نكال الآخرة" قال: قوله: "أنا ربكم الأعلى" والأولى قال: قوله: "ما علمت لكم من إله غيري". وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: كان بين كلمتيه أربعون سنة.
قوله: 27- "أأنتم أشد خلقاً أم السماء" أي أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء، والخطاب لكفار مكة، والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت، لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بين للناظرين كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة؟ ومثل هذا قوله: سبحانه: "لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس" وقوله: "أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم" ثم بين سبحانه كيفية خلق السماء فقال: " بناها * رفع سمكها فسواها " أي جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض، ورفع سمكها: أي أعلاه في الهواء.
فقوله: 28- "رفع سمكها" بيان للبناء، يقال سمكت الشيء: أي رفعته في الهواء وسمك الشيء سموكا: ارتفع. قال الفراء: كل شيء حمل شيئاً من البناء أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك وسنام سامك: أي عال. والسموكات: السموات: ومنه قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول قال البغوي: رفع سمكها: أي سقفها. قال الكسائي والفراء والزجاج: تم الكلام عند قوله: "أم السماء بناها" لأنه من صلة السماء، والتقدير: أم السماء التي بناها، فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز. ومعنى "فسواها" فجعلها مستوية الخلق معدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور ولا شقوق.
29- "وأغطش ليلها" الغطش الظلمة: أي جعله مظلماً، يقال غطش الليل وأغطشه الله، كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش وامرأة غطشى لا يهتديان. قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى لا يهتدي فيها، والتغاطش التعامي. قال الأعشى: ودهماء بالليل غطشي الفلا ة يؤنسني صوت قيادها وقوله: وغامرهم مدلهم غطش يعني غمرهم سواد الليل، وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس والشمس مضافاً إلى السماء "وأخرج ضحاها" أي أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس، وعبر عن النهار بالضحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء لأن يظهر بظهور الشمس، وهي منسوبة إلى السماء.
30- "والأرض بعد ذلك دحاها" أي بعد خلق السماء، ومعنى دحاها بسطها، وهذا يدل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء، ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله: "ثم استوى إلى السماء" بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولا غير مدحورة ثم خلق السماء ثم دحاها الأرض، وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدمنا أيضاً بحثاً في هذا في أول سورة البقرة عند قوله: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً" وذكر بعض أهل العلم أن بعد بمعنى مع كما في قوله: "عتل بعد ذلك زنيم"، وقيل بعد بمعنى قبل كقوله: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" أي من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى، وهو قول ابن عباس وغير واحد، واختاره ابن جرير. يقال دحوت الشيء أدحوه: إذا بسطته، ويقال لعش النعامة أدحى لأنه مبسوط على الأرض، وأنشد المبرد: دحــاهــا فــلما رآهــا اســتـــوت عــلى المـــاء أرسى عليهــــا الجــبــالا وقال أمية بن أبي الصلت: وبــث الخــلق فيهـــا إذ دحــاهــا فــــهـــم قـــطانها حــــتى الــتـنــادي وقال زيد بن عمرو بن نفيل: وأســلمت وجــهــي لمــن أسلمــت لـــه الأرض تحمـــل صخـــــراً ثقــــالاً دحـــــاهــــا فــلما استــوت شدها بــــأيـــد وأرسى عـــليــهــــا الجـــبالا قرأ الجمهور بنصب "الأرض" على الاشتغال، وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السماك وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء.
31- "أخرج منها ماءها ومرعاها" أي فجر من الأرض الأنهار والبحار والعيون وأخرج منها مرعاها: أي النبات الذي يرعى، ومرعاها مصدر ميمي: أي رعيها، وهو في الأصل موضع الرعي، والجملة إما بيان وتفسير لدحاها، لأن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب. وإما في محل نصب على الحال.
32- "والجبال أرساها" أي أثبتها في الأرض وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقر وأن لا تميد بأهلها. قرأ الجمهور بنصب "الجبال" على الاشتغال. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون وأبو حيوة وأبو السمكا وعمرو بن عبيد ونصر بن عاصم بالرفع على الابتداء، وقيل ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء والمرعى على إرسال الجبال مع تقدم الإرساء عليه للاهتمام بأمر المأكل والمشرب.
33- "متاعاً لكم ولأنعامكم" أي منفعة لكم ولأنعامكم من البقر والإبل والغنم، وانتصاب متاعاً على المصدرية: أي متعكم بذلك متاعاً، أو هو مصدر من غير لفظه، لأن قوله: "أخرج منها ماءها ومرعاها" بمعنى متع بذلك، أو على أنه مفعول له: أي فعل ذلك لأجل التمتيع، وإنما قال: "لكم ولأنعامكم" لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم، والمرعى يعم ما يأكله الناس والدواب.
34- "فإذا جاءت الطامة الكبرى" أي الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات. قال الحسن وغيره: وهي النفخة الثانية. وقال الضحاك وغيره: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء لعظم هولها. قال المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم: طم الفرس طميماً: إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء: إذا ملأ النهر كله. وقال غيره: هو من طم السيل الركية: أي دفنها، والطم الدفن. قال مجاهد وغيره: الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجواب إذا قيل هو قوله: "فأما من طغى" وقيل محذوف: أي فإن الأمر كذلك، أو عاينوا، أو علمو أو أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة.
وقال أبو البقاء: العامل فيها جوابها، وهو معنى 35- "يوم يتذكر الإنسان" فإنه منصوب بفعل مضمر: أي أعني يوم يتذكر، أو يوم يتذكر يكون كيت وكيت. وقيل إن الظرف بدل من إذا، وقيل هو بدل من الطامة الكبرى، ومعنى تذكر الإنسان ما سعى: أنه يتذكر ما عمله من خير أو شر، لأنه يشاهده مدوناً في صحائف عمله، وما مصدرية، أو موصولة.
36- "وبرزت الجحيم لمن يرى" معطوف على جاءت، ومعنى برزت: أظهرت إظهاراً لا يخفى على أحد. قال مقاتل: يكشفعنها الغطاء فينظر إليها الخلق، وقيل "لمن يرى" من الكفار، لا من المؤمنين، والظاهر أن تبرز لكل راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غمهوحسرى إلى حسرته. قرأ الجمهور "لمن يرى" بالتحتية، وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة وزيد بن علي بالفوقية: أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد. وقرأ ابن مسعود لمن رأى على صيغة الفعل الماضي.
37- "فأما من طغى" أي جاوز الحد في الكفر والمعاصي.
38- "وآثر الحياة الدنيا" أي قدمها عن الآخرة ولم يستعد لها ولا عمل عملها.
39- "فإن الجحيم هي المأوى" أي مأواه، والألف واللام عوض عن المضاف إليه، والمعنى: أنها منزله الذي ينزله ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها.
ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال: 40- "وأما من خاف مقام ربه" أي حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة. قال الربيع: مقام يوم الحساب. قال قتادة: يقول إن الله عز وجل مقاماً قد خافه المؤمنون. وقال مجاهد: هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل عند مواقعة الذنب فيقلع عنه، نظيره قوله: "لمن خاف مقام ربه جنتان" والأول أولى "ونهى النفس عن الهوى" أي زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها. قال مقاتل: [هو] الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها.
41- "فإن الجنة هي المأوى" أي المنزل الذي ينزله والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها.
42- "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" أي متى وقوعها وقيامها. قال الفراء: أي منتهى قيامها كرسو السفينة. قال أبو عبيدة: ومرسى السفينة حين تنتهي، والمعنى: يسألونك عن الساعة متى يقيمها [الله]، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف.
43- "فيم أنت من ذكراها" أي في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها، والمعنى: لست في شيء من علمها وذكراها إنما يعلمها الله سبحانه، وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها: أي فيم أنت من ذلك حتى يسألونك عنه ولست تعلمه.
44- " إلى ربك منتهاها " أي منتهى علمها فلا يوجد علمها عند غيره، وهذ كقوله: "قل إنما علمها عند ربي" وقوله: "إن الله عنده علم الساعة" فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها.
45- "إنما أنت منذر من يخشاها" أي مخوف لمن يخشى قيام الساعة، وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر الله بعلمه، وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر الله بعلمه، وخص الإنذار بمن يخشى، لأنهم المنتفعون بالإنذار وإن كان منذراً لكل مكلف من مسلم وكافر. قرأ الجمهور بإضافة "منذر" إلى ما بعده. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن وشيبة والأعرج وحميد بالتنوين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. قال الفراء: والتنوين وتركه في منذر صواب كقوله: "بالغ أمره" و" موهن كيد الكافرين ". قال أبو علي الفارسي: يجوز أن تكون الإضافة للماضي، نحو ضارب زيد أمس.
46- "كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها" أي إلا قدر آخر نهار أو أوله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال: "لم يلبثوا إلا ساعة من نهار" وقيل لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها. قال الفراء والزجاج: المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار. ومنه قول الشاعر: نـحـن صبــحنــا عـــامــراً في دارهـــا جــردا تعادي طرفي نهارها عشية الهلال أو سرارها والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "رفع سمكها" قال: بناها "وأغطش ليلها" قال: أظلم ليلها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه "وأغطش ليلها" قال: وأظلم ليلها "وأخرج ضحاها" قال: أخرج نهارها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "والأرض بعد ذلك دحاها" قال: مع ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً أن رجلاً قال له: آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى، قال: إنما أتيت من قبل رأيك، قال: اقرأ " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " حتى بلغ "ثم استوى إلى السماء" وقوله: "والأرض بعد ذلك دحاها" قال: خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله: "دحاها" بسطها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: "دحاها" أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام وما بينهما في يومين. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الطامة من أسماء يوم القيامة. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فنزلت "فيم أنت من ذكراها"". وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: "ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله " فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها " فانتهى فلم يسأل عنها". وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت " فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها " فكف عنها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. قال السيوطي بسند ضعيف: أي مشركي مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: متى الساعة استهزاءً منهم؟ فأنزل الله "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" يعني مجيئها "فيم أنت من ذكراها" يعني ما أنت من علمها يا محمد "إلى ربك منتهاها" يعني منتهى علمها. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: "كانت الأعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول: إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم".