تفسير الطبري تفسير الصفحة 584 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 584
585
583
 الآية : 15-18
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ نَادَاهُ رَبّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ * فَقُلْ هَل لّكَ إِلَىَ أَن تَزَكّىَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هل أتاك يا محمد حديث موسى بن عمران, وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد المقدّس, يعني بالمقدّس: المطهّر المبارك. وقد ذكرنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع, وكذلك بيّنا معنى قوله: طُوًى وما قال فيه أهل التأويل, غير أنا نذكر بعض ذلك ها هنا.
وقد اختلف أهل التأويل في قوله: طُوًى فقال بعضهم: هو اسم الوادي. ذكر من قال ذلك:
28022ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: طُوًى اسم الوادي.
28023ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إنّكَ بالْوَادِ المُقَدّسِ طُوًى قال: اسم المقدّس طُوًى.
28024ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة إذْ نادَاهُ رَبّهُ بالْوَادِ المُقَدّسِ طُوًى كنا نحدّث أنه قدّس مرّتين, واسم الوادي طُوًى.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: طَأِ الأرض حافيا. ذكر بعض من قال ذلك:
28025ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد إنّكَ بالْوَاد المُقَدّسِ طُوًى قال: طَأِ الأرض بقدمك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك أن الوادي قُدّس طُوًى: أي مرّتين, وقد بيّنا ذلك كله ووجوهه, فيما مضى بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. وقرأ ذلك الحسن بكسر الطاء, وقال: بُثّتْ فيه البركة والتقديس مرّتين.
28026ـ حدثنا بذلك أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا هشيم, عن عوف, عن الحسن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «طُوَى» بالضمّ ولم يُجْرُوه وقرأ ذلك بعض أهل الشأم والكوفة: طُوًى بضمّ الطاء والتنوين.
وقوله: اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى يقول تعالى ذكره: نادى موسى ربّه: أنِ اذهب إلى فرعون, فحذفت «أن», إذ كان النداء قولاً, فكأنه قيل لموسى قال ربه: اذهب إلى فرعون. وقوله: إنّهُ طَغَى يقول: عتا وتجاوز حدّه في العدوان, والتكبر على ربه.
وقوله: فَقُلْ هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى يقول: فقل له: هل لك إلى أن تتطهّر من دنس الكفر, وتؤمَنَ بربك؟ كما:
28027ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى قال: إلى أن تسلم. قال: والتزكّي في القرآن كله: الإسلام وقرأ قول الله وَذَلَكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكّى قال: من أسلم, وقرأ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى قال: يسلم, وقرأ: وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزّكّى أن لا يسلم.
28028ـ حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحَكَم, قال: حدثنا حفص بن عُمَرَ العَدَنِيّ, عن الحكيم بن أبان, عن عكرِمة, قول موسى لفرعون: هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزّكّى هل لك إلى أن تقول لا إله إلا الله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: تَزَكّى فقرأته عامة قرّاء المدينة: «تزّكّى» بتشديد الزاي, وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة: إلى أنْ تَزَكّى بتخفيف الزاي. وكان أبو عمرو يقول, فيما ذُكر عنه: «تَزّكّى» بتشديد الزاي, بمعنى: تتصدّق بالزكاة, فتقول: تتزكى, ثم تدغم وموسى لم يدع فرعون إلى أن يتصدّق وهو كافر, إنما دعاه إلى الإسلام, فقال: تزكى: أي تكون زاكيا مؤمنا, والتخفيف في الزاي هو أفصح القراءتين في العربية.
الآية : 19-24
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَأَهْدِيَكَ إِلَىَ رَبّكَ فَتَخْشَىَ * فَأَرَاهُ الاَيَةَ الْكُبْرَىَ * فَكَذّبَ وَعَصَىَ * ثُمّ أَدْبَرَ يَسْعَىَ * فَحَشَرَ فَنَادَىَ * فَقَالَ أَنَاْ رَبّكُمُ الأعْلَىَ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه موسى: قل لفرعون: هل لك إلى أن أرشدك إلى ما يرضي ربك عنك, وذلك الدين القيّم فتخشى يقول: فتخشى عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه, واجتناب ما نهاك عنه من معاصيه.
وقوله: فأَرَاهُ الاَيَةَ الكُبْرَى يقول تعالى ذكره: فأرى موسى فرعونَ الاَية الكبرى, يعني الدلالة الكبرى على أنه لله رسول أرسله إليه, فكانت تلك الاَية يد موسى إذ أخرجها بيضاء للناظرين, وعصاه إذا تحوّلت ثعبانا مبينا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28029ـ حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, عن محمد بن سيف أبي رجاء, هكذا هو في كتابي, وأظنه عن نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, قال: سمعت الحسن يقول في هذه الاَية: فأَرَاهُ الاَيَةَ الكُبْرَى قال: يده وعصاه.
28030ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد فأَرَاهُ الاَيَةَ الكُبْرَى قال: عصاه ويده.
28031ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فأَرَاهُ الاَيَةَ الكُبْرَى قال: رأى يد موسى وعصاه, وهما آيتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة الاَيَةَ الكُبْرَى قال: عصاه ويده.
28032ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: فأَرَاهُ الاَيَةَ الكُبْرَى قال: العصا والحية.
وقوله: فَكَذّبَ وَعَصى يقول: فكذّب فرعون موسى فيما أتاه من الاَيات المعجزة, وعصاه فيما أمره به من طاعته ربه, وخَشيته إياه.
وقوله: ثُمّ أدْبَرَ يَسْعَى يقول: ثم ولى مُعرضا عما دعاه إليه موسى من طاعته ربه, وخشيته وتوحيده يسعى يقول: يعمل في معصية الله, وفيما يُسخطه عليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28033ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد. قوله: ثُمّ أدْبَرَ يَسْعَى قال: يعمل بالفساد.
وقوله: فَحَشَر فَنادَى يقول: فجمع قومه وأتباعه. فنادى فيهم فَقالَ لهم: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى الذي كلّ ربّ دوني, وكذَبَ الأحمقُ. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28034ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فَحَشَر فَنادَى قال: صرخ وحشر قومه, فنادى فيهم, فلما اجتمعوا قال: أنا ربكم الأعلى, فأخذه الله نَكالَ الاَخرةِ والأولى.
الآية : 25-28
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الاَخِرَةِ وَالاُوْلَىَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىَ * أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا }.
يعني تعالى ذكره بقوله: فأخَذَهُ اللّهُ فعاقبه الله نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى يقول عُقوبة الاَخرة من كلمتيه, وهي قوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى, والأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28035ـ حدثنا أبو كريب, قال: سمعت أبا بكر, وسُئل عن هذا, فقال: كان بينهما أربعون سنة, بين قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيِري, وقوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى, قال: هما كلمتاه, فأخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قيل له: من ذَكَرَه؟ قال: أبو حُصَين, فقيل له: عن أبي الضّحَى, عن ابن عباس؟ قال: نعم.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فأخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: أما الأولى فحين قال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِن إلَهٍ غَيرِي, وأما الاَخرة فحين قال: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى.
28036ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا محمد بن أبي الوضّاح, عن عبد الكريم الجَزَريّ, عن مجاهد, في قوله: فأخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: هو قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي, وقوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى, وكان بينهما أربعون سنة.
28037ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو عَوانة, عن إسماعيل الأسديّ, عن الشعبيّ, بمثله.
28038ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن زكريا, عن عامر نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: هما كلمتاه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيِري وأنا رَبّكُمُ الأعْلَى.
حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى: وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى: فذلك قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيري, والاَخرة في قوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثَوْر, عن معمر, قال: أخبرني من سمع مجاهدا يقول: كان بين قول فرعون: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيرِي, وبين قوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى أربعون سنة.
28039ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: نَكالَ الاَخِرَةِ والأولى أما الأولى فحين قال فرعون: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيرِي, وأما الاَخرة فحين قال: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى, فأخذه الله بكلمتيه كلتيهما, فأغرقه في اليم.
28040ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: فأخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: اختلفوا فيها, فمنهم من قال: نكال الاَخرة من كلمتيه, والأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي, وقوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى.
وقال آخرون: عذاب الدنيا, وعذاب الاَخرة, عجّل الله له الغرق, مع ما أعدّ له من العذاب في الاَخرة.
28041ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن الأعمش, عن خيثمة الجُعْفيّ, قال: كان بين كلمتي فرعون أربعون سنة, قوله: أنا رَبكُمُ الأعْلَى, وقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيرِي.
28042ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن ثُوير, عن مجاهد, قال: مكث فرعون في قومه بعدما قال: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى أربعين سنة.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك: فأخذه الله نكال الدنيا والاَخرة. ذكر من قال ذلك:
28043ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا هَوْذَة, قال: حدثنا عوف, عن الحسن, في قوله: فأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: الدنيا والاَخرة.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن فأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: عقوبة الدنيا والاَخرة, وهو قول قتادة.
وقال آخرون: الأولى عصيانه ربه وكفره به, والاَخرة قوله: أنا رَبّكُمُ الأعْلَى. ذكر من قال ذلك:
28044ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن إسماعيل بن سميع, عن أبي رَزِين فأخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: الأولى تكذيبه وعصيانه, والاَخرة قوله: أنّا رَبّكُمُ الأعْلَى, ثم قرأ: فَكَذّبَ وَعَصَى ثُمّ أدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنادَى فَقالَ أنا رَبّكُمُ الأعْلَى, فهي الكلمة الاَخرة.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك أنه أخذه بأوّل عمله وآخره. ذكر من قال ذلك:
28045ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد فأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: أوّل عمله وآخره.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد فأَخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: أول أعماله وآخرها.
28046ـ حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور. عن معمر, عن الكلبيّ: أخَذَهُ اللّهُ نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: نكال الاَخرة من المعصية والأولى.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, قوله: نَكالَ الاَخِرَةِ والأُولى قال: عمله للاَخرة والأولى.
وقوله: إنّ فِي ذلكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى يقول تعالى ذكره: إن في العقوبة التي عاقب الله بها فرعون في عاجل الدنيا, وفي أخذه إياه, نكالَ الاَخرة والأولى: عظة ومعتبرا لمن يخاف الله. ويخشى عقابه, وأخرج نكالَ الاَخرة مصدرا من قوله فأَخَذَهُ اللّهُ لأن قوله: فأَخَذَهُ اللّهُ نَكّل به, فجعل نَكالَ الاَخِرَةِ مصدرا من معناه, لا من لفظه.
وقوله: أأنْتُمْ أشَدّ خَلْقا أمِ السّماءُ بَناها يقول تعالى ذكره للمكذّبين بالبعث من قريش, القائلين أئِذَا كُنّا عِظاما نَخِرَةً قالُوا تِلكَ إذًا كَرّةٌ خاسِرَةٌ: أأنتم أيها الناس أشدّ خلقا, أم السماء بناها ربكم؟ فإن من بنى السماء فرفعها سقفا, هَيّن عليه خلقكم وخلق أمثالكم, وإحياؤكم بعد مماتكم. وليس خلقكم بعد مماتكم بأشدّ من خلق السماء. وعُني بقوله: بَناها: رَفَعها, فجعلها للأرض سقفا.
وقوله: رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها يقول تعالى ذكره: فسوّى السماء, فلا شيء أرفع من شيء, ولا شيء أخفض من شيء, ولكن جميعها مستوي الارتفاع والامتداد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28047ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها يقول: رفع بناءها فسوّاها.
28048ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها قال: رفع بناءها بغير عمد.
28049ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: رَفَعَ سَمْكَها يقول: بُنيانها.
الآية : 29-32
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا }.
وقوله: وأغْطَشَ لَيْلَها يقول تعالى ذكره: وأظلم ليل السماء, فأضاف الليل إلى المساء, لأن الليل غروب الشمس, وغروبها وطلوعها فيها, فأضيف إليها لَمّا كان فيها, كما قيل نجوم الليل, إذ كان فيه الطلوع والغروب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28050ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وأغْطَش لَيْلَها يقول: أظلم ليلها.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس وأغْطَشَ لَيْلَها يقول: أظلم ليلها.
28051ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وأغْطَشَ لَيْلَها قال: أظلم.
28052ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأغْطَشَ لَيْلَها قال: أظلم ليلَها.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وأغْطَشَ لَيْلَها قال: أظلم.
28053ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأغْطَشَ لَيْلَها قال: الظّلمة.
28054ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وأغْطَشَ لَيْلَها يقول: أظلم ليلَها.
28055ـ حدثنا محمد بن سِنانٍ القزّاز, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم عن عكرِمة وأغْطَشَ لَيْلَها قال: أظلم ليلها.
وقوله: وأخْرَجَ ضُحاها يقول: وأخرج ضياءها, يعني: أبرز نهارها فأظهره, ونوّر ضحاها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28056ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وأخْرَجَ ضُحاها نوّرها.
28057ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وأخْرَجَ ضُحاها يقول: نوّر ضياءها.
28058ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وأخْرَجَ ضُحاها قال: نهارَها.
28059ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وأخْرَجَ ضُحاها قال: ضوء النهار.
وقوله: والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها: اختلف أهل التأويل في معنى قوله بَعْدَ ذلكَ فقال بعضهم: دُحِيت الأرض من بعد خَلق السماء. ذكر من قال ذلك:
28060ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خَلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء, ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات, ثم دحا الأرض بعد ذلك, فذلك قوله: والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها.
28061ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها أخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها والجِبالَ أرْساها يعني: أن الله خلق السموات والأرض, فلما فرغ من السموات قبل أن يخلق أقوات الأرض فيها, بعد خلق السماء, وأرسى الجبال, يعني بذلك دَحْوها الأقوات, ولم تكن تصلح أقوات الأرض ونباتها إلاّ بالليل والنهار, فذلك قوله: والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها ألم تسمع أنه قال: أخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرعَاها.
28062ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن حفص, عن عكرِمة, عن ابن عباس, قال: وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام, ثم دُحيت الأرض من تحت البيت.
28063ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن الأعمش, عن بكير بن الأخنس, عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو, قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة, ومنه دُحِيت الأرض.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والأرض مع ذلك دحاها, وقالوا: الأرض خُلِقت ودحيت قبل السماء, وذلك أن الله قال: هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ قالوا: فأخبر الله أنه سَوّى السموات بعد أن خلق ما في الأرض جميعا, قالوا فإذا كان ذلك كذلك, فلا وجه لقوله: والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها إلاّ ما ذكرنا, من أنه مع ذلك دحاها, قالوا: وذلك كقول الله عزّ وجلّ: عُتُلّ بَعْدَ ذَلكَ زنِيمٌ بمعنى: مع ذلك زنيم, وكما يقال للرجل: أنت أحمق, وأنت بعد هذا لئيم الحسب, بمعنى: مع هذا, وكما قال جلّ ثناؤه: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ: أي من قبل الذكر, واستشهد بقول الهُذَليّ:
حَمِدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إذْ نَجَاخِراشٌ وبَعْضُ الشّرّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
وزعموا أن خراشا نجا قبل عُرْوة.
28064ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خَصِيف, عن مجاهد والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها قال: مع ذلك دحاها.
28065ـ حدثني ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن مجاهد, أنه قال: «والأرْضَ عِنْدَ ذلكَ دَحاها».
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا عليّ بن معبد, قال: حدثنا محمد بن سلمة, عن خصيف, عن مجاهد والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها قال: مع ذلك دحاها.
28066ـ حدثني محمد بن خلف العَسْقلانيّ, قال: حدثنا روّاد بن الجرّاح, عن أبي حمزة, عن السديّ, في قوله: والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها قال: مع ذلك دحاها.
والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض, وقدّر فيها أقواتها, ولم يَدْحُها, ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات, ثم دحا الأرض بعد ذلك, فأخرج منها ماءها ومرعاها, وأرسى جبالها, أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل, لأنه جلّ ثناؤه قال: والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها, والمعروف من معنى «بَعْد» أنه خلاف معنى «قَبْل», وليس في دحو الله الأرض بعد تسويته السموات السبع, وإغطاشه ليلها, وإخراجه ضحاها, ما يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السموات لأن الدحو إنما هو البسط في كلام العرب, والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْوا, ودَحَيْتُ أَدْحِي دَحْيا لغتان ومنه قول أُمّية بن أبي الصلت:
دَارٌ دَحاها ثُمّ أعْمَرَنا بِهاوأقامَ بالأخْرَى التي هيَ أمْجَدُ
وقول أوس بن حجر في نعت غيث:
يَنْفِي الحصَى عن جديد الأرْضِ مُبْتَرِكٌكأنّه فاحِصٌ أو لاعبٌ داحِي
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28067ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها: أي بسطها.
28068ـ حدثني محمد بن خلف, قال: حدثنا رَوّاد, عن أبي حمزة, عن السديّ دَحاها قال: بسطها.
28069ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان: دحاها: بسطها.
وقال ابن زيد في ذلك ما:
28070ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: دَحاها قال: حرثها شقّها وقال: أخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها, وقرأ: ثُمّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقّا... حتى بلغ وَفاكِهَةً وأبّا, وقال حين شقّها أنبتَ هذا منها, وقرأ: والأرْضِ ذاتِ الصّدْعِ.
وقوله: أخْرَجَ مِنْها ماءَها يقول: فجّر فيها الأنهار. وَمَرْعاها يقول: أنبت نباتَها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
28071ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَمَرْعاها ما خلق الله فيها من النبات, وماءَها: ما فجّر فيها من الأنهار.
وقوله: والجِبالَ أرْساها يقول: والجبال أثبتها فيها, وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره, وهو فيها, وذلك أن معنى الكلام: والجبال أرساها فيها.
28072ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة والجِبالَ أرْساها: أي أثبتها لا تَمِيد بأهلها.
28073ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن أبي عبد الرحمن السّلَمِيّ, عن عليّ قال: لما خلق الله الأرض قَمَصَت وقالت: تَخْلُق عليّ آدمَ وذرّيته يُلقون عليّ نَتْنهم, ويعملون عليّ بالخطايا فأرساها الله, فمنها ما ترون, ومنها ما لا ترون, فكان أوّل قرار الأرض كلحم الجزور إذا نُخِر يختلج لحمها.

الآية : 33-36
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{مَتَاعاً لّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَآءَتِ الطّآمّةُ الْكُبْرَىَ * يَوْمَ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىَ }.
يعني تعالى ذكره بقوله: مَتاعا لَكُمْ ولأنْعامِكُمْ أنه خلق هذه الأشياء, وأخرج من الأرض ماءها ومرعاها, منفعة لنا, ومتاعا إلى حين.
وقوله: فإذَا جاءَتِ الطّامّةُ الكُبْرَى يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت التي تطمّ على كل هائلة من الأمور, فتغمر ما سواها بعظيم هولها, وقيل: إنها اسم من أسماء يوم القيامة. ذكر من قال ذلك:
28074ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: فإذَا جاءَتِ الطّامّةُ الكُبْرَى من أسماء يوم القيامة, عظمه الله وحذّره عباده.
28075ـ حدثني محمد بن عُمَارة, قال: حدثنا سهل بن عامر, قال: حدثنا مالك بن مِغْول, عن القاسم بن الوليد, في قوله: فإذَا جاءَتِ الطّامّةُ الْكُبْرَى قال: سيق أهل الجنة إلى الجنة, وأهل النار إلى النار.
وقوله: يَوْمَ يَتَذَكّرُ الإنْسانُ ما سَعَى يقول: إذا جاءت الطامّة يوم يتذكّر الإنسان ما عَمِل في الدنيا من خير وشرّ, وذلك سعيه وَبُرّزَتِ الجَحِيمُ يقول: وأُظْهِرت الجحيم, وهي نار الله لمن يراها. يقول: لأبصار الناظرين.
الآية : 37-41
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ }.
يقول تعالى ذكره: فأما من عتا على ربّه, وعصاه واستكبر عن عبادته.
28076ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: طَغَى قال: عصى.
قوله: وآثَرَ الْحَياةَ الدّنْيا يقول: وآثر متاع الحياة الدنيا على كرامة الاَخرة, وما أعدّ الله فيها لأوليائه, فعمل للدنيا, وسعى لها, وترك العمل للاَخرة فإنّ الجَحِيمَ هيَ المأْوَى يقول: فإن نار الله التي اسمها الجحيم, هي منزلُهُ ومَأْواه, ومصيُره الذي يصير إليه يوم القيامة.
وقوله: وأمّا مَنْ حافَ مَقامَ رَبّهِ ونَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى يقول: وأما من خاف مسألة الله إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه, فاتقاه, بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه ونَهَى النّفْسَ عَنِ الهَوَى يقول: ونهى نفسه عن هواها فيما يكرهه الله, ولا يرضاه منها, فزجرها عن ذلك, وخالف هواها إلى ما أمره به ربه فإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى يقول: فإن الجنة هي مأواه ومنزله يوم القيامة.
وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى قوله: ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ فيما مضى, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

الآية : 42-46
القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يسألك يا محمد هؤلاء المكذّبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتَى من قبورهم أيانَ مرساها, متى قيامها وظهورها؟ وكان الفرّاء يقول: إن قال قائل: إنما الإرساء للسفينة, والجبال الراسية وما أشبههنّ, فكيف وصَفَ الساعة بالإرساء؟ قلت: هي بمنزلة السفينة إذا كانت جارية فرست, ورسوّها: قيامها قال: وليس قيامها كقيام القائم, إنما هي كقولك: قد قام العدل, وقام الحقّ: أي ظهر وثبت.
قال أبو جعفر رحمه الله: يقول الله لنبيه: فِيمَ أنْتَ مِنْ ذِكْراها يقول: في أيّ شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن شأنها. وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثر ذكر الساعة, حتى نزلت هذه الاَية.
28077ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن الزهريّ, عن عُروة, عن عائشة, قالت: لم يزلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَسأل عن الساعة, حتى أنزل الله عزّ وجلّ: فِيمَ أنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إلى رَبّكَ مُنْتَهاها.
28078ـ حدثنا أبو كُرَيب, قال: حدثنا وكيع, عن إسماعيل, عن طارق بن شهاب, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزال يَذكر شأن الساعة حتى نزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها؟... إلى مَنْ يَخْشاها.
28079ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثني الحرث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: فيمَ أنْتَ مِنْ ذِكْراها قال: الساعة.
وقوله: إلى رَبّكَ مُنْتَهاها يقول: إلى ربك منتهى علمها, أي إليه ينتهي علم الساعة, لا يعلم وقت قيامها غيره.
وقوله: إنّمَا أنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها يقول تعالى ذكره لمحمد: إنما أنت رسول مبعوث بإنذار الساعة من يخاف عقاب الله فيها على إجرامه, ولم تكلّف علمَ وقت قيامها, يقول: فدع ما لم تكلف علمَه, واعمل بما أُمرت به, من إنذار من أُمرت بإنذاره.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها فكان أبو جعفر القارىء وابن محيصن يقرآن: «مُنْذِرٌ» بالتنوين, بمعنى: أنه منذرٌ مَنْ يَخشاها وقرأ ذلك سائر قرّاء المدينة ومكة والكوفة والبصرة بإضافة مُنْذِرٍ إلى من.
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهم قراءتان معروفتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: كأنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ عَشِيّةً أوْ ضُحاها يقول جلّ ثناؤه: كأن هؤلاء المكذّبين بالساعة, يوم يرون أن الساعة قد قامت, من عظيم هولها, لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية يوم, أو ضحا تلك العشية والعرب تقول: آتيك العشية أو غدَاتَها, وآتيك الغداةَ أو عشيتها, فيجعلون معنى الغداة, بمعنى أوّل النهار, والعشية: آخر النهار, فكذلك قوله: إلاّ عَشِيّةً أوْ ضُحاها إنما معناها إلا آخر يوم أو أوّله, وينشد هذا البيت:
نَحْنُ صَبَحْنا عامِرا فِي دَارِها عَشِيّةَ الهِلالِ أوْ سِرَارِها
يعني: عشية الهلال, أو عشية سرار العشية.
28080ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: كأنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثوا إلاّ عَشِيّةً أوْ ضُحاها وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الاَخرة.

نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة النازعات