تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 584 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 584

584 : تفسير الصفحة رقم 584 من القرآن الكريم

هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15}
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {16} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17}
فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى {19} فَأَرَاهُ
الْآيَةَ الْكُبْرَى {20} فَكَذَّبَ وَعَصَى {21} ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى {22} فَحَشَرَ
فَنَادَى {23} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى {24} فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى
{25} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى {26}
يخبر تعالى رسوله محمدا عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بالمعجزات ومع هذا استمر على كفره وطغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به ولهذا قال في آخر القصة ( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) فقوله تعالى ( هل أتاك حديث موسى ) أي هل سمعت بخبره ( إذ ناداه ربه ) أي كلمه نداء ( بالواد المقدس ) أي المطهر ( طوى ) وهو اسم الوادي على الصحيح كما تقدم في سورة طه فقال له ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) أي تجبر وتمرد وعتا ( فقل هل لك إلى أن تزكى ) أي قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به وتسلم وتطيع ( وأهديك إلى ربك ) أي أدلك إلى عبادة ربك ( فتخشى ) أي فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشعا بعد ما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير ( فأراه الآية الكبرى ) يعني فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ودليلا واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله ( فكذب وعصى ) أي فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة وحاصله أنه كفر قلبه فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره وعلمه بأن ماجاء به حق لا يلزم منه أنه مؤمن به لأن المعرفة علم القلب والإيمان عمله وهو الانقياد للحق والخضوع له وقوله تعالى ( ثم أدبر يسعى ) أي في مقابلة الحق بالباطل وهو جمعه السحرة ليقابلوا ماجاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات ( فحشر فنادى ) أي في قومه ( فقال أنا ربكم الأعلى ) قال بن عباس ومجاهد وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله ما علمت لكم من إله غيري بأربعين سنة قال الله تعالى ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) أي انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) كما قال تعالى ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ) وهذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله ( نكال الآخرة والأولى ) أي الدنيا والآخرة وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية وقيل كفره وعصيانه والصحيح الذي لا شك فيه الأول وقوله ( إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) أي لمن يتعظ وينزجر
أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا
{27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {29}
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31}
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {33}
يقول تعالى محتجا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه ( أأنتم ) أيها الناس ( أشد خلقا أم السماء ) يعني بل السماء أشد خلقا منكم كما قال تعالى ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) وقال تعالى ( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ) وقوله تعالى ( بناها ) فسره بقوله ( رفع سمكها فسواها ) أي جعلها عالية البناء بعيدة الفناء مستوية الأرجاء مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء وقوله تعالى ( وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) أي جعل ليلها مظلما أسود حالكا ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا وقال بن عباس ( أغطش ليلها ) أظلمه وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وجماعة كثيرون ( وأخرج ضحاها ) أي أنار نهارها وقوله تعالى ( والأرض بعد ذلك دحاها ) فسره بقوله تعالى ( أخرج منها ماءها ومرعاها ) وقد تقدم في سورة حم السجدة أن الأرض خلقت قبل خلق السماء ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل وهذا معنى قول بن عباس وغير واحد واختاره بن جرير وقال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا عبيد الله يعني بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن بن عباس ( دحاها ) ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام فذلك قوله ( والأرض بعد ذلك دحاها ) وقد تقدم تقرير ذلك هنالك وقوله تعالى ( والجبال أرساها ) أي قررها وأثبتها وأكدها في أماكنها وهو الحكيم العليم الرءوف بخلقه الرحيم وقال الإمام أحمد 3124 حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي قال لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الجبال قال نعم الحديد قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد قال نعم النار قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار قال نعم الماء قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء قال نعم الريح قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح قال نعم بن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا بن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق علي آدم وذريته يلقون علي نتنهم ويعلون علي بالخطايا فأرساها الله بالجبال فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون وكان أول قرار الأرض كلحم الجزور إذا نحر يختلج لحمه غريب جدا وقوله تعالى ( متاعا لكم ولأنعامكم ) أي دحا الأرض فأنبع عيونها وأظهر مكنونها وأجرى أنهارها وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة إحتياجهم إليها في هذا الدار إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل
فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ
الْكُبْرَى {34} يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى {35} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِمَن يَرَى {36} فَأَمَّا مَن طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
{40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {41} يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
{42} فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا {43} إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا {44} إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ
مَن يَخْشَاهَا {45} كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا {46}
يقول تعالى ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) وهو يوم القيامة قاله بن عباس سميت بذلك لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع كما قال تعالى ( والساعة أدهى وأمر ) ( يوم يتذكر الإنسان ما سعى ) أي حينئذ يتذكر بن آدم جميع عمله خيره وشره كما قال تعالى ( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ) ( وبرزت الجحيم لمن يرى ) أي أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا ( فأما من طغى ) أي تمرد وعتا ( وآثر الحياة الدنيا ) أي قدمها على أمر دينه وأخراه ( فإن الجحيم هي المأوى ) أي فإن مصيره إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ومشربه من الحميم ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ) أي خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه ونهى نفسه عن هواها وردها إلى طاعة مولاها ( فإن الجنة هي المأوى أي منقلبه ) ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء ثم قال تعالى ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها ) أي ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق بل مردها ومرجعها إلى الله عز وجل فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ( ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ) وقال ها هنا ( إلى ربك منتهاها ) ولهذا لما سأل جبريل رسول الله عن وقت الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل وقوله تعالى ( إنما أنت منذر من يخشاها ) أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده أتبعك فأفلح وأنجح والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك وقوله تعالى ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة الدنيا حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضحى من يوم قال جويبر عن الضحاك عن بن عباس ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) أما عشية فما بين الظهر إلى غروب الشمس ( أوضحاها ) ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار وقال قتادة وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة