سورة النساء | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 85 من المصحف
الآية: 38 {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرين}
قوله تعالى: "والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس" الآية. عطف تعالى على "الذين يبخلون" [آل عمران: 180]: "الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس". وقيل: هو عطف على الكافرين، فيكون في موضع خفض. ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول. قال الجمهور نزلت في المنافقين: لقوله تعالى: "رئاء الناس" والرئاء من النفاق. مجاهد: في اليهود. وضعفه الطبري؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليس كذلك. قال ابن عطية: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام؛ إذ إيمانهم باليوم الآخر كالإيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: نزلت في مطعمي يوم بدر، وهم رؤساء مكة؛ أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. قال ابن الحربي: ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ. قلت: ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: "قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم" [التوبة: 53] وسيأتي.
قوله تعالى: "ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا" في الكلام إضمار تقديره "ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" فقرينهم الشيطان "ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا". والقرين: المقارن، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران؛ قال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والمعنى: من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه. ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار "فساء قرينا" أي فبئس الشيطان قرينا، وهو نصب على التمييز.
الآية: 39 {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليم}
قوله: "ما" في موضع رفع بالابتداء و"ذا" خبره، وذا بمعنى الذي. ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا. فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم، وعلى الثاني تقديره وأي شيء عليهم "لو آمنوا بالله واليوم الآخر"، أي صدقوا بواجب الوجود، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة، "وأنفقوا مما رزقهم الله". "وكان الله بهم عليما" تقدم معناه في غير موضع.
الآية: 40 {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيم}
قوله تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا؛ كما قال تعالى: "إن الله لا يظلم الناس شيئا" [يونس: 44]. والذرة: النملة الحمراء؛ عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل. وعنه أيضا رأس النملة. وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا.
قلت: والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا؛ كما أن للدينار ونصفه وزنا. والله أعلم. وقيل: الذرة الخردلة؛ كما قال تعالى: "فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها" [الأنبياء: 47]. وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).
قوله تعالى: "وإن تكن حسنة يضاعفها ويؤت" أي يكثر ثوابها. وقرأ أهل الحجاز "حسنة" بالرفع، والعامة بالنصب؛ فعلى الأول "تك" بمعنى تحدث، فهي تامة. وعلى الثاني هي الناقصة، أي إن تك فعلته حسنة. وقرأ الحسن "نضاعفها" بنون العظمة. والباقون بالياء، وهي أصح؛ لقوله "ويؤت". وقرأ أبو رجاء "يضعفها"، والباقون "يضاعفها" وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيدة: "يضاعفها" معناه يجعله أضعافا كثيرة، "ويضاعفها" بالتشديد يجعلها ضعفين. "من لدنه" من عنده. وفيه أربع لغات: لدن ولدن ولد ولدى؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم سددوا النون، ودخلت عليه "من" حيث كانت "من" الداخلة لابتداء الغاية و"لدن" كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول "من" عليها؛ ولذلك قال سيبويه في لدن: إنه الموضع الذي هو أول الغاية. "أجرا عظيما" يعني الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا). وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما" وذكر الحديث. وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها" - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار). فالآية على هذا التأويل في الخصوم، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له؛ فذلك قوله تعالى: "وإن تك حسنة يضاعفها". وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة) وتلا "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما". قال عبيدة: قال أبو هريرة: وإذا قال الله "أجرا عظيما" فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود: أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس.
الآية: 41 {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد}
فتحت الفاء الساكنين "وإذ" ظرف زمان والعامل فيه "جئنا" ذكر أبو الليث السمرقندي: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا ابن منيع قال: حدثنا أبو كامل قال: حدثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه؛ فقال: (يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم). وروى البخاري عن عبدالله قال. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي) قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت عليه سورة "النساء" حتى بلغت "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" قال: (أمسك) فإذا عيناه تذرفان. وأخرجه مسلم وقال بدل قوله (أمسك): فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. قال علماؤنا: بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر؛ إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيدا. والإشارة بقوله "على هؤلاء" إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار؛ وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم؛ لعنادهم عند رؤية المعجزات، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات. والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة "إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" أمعذبين أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ. وقيل: الإشارة إلى جميع أمته. ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمر وحدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم؛ يقول الله تبارك وتعالى "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" يعني بنبيها "وجئنا بك على هؤلاء شهيدا". وموضع "كيف" نصب بفعل مضمر، التقدير فكيف يكون حالهم؛ كما ذكرنا. والفعل المضمر قد يسد مسد "إذا"، والعامل في "إذا" "جئنا". و"شهيدا" حال. وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه، ويجوز عكسه. وسيأتي بيانه في حديث أبي في سورة "لم يكن"، إن شاء الله تعالى. و"شهيدا" نصب على الحال.
الآية: 42 {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديث}
ضمت الواو في "عصوا". لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها. وقرأ نافع وابن عامر "تسوى" بفتح التاء والتشديد في السين. وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين. والباقون ضموا التاء وخففوا السين، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى. والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض. أي يجعلهم والأرض سواء. ومعنى آخر: تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم؛ لأنهم من التراب نقلوا. وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها؛ قاله قتادة. وقيل: الباء بمعنى على، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم؛ عن الحسن. فقراءة التشدد على الإدغام، والتخفيف على حذف التاء. وقيل: إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار؛ وهذا معنى قوله تعالى: "ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" [النبأ: 40]. وقيل: إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في "البقرة" عند قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" [البقرة: 143] الآية. فتقول الأمم الخالية: إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المشركون: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23] فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون؛ فذلك قوله تعالى: "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض "يعني تخسف بهم. والله أعلم.
قوله تعالى: "ولا يكتمون الله حديثا" قال الزجاج: قال بعضهم: "ولا يكتمون الله حديثا" مستأنف؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا؛ لأنه ظهر كذبهم. وسئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: "والله ربنا ما كنا مشركين" فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: "والله ربنا ما كنا مشركين" فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا. وقال الحسن وقتادة: الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها. ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الأنعام" إن شاء الله تعالى.
الآية: 43 {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفور}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الآية التي في البقرة "يسألونك عن الخمر والميسر" [البقرة: 219] قال: فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الآية التي في النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت هذه الآية: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا. وقال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا؛ فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" [البقرة: 219]. قالوا: نشربها للمنفعة لا للإثم؛ فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون؛ فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى". فقالوا: في غير عين الصلاة. فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت: "إنما يريد الشيطان" [المائدة: 91] الآية. فقال عمر: انتهينا، انتهينا. ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حرمت؛ على ما يأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى: وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون" [الكافرون: 1 - 2] ونحن نعبد ما تعبدون. قال: فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا" [النساء: 36]. ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها.
والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر؛ إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم؛ لقوله عليه السلام: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه). وقال عبيدة السلماني: "وأنتم سكارى" يعني إذا كنت حاقنا؛ لقوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم وهو حاقن) في رواية (وهو ضام بين فخذيه).
قلت: وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع، وكل ما يشغل البال ويغير الحال. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء). فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه، فيخشع في صلاته. ويدخل في هذه الآية: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" [المؤمنون: 1 - 2] على ما يأتي بيانه. وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" منسوخ بآية المائدة: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" [المائدة: 6] الآية. فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال؛ وهذا قبل التحريم. وقال مجاهد: نسخت بتحريم الخمر. وكذلك قال عكرمة وقتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران؛ ذكره النحاس. وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها.
قوله تعالى: "لا تقربوا" إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه. والخطاب لجماعة الأمة الصاحين. وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر.
قوله تعالى: "الصلاة" اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا؛ فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها؛ وهو قول أبي حنيفة؛ ولذلك قال "حتى تعلموا ما تقولون". وقالت طائفة: المراد مواضع الصلاة؛ وهو قول الشافعي، فحذف المضاف. وقد قال تعالى "لهدمت صوامع وبيع وصلوات" [الحج: 40] فسمى مواضع الصلاة صلاة. ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل "هذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه. وقال أبو حنيفة: المراد بقوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل" المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي؛ وسيأتي بيانه. وقالت طائفة: المراد الموضع والصلاة معا؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.
قوله تعالى: "وأنتم سكارى" ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال من "تقربوا". و"سكارى" جمع سكران؛ مثل كسلان وكسالى. وقرأ النخعي "سكرى" بفتح السين على مثال فعلى، وهو تكسير سكران؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه. وقرأ الأعمش "سكرى" كحبلى فهو صفة مفردة؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد. والسكر: نقيض الصحو؛ يقال: سكر يسكر مسكرا، من باب حمد يحمد. وسكرت عينه تسكر أي تحيرت؛ ومنه قوله تعالى: "إنما سكرت أبصارنا" [الحجر: 15]. وسكرت الشق سددته. فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل.
وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال قوم: السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان؛ وحملوا السكر في هذه الآية على النوم. وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية.
قلت: وهذا المعنى موجود في أشعارهم؛ وقد قال حسان.
ونشربها فتتركنا ملوكا
وقد أشبعنا هذا المعنى في "البقرة". قال القفال: فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه.
قلت: هذا صحيح، وسيأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى في قصة حمزة. وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في "المائدة" في قوله تعالى: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91].
قوله تعالى: "حتى تعلموا ما تقولون" أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط. والسكران لا يعلم ما يقول؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن السكران لا يلزمه طلاقه. وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزنى؛ واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس. ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز؛ فكذلك من سكر من الشراب. وأجازت طائفة طلاقه؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، واختلف فيه قول الشافعي. والزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال أبو حنيفة: أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدا في حال سكره؛ وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه. وقال الإمام أبو عبدالله المازري: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران. وقال محمد بن عبدالحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال ابن شاس: ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب. قال: فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعال وأحواله فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها. وقال سفيان الثوري: حد السكر اختلال العقل؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد. وقال أحمد: إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران؛ وحكي عن مالك نحوه. قال ابن المنذر: إذا خلط في قراءته فهو سكران؛ استدلالا بقول الله تعالى: "حتى تعلموا ما تقولون". فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث؛ ولا تصح صلاته وإن صلى الله عليه وسلم قضى. وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي.
قوله تعالى: "ولا جنبا" عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله: "حتى تعلموا" أي لا تصلوا وقد أجنبتم. ويقال: تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى. ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب. وربما خففوه فقالوا: جنب؛ وقد قرأه كذلك قوم. وقال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب؛ مثل عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ومن قال للواحد جانب قال في الجمع: جناب؛ كقولك: راكب وركاب. والأصل البعد؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة؛ قال:
فلا تحرمي نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
ورجل جنب: غريب. والجنابة مخالطة الرجل المرأة.
والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال؛ لقوله عليه السلام: (إنما الماء من الماء) أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال: (يغسل ما مس المرأة من ثم يتوضأ ويصلي). قال أبو عبدالله: الغسل أحوط؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه، وقال في آخره: قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق: هذا منسوخ. وقال الترمذي: كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ.
قلت: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل). أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل). زاد مسلم (وإن لم ينزل). وقال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث (إذا التقى الختانان) وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث (الماء من الماء) لما اختلفوا. وتأوله ابن عباس على الاحتلام؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء.
قوله تعالى: "إلا عابري سبيل" يقال: عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب. وعبرت النهر عبورا، وهذا عبر النهر أي شطه، ويقال: عبر بالضم. والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة. وهذا عابر السبيل أي مار الطريق. وناقة عبر أسفار: لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها. قال الشاعر:
عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضب
وعبر القوم ماتوا. وأنشد:
قضاء الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبور
فإن نعبر فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذور
يقول: إن متنا فلنا أقران، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا.
واختلف العلماء في قوله: "إلا عابري سبيل" فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم: عابر السبيل المسافر. ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم؛ وهذا قول أبي حنيفة؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده. قال ابن المنذر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد. ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد. واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن ليس بنجس). قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي: عابر السبيل الخاطر المجتاز؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي. وقالت طائفة: لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه. وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر. وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة أضطر إلى المرور في المسجد.
قلت: وهذا صحيح؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد؛ فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد). ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). وفي صحيح مسلم: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر). فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذا المسجد طريقا والعبور فيه. واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي). قال علماؤنا: وهذا يجوز أن يكون ذلك؛ لأن بيت علي كان في المسجد، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال: (ما ينبغي لمسلم) الحديث. والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبدالله قال: سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبدالله بن عمر: هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه، لم يكن في المسجد غيرهما؛ وذكر الحديث. فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما. ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء، فيكون هذا مما خص به، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره. وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي. وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سدوا الأبواب إلا باب علي) فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد. وأما قوله: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات، وأبواب البيوت خارجة من المسجد؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له. والخوخات كالكوى والمشاكي، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج. وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله: ولم يكن في المسجد غيرهما. فإن قيل: فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال: كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه. وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا. فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة، ولا يصح له أن يتلبس بها. والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم. فإن قيل: يبطل بالمحدث. قلنا: ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه؛ وفي قوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل" ما يغني ويكفي. وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه؛ إذ هو أعظم حرمة. وسيأتي بيانه في "الواقعة" إن شاء الله تعالى.
ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ. وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن) أخرجه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا. قال سفيان: قال لي شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه. وأخرجه ابن ماجة قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة؛ فذكره بمعناه، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عباس، عن عبدالله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب؛ أخرجه الدارقطني. وروى عن عكرمة قال: كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت: مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتني ؟ قالت: رأيتك على الجارية؛ فقال: ما رأيتني؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ، وكانت لا تقرأ القرآن، فقال:
أتانا رسول الله يتلوا كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "حتى تغتسلوا" نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال؛ والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم: أفضت عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزئه حتى يتدلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه. وهذا قول المزني واختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ الغسل؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه. قال: وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر واتقوا البشرة) قال: وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه؛ على حد ما ذكرنا.
قلت: لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين: أحدهما: أنه قد خولف في تأويله؛ قال سفيان بن عيينة: المراد بقوله عليه السلام (وأنقوا البشرة) أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج. قال ابن وهب: ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة.
الثاني: إن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف؛ كذا في رواية ابن داسة. وفي رواية اللؤلئي عنه: الحارث بن وجيه ضعيف، حديثه منكر؛ فسقط الاستدلال بالحديث، وبقي المعول على اللسان كما بينا. ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بول ولم يغسله؛ روته عائشة، ونحوه عن أم قيس بنت محصن؛ أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء: يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما الأئمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده؛ وبه قال محمد بن عبدالحكم، وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك؛ قال: وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ابن العربي: وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا، وإنما هي من أوهامه.
قلت: قد روي هذا عن مالك نصا؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين: سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ، قال: مضت صلاته. قال أبو عمر: فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك؛ قياسا عل غسل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل. والعرب تقول: غسلتني السماء. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا، ولو كان واجبا ما تركه؛ لأنه المبين عن الله مراده، ولو فعله لنقل عنه؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر: وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة. وإنما ترد القروع قياسا على الأصول. وبالله التوفيق.
حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا. وقد روي عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة. قال ابن عبدالبر: وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس، وشعبة هذا ليس بالقوي، ويرهما حديث عائشة وميمونة.
ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون: يجعل من يلي ذلك منه، أو يعالجه بخرقه. وفي الواضحة: يمر يديه على ما يدركه من جسده، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه.
واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته؛ فروى ابن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه ذلك. وروى أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ابن عبدالحكم: ذلك هو أحب إلينا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه؛ وعلى هذين القولين العلماء. ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد. وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل.
قلت: ويعضد. هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (تحت كل شعرة جنابة).
وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق؛ لقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" منهم أبو حنيفة؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما أعاد كمن ترك لمعة، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وقال مالك: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين. وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان: هما فرض في الوضوء والغسل جميعا؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض؛ وقال به بعض أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما بالآية، وقوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم "فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا. احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنشاق وأمر به؛ وأمره على الوجوب أبدا.
قال علماؤنا: ولا بد في غسل الجنابة من النية؛ لقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" وذلك يقتضي النية؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا وبقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين "[البينة: 5] والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين، وقال عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا عمل. وقال الأوزاعي والحسن: يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك.
وأما قدر الماء الذي يغتسل به؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. "الفرق "تحرك راؤه وتسكن. قال ابن وهب: "الفرق "مكيال من الخشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية. وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى "الفرق "فقال: ثلاثة آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال: وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قال سفيان: "الفرق "ثلاثة آصع. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. وفي رواية: يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم. ومذهب الأباضية الإكثار من الماء، وذلك من الشيطان.
قوله تعالى: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" هذه آية التيمم، نزلت في عبدالرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح؛ فرخص له في أن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وقيل: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة "المريسيع "حين انقطع العقد لعائشة. أخرج الحديث مالك من رواية عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير: حدثنا محمد قال: أخبرنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم.
قلت: وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القلادة كانت لأسماء؛ خلاف حديث مالك. وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت لأسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء. وهذا بيان لحديث مالك إذا قال: انقطع عقد لعائشة، ولحديث البخاري إذ قال: هلكت قلادة لأسماء. وفيه أن المكان يقال له الصلصل. وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي. وقال في المكان: "الأبواء "كما قال مالك، إلا أنه من غير شك. وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. وجاء في البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده. وهذا كله صحيح المعنى، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة. وأما قوله في حديث الترمذي: فأرسل رجلين قيل: أحدهما أسيد بن حضير. ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع، إذ أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم. فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته. وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا، وضاع العقد ونزلت الآية. وقد قيل: إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق. وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع، إذ هي غزاة واحدة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبدالبر، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل: بل نميلة بن عبدالله الليثي. وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت. وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء. فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه. وقد قيل: إن آية المائدة آية التيمم، على ما يأتي بيانه هناك. قال أبو عمر: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة "المائدة"، أو الآية التي في سورة "النساء". ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان.
قوله تعالى: "مرضى "المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين: كثير ويسير؛ فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات. وهذا مردود بقوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج "[الحج: 78] وقوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم "[النساء:29]. وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: "وإن كنتم مرضى أو على سفر "قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم. وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال: رخص للمريض في التيمم بالصعيد. وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة. فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب. قال ابن عطية: فيما حفظت.
قلت: قد ذكر الباجي فيه خلافا؛ قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك. قال ابن العربي: "قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف؛ لأن زيادة المرض غير متحققة؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك. قلنا: قد ناقضت؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك، يبيحه خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور. قال: وعجبا للشافعي يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه".
قلت: الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء. فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي: جواز التيمم. روى أبو داود والدارقطني، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو: (صليت بأصحابك وأنت جنب) ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما "[النساء: 29] فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين؛ وهذا أحد القولين عندنا؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات. والقول الثاني: أنه لا يصلي؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة؛ وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤم المتيمم المتوضئين) إسناده ضعيف. وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال وإنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده). قال الدارقطني: "قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب. واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا: رواه ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، وأسند الحديث". وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم؛ لقوله تعالى: "وإن كنتم مرضى". قال ابن عطية: وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب، والعلل المخوف عليها من الماء؛ كما تقدم عن ابن عباس.
قوله تعالى: "أو على سفر" يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة. وهذا كله ضعيف. والله أعلم.
أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف؛ وهو قول الطبري. وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى الله عليه وسلم ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، لا غير المريض. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية؛ فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم. فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضر بالمعنى. وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى. وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر؛ كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى. وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء، لقوله تعالى: "فلم يجدوا ماء فتيمموا "فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء. وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا؛ والله أعلم. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء، فالمريض أحرى بذلك. قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة:
أما الكتاب فقوله سبحانه: "أو جاء أحد منكم من الغائط "يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم. نص عليه القشيري عبدالرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب القضاء؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان:
قلت: وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح. وقال ابن حبيب ومحمد بن عبدالحكم. يعيد أبدا؛ ورواه ابن المنذر عن مالك. وقال الوليد عنه: يغتسل وإن طلعت الشمس. وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو "بئر جمل" فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ "بئر". وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه "ثم رد على الرجل السلام وقال: (إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر".
قوله تعالى: "أو جاء أحد منكم من الغائط" الغائط أصله ما انخفض من الأرض، والجمع الغيطان أو الأغواط؛ وبه سمي غوطة دمشق. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة. وغاط في الأرض يغوط إذا غاب.
وقرأ الزهري: "من الغيط" فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف، كهين وميت وشبهه. ويحتمل أن يكون من الغوط؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء؛ كما قالوا في لا حول لا حيل. و"أو "بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر؛ فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه. والصحيح في "أو "أنها على بابها عند أهل النظر. فلأو معناها، وللواو معناها. وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء. والله أعلم.
لفظ "الغائط "يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى. وقد اختلف الناس في حصرها، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال العقل، خارج معتاد، ملامسة. وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس. وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعد اللمس. وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء، واختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث؛ ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة.
الطرف الأول: ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله: ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه. رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؛ قال: نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة. ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم. قالوا: والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكاء السنه العينان فمن نام فليتوضأ) وهذا عام. أخرجه أبو داود، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام. فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى الله عليه وسلم؛ وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد. والجمهور على خلاف هذين الطرفين. فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما، وطال نومه على أي حال كان، فقد وجب عليه الوضوء؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم. قال أحمد بن حنبل: فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا. وقال الشافعي: من نام جالسا فلا وضوء عليه؛ ورواه ابن وهب عن مالك. والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم) رواه الأئمة واللفظ للبخاري؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل. وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه: ونوم ثقيل غالب على النفس؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه. وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال: (أو ريح) بدل (أو نوم)، فقال الدارقطني: لم يقل في هذا الحديث (أو ريح) غير وكيع عن مسعر.
قلت: وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة؛ فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف؛ رواه الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى. غط أو نفخ ثم قام فصلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال: (إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله). تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح؛ قال الدارقطني. وأخرجه أبو داود وقال: قوله: (الوضوء على من نام مضطجعا) هو حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا. وقال أبو عمر بن عبدالبر: هذا حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات، وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني، وأنكروه وليس بحجة فيما نقل. وأما قول الشافعي: على كل نائم الوضوء إلا على الجالس وحده، وإن كل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء؛ فهو قول الطبري وداود، وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر؛ لأن الجالس لا يكاد يستثقل، فهو في معنى النوم الخفيف. وقد روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء). وأما الخارج؛ فلنا ما رواه البخاري قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي. فهذا خارج على غير المعتاد، وإنما هو عرق انقطع فهو مرض؛ وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا، خلافا للشافعي كما ذكرنا. وبالله توفيقنا. ويرد على الحنفي حيث راعى الخارج النجس. فصح ووضح مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه ما تردد نفس، وعنهم أجمعين.
قوله تعالى: "أو لامستم النساء" قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر "لامستم". وقرأ حمزة والكسائي: "لمستم "وفي معناه ثلاثة أقوال: الأول: أن يكون لمستم جامعتم. الثاني: لمستم باشرتم. الثالث: يجمع الأمرين جميعا. و"لامستم "بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن يكون "لامستم "بمعنى قبلتم أو نظيره؛ لأن لكل واحد منهما فعلا. قال: و"لمستم "بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.
واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة؛ فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: "وإن كنتم مرضى "الآية، فلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء؛ روي هذا القول عن عمر وابن مسعود. قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمر وعبدالله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار؛ وذلك والله أعلم لحديث عمار وعمران بن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب. وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع. فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجر له ذكر؛ فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه. فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه؛ وعضدوا هذا بما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: فقلت لها من هي إلا أنت ؟ فضحكت. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ. فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضى الآية. وقال علي بن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء. وقال عبدالملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها؛ فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ؛ وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي. وقال الشيخ أبو إسحاق: من أنعظ إنعاظا أنتقض وضوئه؛ وهذا قول مالك في المدونة. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد معلق نقض الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه؛ لقوله تعالى: "فلمسوه بأيديهم" [الأنعام: 7]. فهذه خمسة مذاهب أسدها مذهب مالك؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبدالله، وهو قول عبدالله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أولها: "ولا جنبا "أفاد الجماع، وإن قوله: "أو جاء أحد منكم من الغائط" أفاد الحدث، وإن قوله: "أو لامستم" أفاد اللمس والقبل. فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والإعلام. ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام.
قلت: وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل؛ رواه وكيع، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى بن سعيد: وذكر حديث الأعمش عن حبيب عن عمرو فقال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيبا لم يسمع من عروة شيئا؛ قال الدارقطني. فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به. قلنا: تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة. فإن قيل: إن الملامسة هي الجماع وقد روي ذلك عن ابن عباس. قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبدالله بن مسعود وهو كوفي، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع. قلنا: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامس وملموس.
جواب آخر: وهو أن الملامسة قد تكون من واحد؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه "وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام". وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.
فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة، فبين الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء. قلنا: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بينا. وقد قرئ "لمستم" كما ذكرنا. وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا؛ وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة. ولو احتلط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا. ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى يفضي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية. واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها، فمرة قال: ينتقض الوضوء؛ لقوله تعالى: "أو لامستم النساء "فلم يفرق. والثاني لا ينقض؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهن. قال المروزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب؛ لأن الله عز وجل قال: "أو لامستم النساء "ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة؛ وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة. قال: وكذلك عامة التابعين. قال المروزي: فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما. قال: ولا يصح ذلك في النظر؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته، وغير مماس لها في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها. وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب عليه وضوء؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة.
قلت: أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قول إلا الليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا: إذا لمس فالتذ وجب الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء. وأما قوله: "ولا يصح ذلك في النظر" فليس بصحيح؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانيا، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غمز رجل عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما) أخرجه البخاري. فهذا يخص عموم قوله: "أو لامستم" فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس. ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصد. ولا يقال: فلعله كان على قدمي عائشة ثوب، أو كان يضرب رجليها بكمه؛ فإنا نقول: حقيقة الغمز إنما هو باليد؛ ومنه غمزك الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا. والرجل من النائم الغالب عليها ظهورها من النائم؛ لا سيما مع امتداده وضيق حاله. فهذه كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: (وإذا قام بسطتهما) وقولها: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). وقد جاء صريحا عنها قالت: (كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما) أخرجه البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديث. فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض.
فإن قيل: كان على قدمه حائل كما قال المزني. قيل له: القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل، والأصل الوقوف مع الظاهر؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص.
فإن قيل: فقد أجمعت الأمة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك، أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها؛ فكذلك حكم من قبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء؛ لأن المعنى في الجسة واللمسة والقبلة الفعل لا اللذة. قلنا: قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادعيتموه من الإجماع. سلمناه، لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة. وقد قال الشافعي - فيما زعمتم إنه لم يسبق إليه، وقد سبقه إليه شيخه مالك؛ كما هو مشهور عندنا "إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي "وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. وهذا يرد ما قال الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد، فقصره عليه دون غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض لذلك وضوءه. وقال في الرجل يقبل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثور: لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.
قوله تعالى: "فلم تجدوا ماء" الأسباب التي لا يجد المسافر معها الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره؛ وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى الله عليه وسلم. ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره. ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، أو بأن يسجن أو يربط. وقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا ضعيف، لأن دين الله يسر. وقالت طائفة: يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا. وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله. وقيل لأشهب: أتشترى القربة بعشرة دراهم ؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس. وقال الشافعي بعدم الزيادة.
واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط، وهو قول الشافعي. وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم؛ وهو قول أبي حنيفة. وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه. قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء "وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله؛ كالصوم مع العتق في الكفارة.
وإذا ثبت هذا وعدم الماء، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الأمران، فهذه ثلاثة أحوال: فالأول: يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت: لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت. الثاني: يتيمم وسط الوقت؛ حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه. الثالث: يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار؛ قال ابن حبيب. ولو علم الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم: يجزئه، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة. وقال عبدالملك بن الماجشون: إن وجد الماء بعد أعاد أبدا.
والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إما الماء وإما التراب.
فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا؛ لأن المطلوب من وجود الكفاية. وقال الشافعي في القول الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمم؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم؛ والصحيح أنه يعيد؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط. والقول الآخر لا يعيد؛ وهو قول مالك؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده.
وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير؛ لقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء" فقال: هذا نفي في نكرة، وهو يعم لغة؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير؛ لانطلاق اسم الماء عليه. قلنا: النفي في النكرة يعم كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد، وسيأتي حكم المياه في "الفرقان"، إن شاء الله تعالى.
وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء؛ وقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء فتيمموا "يرده. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود، وليس بثابت؛ لأن الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله؛ قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في "الفرقان "بيانه إن شاء الله تعالى.
الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته. وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى: { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه؛ سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء؛ فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده.
وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة "الفرقان"، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "فتيمموا" التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا) وذكر الحديث، وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه. وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام ههنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله، ومن يجوز له التيمم، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه.
فالتيمم لغة هو القصد. تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه. وأنشد الخليل:
يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال الخليل: من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ؛ لأنه قال: "شزرا "ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس:
تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال أيضا:
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
آخر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت بعيري غيره بلدا
وقال أعشى بأهلة:
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن
وقال حميد بن ثور:
سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
وللشافعي:
علمي معي حيثما يممت أحمله بطني وعاء له لا بطن صندوق
قال ابن السكيت: قوله تعالى "فتيمموا صعيدا طيبا "أي اقصدوا؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم: "قد تيمم الرجل "معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه. قلت: وهذا هو التيمم الشرعي، إذا كان المقصود به القربة. ويممت المريض فتيمم للصلاة. ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب؛ عن الشيباني. وأنشد:
إنا وجدنا أعصر بن سعد ميمم البيت رفيع المجد
وقال آخر:
أزهر لم يولد بنجم الشح ميمم البيت كريم السنح
لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في "البقرة "وفي هذه السورة و"المائدة "والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في "النساء" والأخرى في "المائدة". فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها: "فأنزل الله آية التيمم". ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم.
قلت: أما قوله: "فلا نعلم أية آية عنت عائشة "فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم. وقوله: "وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم "في صحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم. فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل. وفي قوله: "فنزلت آية التيمم "ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء؛ وهذا بين لا إشكال فيه.
التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل، وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة. واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج). فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء؛ فحكمه إذا حكم الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى: "فلم تجدوا ماء "ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا المعنى؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت). وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.
وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر: (إذا وجدت الماء فأمسه جلدك) إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، رواه ابن جريج وعبدالحميد بن جبير بن شيبة عنه؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث. وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة. قال ابن عبدالبر: وهذا تناقض وقلة روية. ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.
وأجمعوا على أن من تيمم على ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة؛ لأنه أدى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة. واستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين). أخرجه أبو داود وقال: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: ثم وجد الماء بعد في الوقت.
واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخول في الصلاة؛ فقال مالك: ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل؛ وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض. قالوا: والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى: "ولا تبطلوا أعمالكم "[محمد: 33]. وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في. الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، واختلفوا في قطعها إذا رئي الماء؛ ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء.
واختلفوا هل يصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؛ فقال شريك بن عبدالله القاضي: يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك: لكل فريضة؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن بن حي وداود: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء؛ وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، فهي طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث؛ وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول الوقت؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوزونه؛ لأنه لما قال الله تعالى "فلم تجدوا ماء فتيمموا "ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى هذا لا يصلى فرضين بتيمم واحد، وهذا بين. واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه: يعيد أبدا. وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية أبدا. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا؛ لأن طلب الماء شرط. وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلوات: إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط. والأول أصح. والله أعلم.
قوله تعالى: "صعيدا طيبا" الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جزرا" [الكهف: 8] أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا. وقال تعالى "فتصبح صعيدا زلقا" [الكهف: 40]. ومنه قول ذي الرمة:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. وجمع الصعيد صعدات؛ ومنه الحديث (إياكم والجلوس في الصعدات ). واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب؛ فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. و"طيبا "معناه طاهرا. وقالت فرقة: "طيبا "حلالا؛ وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد التراب المنبت وهو الطيب؛ قال الله تعالى: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه "[الأعراف: 58] فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وذكر عبدالرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال: الحرث. قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه: هو التراب خاصة. وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره؛ حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه. وقال الكيا الطبري: واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال الكيا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) بين ذلك.
قلت: فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام: (وجعلت تربتها لنا طهورا ) وقالوا: هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68] وقد ذكرناه في "البقرة "عند قوله "وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل" [البقرة: 98]. وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا، وهو نص القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان. وقال صلى الله عليه وسلم للجنب: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) وسيأتي. في "صعيدا "على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد. و"طيبا "نعت له. ومن جعل "طيبا "بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر.
وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن خويز منداد: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه؛ وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في التيمم على العود؛ فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوقار أنه جائز. وقيل: بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل. وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال: وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده عاف الجمد والثلج أجزأه. قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان: الإجازة والمنع؛ وفي التيمم على الجدار خلاف.
قلت: والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. أخرجه البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغبر التراب كما يقول مالك ومن وافقه. ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد. وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال ابن عطية: وهذا خطأ بحت من جهات. قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه. وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال: يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به. وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللبد. قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق. قال: فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه؛ لأنه ليس من جنس الأرض.
قوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح: مسح الشيء بالسيف وقطعه. ومسحت الإبل يومها إذا سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمراد هنا بالمسح عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "[المائدة: 6]. فقوله "منه "يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما؛ وفي رواية: نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة؛ يوضحه تيممه على الجدار. قال الشافعي: لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه؛ وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة؛ حكاه ابن عطية. وقال الله عز وجل: "بوجوهكم وأيديكم "فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البخاري من حديث عمار في "باب التيمم ضربة "ذكر اليدين قبل الوجه. وقال بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء.
واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين؛ فقال ابن شهاب: إلى المناكب. وروي عن أبي بكر الصديق. وفي مصنف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل: يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك في المدونة: يعيد في الوقت. وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله وابن عمر وبه كان يقول. قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين. قال: وحدثني محدث عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إلى المرفقين ). قال أبو إسحاق: فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه !. وقالت طائفة: يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري. وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم. وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط. فقلت: عمن أخذت هذا ؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن الله تعالى يقول: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم "فهي يد كلها. قلت له: فإن الله تعالى يقول: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "[المائدة: 38] فمن أين تقطع اليد ؟ قال: فخصمته. وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية: هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين. وهو قول الشعبي.
واختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري والليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبدالله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم: التيمم بضربة واحدة. وروي عن الأوزاعي في الأشهر عنه؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع: يعيد أبدا. قال أبو عمر وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حي: ضربتان؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه، ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر؛ فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف عنده. وبالله التوفيق.
قوله تعالى: "إن الله كان عفوا غفورا" أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.
الآيات: 44 - 53 {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما، ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا، ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا، أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقير}
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب "إلى قوله تعالى: "فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه "الآية.
نزلت في يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب "إلى قوله "قليلا". ومعنى "يشترون "يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى "[البقرة: 16] قاله القتبي وغيره. "ويريدون أن تضلوا السبيل" عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق. وقرأ الحسن: "تضلوا "بفتح الضاد أي عن السبيل.
قوله تعالى: "والله أعلم بأعدائكم" يريد منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون "أعلم "بمعنى عليم؛ كقوله تعالى: "وهو أهون عليه "[الروم: 27] أي هين. "وكفى بالله وليا" الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و"وليا "و "نصيرا" نصب على البيان، وإن شئت على الحال.
قوله تعالى: "من الذين هادوا" قال الزجاج: إن جعلت "من "متعلقة بما قبل فلا يوقف على قول "نصيرا"، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على "نصيرا "والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم؛ ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون:
لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم
قالوا: المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها؛ ثم حذف. وقال الفراء: المحذوف "من" المعنى: من الذين هادوا من يحرفون. وهذا كقوله تعالى: "وما منا إلا له مقام معلوم" [الصافات: 164] أي من له. وقال ذو الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يذري عبرة العين بالهمل
يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول. وأنكره المبرد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة. "يحرفون" يتأولونه على غير تأويله. وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين. وقيل: "عن مواضعه" يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم. "ويقولون سمعنا وعصينا" أي سمعنا قولك وعصينا أمرك. "واسمع غير مسمع" قال ابن عباس: كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع لا سمعت، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن ومجاهد. معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس: ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك. وتقدم القول في "راعنا". ومعنى "ليا بألسنتهم" أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللي الفتل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله. وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. "وطعنا" معطوف عليه أي يطعنون في الدين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى "أقوم" أصوب لهم في الرأي. "فلا يؤمنون إلا قليلا "أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان. وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.
قوله تعالى: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا" قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: (يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق ) قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها "إلى آخر الآية.
قوله تعالى: "مصدقا لما معكم" نصب على الحال. "من قبل أن نطمس وجوها" الطمس استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى: "فإذا النجوم طمست "[المرسلات: 8]. ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس؛ يقال: طمس الأثر وطسم أي أمحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى: "ربنا اطمس على أموالهم"[يونس: 88] أي أهلكها؛ عن ابن عرفة. ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد. وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين؛ ومنه قوله تعالى: "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم "[يس: 66] يقول أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان. روي عن أبي بن كعب أنه قال: "من قبل أن نطمس "من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة. وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء. أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا "فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وكذلك فعل عبدالله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر. وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
قوله تعالى: "أو نلعنهم" أي أصحاب الوجوه "كما لعنا أصحاب السبت" أي نمسخهم قردة وخنازير؛ عن الحسن وقتادة. وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة "وكان أمر الله مفعولا" أي كائنا موجودا. ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.
قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: "إن الله يغفر الذنوب جميعا "[الزمر: 53] فقال له رجل: يا رسول الله والشرك ! فنزل "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة. "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقول: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم "[النساء: 31] فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر "الفرقان". قال زيد بن ثابت: نزلت سورة "النساء "بعد "الفرقان "بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل. وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي "الفرقان "إن شاء الله تعالى. وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "قال: هذا حديث حسن غريب.
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه"، وقولهم: "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى "وقال الضحاك والسدي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبدالله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية: التطهير والتبرية من الذنوب.
هذه الآية وقوله تعالى: "فلا تزكوا أنفسكم" [النجم: 32] يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم ) فقالوا: بم نسميها ؟ فقال: (سموها زينب ). فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا.
فأما تزكية الغير ومدحه له؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك ). وفي الحديث الآخر (قطعتم ظهر الرجل ) حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (احثوا التراب في وجوه المداحين ) إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات "والله يعلم المفسد من المصلح". وقد مدح في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك. كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ). وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبدالله ورسوله ) فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا. وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "ولا يظلمون فتيلا" الضمير في "يظلمون" عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل. وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية. والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة؛ قال ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما؛ فهو فعيل بمعنى مفعول. وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: "ولا يظلمون نقيرا" [النساء: 124] وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي. قال الشاعر يذم بعض الملوك:
تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا
ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: "انظر كيف يفترون على الله الكذب" في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جريج. وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. والافتراء الاختلاق؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه. وفريت الشيء قطعته. "وكفى به إثما مبينا" نصب على البيان. والمعنى تعظيم الذنب وذمه. العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب" يعني اليهود "يؤمنون بالجبت والطاغوت" اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. ابن مسعود: الجبت والطاغوت ههنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب. عكرمة: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى: "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "[النساء:60]. قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن. وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقول مالك في هذا الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى: "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "[النحل: 36] وقال تعالى: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها "[الزمر: 17]. وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ). الطرق الزجر، والعيافة الخط؛ خرجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان. والله أعلم.
قوله تعالى: "ويقولون للذين كفروا" أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد. وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق. نحن أم محمد ؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.
قوله تعالى: "أم لهم نصيب من الملك" أي ألهم ؟ والميم صلة. "نصيب" حظ "من الملك" وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم. وقيل: المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟. "فإذا لا يؤتون الناس نقيرا "أي يمنعون الحقوق. خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس أيضا: النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ. وفلان كريم النقير أي الأصل. و"إذا "هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: "إذا "في عوامل الأفعال بمنزلة "أظن "في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت؛ كقولك: أنا أزورك فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك. قال عبدالله بن عنتمة الضبي:
اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذن يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل "إذن "تام فوقعت ابتداء كلام. فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك. زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا. وفي التنزيل "وإذا لا يلبثون "[الإسراء: 76] وفي مصحف أبي "وإذا لا يلبثوا". وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعه كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه "إذا" لمضارعتها "أن"، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا. وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.
تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 85
85- تفسير الصفحة رقم85 من المصحفالآية: 38 {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرين}
قوله تعالى: "والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس" الآية. عطف تعالى على "الذين يبخلون" [آل عمران: 180]: "الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس". وقيل: هو عطف على الكافرين، فيكون في موضع خفض. ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول. قال الجمهور نزلت في المنافقين: لقوله تعالى: "رئاء الناس" والرئاء من النفاق. مجاهد: في اليهود. وضعفه الطبري؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليس كذلك. قال ابن عطية: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام؛ إذ إيمانهم باليوم الآخر كالإيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: نزلت في مطعمي يوم بدر، وهم رؤساء مكة؛ أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. قال ابن الحربي: ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ. قلت: ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: "قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم" [التوبة: 53] وسيأتي.
قوله تعالى: "ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا" في الكلام إضمار تقديره "ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" فقرينهم الشيطان "ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا". والقرين: المقارن، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران؛ قال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والمعنى: من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه. ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار "فساء قرينا" أي فبئس الشيطان قرينا، وهو نصب على التمييز.
الآية: 39 {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليم}
قوله: "ما" في موضع رفع بالابتداء و"ذا" خبره، وذا بمعنى الذي. ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا. فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم، وعلى الثاني تقديره وأي شيء عليهم "لو آمنوا بالله واليوم الآخر"، أي صدقوا بواجب الوجود، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة، "وأنفقوا مما رزقهم الله". "وكان الله بهم عليما" تقدم معناه في غير موضع.
الآية: 40 {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيم}
قوله تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا؛ كما قال تعالى: "إن الله لا يظلم الناس شيئا" [يونس: 44]. والذرة: النملة الحمراء؛ عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل. وعنه أيضا رأس النملة. وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا.
قلت: والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا؛ كما أن للدينار ونصفه وزنا. والله أعلم. وقيل: الذرة الخردلة؛ كما قال تعالى: "فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها" [الأنبياء: 47]. وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها).
قوله تعالى: "وإن تكن حسنة يضاعفها ويؤت" أي يكثر ثوابها. وقرأ أهل الحجاز "حسنة" بالرفع، والعامة بالنصب؛ فعلى الأول "تك" بمعنى تحدث، فهي تامة. وعلى الثاني هي الناقصة، أي إن تك فعلته حسنة. وقرأ الحسن "نضاعفها" بنون العظمة. والباقون بالياء، وهي أصح؛ لقوله "ويؤت". وقرأ أبو رجاء "يضعفها"، والباقون "يضاعفها" وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيدة: "يضاعفها" معناه يجعله أضعافا كثيرة، "ويضاعفها" بالتشديد يجعلها ضعفين. "من لدنه" من عنده. وفيه أربع لغات: لدن ولدن ولد ولدى؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم سددوا النون، ودخلت عليه "من" حيث كانت "من" الداخلة لابتداء الغاية و"لدن" كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول "من" عليها؛ ولذلك قال سيبويه في لدن: إنه الموضع الذي هو أول الغاية. "أجرا عظيما" يعني الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا). وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما" وذكر الحديث. وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها" - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار). فالآية على هذا التأويل في الخصوم، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له؛ فذلك قوله تعالى: "وإن تك حسنة يضاعفها". وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة) وتلا "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما". قال عبيدة: قال أبو هريرة: وإذا قال الله "أجرا عظيما" فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود: أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس.
الآية: 41 {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد}
فتحت الفاء الساكنين "وإذ" ظرف زمان والعامل فيه "جئنا" ذكر أبو الليث السمرقندي: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا ابن منيع قال: حدثنا أبو كامل قال: حدثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه؛ فقال: (يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم). وروى البخاري عن عبدالله قال. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي) قلت: اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأت عليه سورة "النساء" حتى بلغت "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" قال: (أمسك) فإذا عيناه تذرفان. وأخرجه مسلم وقال بدل قوله (أمسك): فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. قال علماؤنا: بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر؛ إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيدا. والإشارة بقوله "على هؤلاء" إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار؛ وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم؛ لعنادهم عند رؤية المعجزات، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات. والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة "إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" أمعذبين أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ. وقيل: الإشارة إلى جميع أمته. ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمر وحدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم؛ يقول الله تبارك وتعالى "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" يعني بنبيها "وجئنا بك على هؤلاء شهيدا". وموضع "كيف" نصب بفعل مضمر، التقدير فكيف يكون حالهم؛ كما ذكرنا. والفعل المضمر قد يسد مسد "إذا"، والعامل في "إذا" "جئنا". و"شهيدا" حال. وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه، ويجوز عكسه. وسيأتي بيانه في حديث أبي في سورة "لم يكن"، إن شاء الله تعالى. و"شهيدا" نصب على الحال.
الآية: 42 {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديث}
ضمت الواو في "عصوا". لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها. وقرأ نافع وابن عامر "تسوى" بفتح التاء والتشديد في السين. وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين. والباقون ضموا التاء وخففوا السين، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى. والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض. أي يجعلهم والأرض سواء. ومعنى آخر: تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم؛ لأنهم من التراب نقلوا. وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها؛ قاله قتادة. وقيل: الباء بمعنى على، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم؛ عن الحسن. فقراءة التشدد على الإدغام، والتخفيف على حذف التاء. وقيل: إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار؛ وهذا معنى قوله تعالى: "ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" [النبأ: 40]. وقيل: إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في "البقرة" عند قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" [البقرة: 143] الآية. فتقول الأمم الخالية: إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المشركون: "والله ربنا ما كنا مشركين" [الأنعام: 23] فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون؛ فذلك قوله تعالى: "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض "يعني تخسف بهم. والله أعلم.
قوله تعالى: "ولا يكتمون الله حديثا" قال الزجاج: قال بعضهم: "ولا يكتمون الله حديثا" مستأنف؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا؛ لأنه ظهر كذبهم. وسئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: "والله ربنا ما كنا مشركين" فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: "والله ربنا ما كنا مشركين" فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا. وقال الحسن وقتادة: الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها. ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في "الأنعام" إن شاء الله تعالى.
الآية: 43 {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفور}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الآية التي في البقرة "يسألونك عن الخمر والميسر" [البقرة: 219] قال: فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت الآية التي في النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت هذه الآية: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا. وقال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا؛ فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" [البقرة: 219]. قالوا: نشربها للمنفعة لا للإثم؛ فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون؛ فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى". فقالوا: في غير عين الصلاة. فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا؛ فنزلت: "إنما يريد الشيطان" [المائدة: 91] الآية. فقال عمر: انتهينا، انتهينا. ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حرمت؛ على ما يأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى: وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: "قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون" [الكافرون: 1 - 2] ونحن نعبد ما تعبدون. قال: فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا" [النساء: 36]. ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها.
والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر؛ إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم؛ لقوله عليه السلام: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه). وقال عبيدة السلماني: "وأنتم سكارى" يعني إذا كنت حاقنا؛ لقوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم وهو حاقن) في رواية (وهو ضام بين فخذيه).
قلت: وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع، وكل ما يشغل البال ويغير الحال. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء). فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه، فيخشع في صلاته. ويدخل في هذه الآية: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" [المؤمنون: 1 - 2] على ما يأتي بيانه. وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" منسوخ بآية المائدة: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" [المائدة: 6] الآية. فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال؛ وهذا قبل التحريم. وقال مجاهد: نسخت بتحريم الخمر. وكذلك قال عكرمة وقتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران؛ ذكره النحاس. وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها.
قوله تعالى: "لا تقربوا" إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه. والخطاب لجماعة الأمة الصاحين. وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر.
قوله تعالى: "الصلاة" اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا؛ فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها؛ وهو قول أبي حنيفة؛ ولذلك قال "حتى تعلموا ما تقولون". وقالت طائفة: المراد مواضع الصلاة؛ وهو قول الشافعي، فحذف المضاف. وقد قال تعالى "لهدمت صوامع وبيع وصلوات" [الحج: 40] فسمى مواضع الصلاة صلاة. ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل "هذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه. وقال أبو حنيفة: المراد بقوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل" المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي؛ وسيأتي بيانه. وقالت طائفة: المراد الموضع والصلاة معا؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.
قوله تعالى: "وأنتم سكارى" ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال من "تقربوا". و"سكارى" جمع سكران؛ مثل كسلان وكسالى. وقرأ النخعي "سكرى" بفتح السين على مثال فعلى، وهو تكسير سكران؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه. وقرأ الأعمش "سكرى" كحبلى فهو صفة مفردة؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد. والسكر: نقيض الصحو؛ يقال: سكر يسكر مسكرا، من باب حمد يحمد. وسكرت عينه تسكر أي تحيرت؛ ومنه قوله تعالى: "إنما سكرت أبصارنا" [الحجر: 15]. وسكرت الشق سددته. فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل.
وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال قوم: السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان؛ وحملوا السكر في هذه الآية على النوم. وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية.
قلت: وهذا المعنى موجود في أشعارهم؛ وقد قال حسان.
ونشربها فتتركنا ملوكا
وقد أشبعنا هذا المعنى في "البقرة". قال القفال: فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه.
قلت: هذا صحيح، وسيأتي بيانه في "المائدة" إن شاء الله تعالى في قصة حمزة. وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في "المائدة" في قوله تعالى: "فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91].
قوله تعالى: "حتى تعلموا ما تقولون" أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط. والسكران لا يعلم ما يقول؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن السكران لا يلزمه طلاقه. وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزنى؛ واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس. ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز؛ فكذلك من سكر من الشراب. وأجازت طائفة طلاقه؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي، واختلف فيه قول الشافعي. والزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال أبو حنيفة: أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدا في حال سكره؛ وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه. وقال الإمام أبو عبدالله المازري: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران. وقال محمد بن عبدالحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال ابن شاس: ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب. قال: فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعال وأحواله فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها. وقال سفيان الثوري: حد السكر اختلال العقل؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد. وقال أحمد: إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران؛ وحكي عن مالك نحوه. قال ابن المنذر: إذا خلط في قراءته فهو سكران؛ استدلالا بقول الله تعالى: "حتى تعلموا ما تقولون". فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث؛ ولا تصح صلاته وإن صلى الله عليه وسلم قضى. وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي.
قوله تعالى: "ولا جنبا" عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله: "حتى تعلموا" أي لا تصلوا وقد أجنبتم. ويقال: تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى. ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب. وربما خففوه فقالوا: جنب؛ وقد قرأه كذلك قوم. وقال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب؛ مثل عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ومن قال للواحد جانب قال في الجمع: جناب؛ كقولك: راكب وركاب. والأصل البعد؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة؛ قال:
فلا تحرمي نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
ورجل جنب: غريب. والجنابة مخالطة الرجل المرأة.
والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال؛ لقوله عليه السلام: (إنما الماء من الماء) أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال: (يغسل ما مس المرأة من ثم يتوضأ ويصلي). قال أبو عبدالله: الغسل أحوط؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه، وقال في آخره: قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق: هذا منسوخ. وقال الترمذي: كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ.
قلت: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل). أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل). زاد مسلم (وإن لم ينزل). وقال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث (إذا التقى الختانان) وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث (الماء من الماء) لما اختلفوا. وتأوله ابن عباس على الاحتلام؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء.
قوله تعالى: "إلا عابري سبيل" يقال: عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب. وعبرت النهر عبورا، وهذا عبر النهر أي شطه، ويقال: عبر بالضم. والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة. وهذا عابر السبيل أي مار الطريق. وناقة عبر أسفار: لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها. قال الشاعر:
عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضب
وعبر القوم ماتوا. وأنشد:
قضاء الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبور
فإن نعبر فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذور
يقول: إن متنا فلنا أقران، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا.
واختلف العلماء في قوله: "إلا عابري سبيل" فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم: عابر السبيل المسافر. ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم؛ وهذا قول أبي حنيفة؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده. قال ابن المنذر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد. ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد. واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن ليس بنجس). قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي: عابر السبيل الخاطر المجتاز؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي. وقالت طائفة: لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه. وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر. وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة أضطر إلى المرور في المسجد.
قلت: وهذا صحيح؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد؛ فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد). ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). وفي صحيح مسلم: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر). فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذا المسجد طريقا والعبور فيه. واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي). قال علماؤنا: وهذا يجوز أن يكون ذلك؛ لأن بيت علي كان في المسجد، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال: (ما ينبغي لمسلم) الحديث. والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبدالله قال: سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبدالله بن عمر: هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه، لم يكن في المسجد غيرهما؛ وذكر الحديث. فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما. ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء، فيكون هذا مما خص به، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره. وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي. وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سدوا الأبواب إلا باب علي) فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد. وأما قوله: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات، وأبواب البيوت خارجة من المسجد؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له. والخوخات كالكوى والمشاكي، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج. وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله: ولم يكن في المسجد غيرهما. فإن قيل: فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال: كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه. وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا. فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة، ولا يصح له أن يتلبس بها. والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم. فإن قيل: يبطل بالمحدث. قلنا: ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه؛ وفي قوله تعالى: "ولا جنبا إلا عابري سبيل" ما يغني ويكفي. وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه؛ إذ هو أعظم حرمة. وسيأتي بيانه في "الواقعة" إن شاء الله تعالى.
ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ. وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن) أخرجه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا. قال سفيان: قال لي شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه. وأخرجه ابن ماجة قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة؛ فذكره بمعناه، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عباس، عن عبدالله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب؛ أخرجه الدارقطني. وروى عن عكرمة قال: كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت: مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتني ؟ قالت: رأيتك على الجارية؛ فقال: ما رأيتني؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ، وكانت لا تقرأ القرآن، فقال:
أتانا رسول الله يتلوا كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "حتى تغتسلوا" نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال؛ والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم: أفضت عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزئه حتى يتدلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه. وهذا قول المزني واختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ الغسل؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه. قال: وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر واتقوا البشرة) قال: وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه؛ على حد ما ذكرنا.
قلت: لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين: أحدهما: أنه قد خولف في تأويله؛ قال سفيان بن عيينة: المراد بقوله عليه السلام (وأنقوا البشرة) أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج. قال ابن وهب: ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة.
الثاني: إن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف؛ كذا في رواية ابن داسة. وفي رواية اللؤلئي عنه: الحارث بن وجيه ضعيف، حديثه منكر؛ فسقط الاستدلال بالحديث، وبقي المعول على اللسان كما بينا. ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بول ولم يغسله؛ روته عائشة، ونحوه عن أم قيس بنت محصن؛ أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء: يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما الأئمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده؛ وبه قال محمد بن عبدالحكم، وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك؛ قال: وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ابن العربي: وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا، وإنما هي من أوهامه.
قلت: قد روي هذا عن مالك نصا؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين: سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ، قال: مضت صلاته. قال أبو عمر: فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك؛ قياسا عل غسل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل. والعرب تقول: غسلتني السماء. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا، ولو كان واجبا ما تركه؛ لأنه المبين عن الله مراده، ولو فعله لنقل عنه؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر: وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة. وإنما ترد القروع قياسا على الأصول. وبالله التوفيق.
حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا. وقد روي عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة. قال ابن عبدالبر: وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس، وشعبة هذا ليس بالقوي، ويرهما حديث عائشة وميمونة.
ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون: يجعل من يلي ذلك منه، أو يعالجه بخرقه. وفي الواضحة: يمر يديه على ما يدركه من جسده، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه.
واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته؛ فروى ابن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه ذلك. وروى أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ابن عبدالحكم: ذلك هو أحب إلينا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه؛ وعلى هذين القولين العلماء. ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد. وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل.
قلت: ويعضد. هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (تحت كل شعرة جنابة).
وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق؛ لقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" منهم أبو حنيفة؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما أعاد كمن ترك لمعة، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وقال مالك: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين. وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان: هما فرض في الوضوء والغسل جميعا؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض؛ وقال به بعض أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما بالآية، وقوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم "فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا. احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنشاق وأمر به؛ وأمره على الوجوب أبدا.
قال علماؤنا: ولا بد في غسل الجنابة من النية؛ لقوله تعالى: "حتى تغتسلوا" وذلك يقتضي النية؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا وبقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين "[البينة: 5] والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين، وقال عليه السلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا عمل. وقال الأوزاعي والحسن: يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك.
وأما قدر الماء الذي يغتسل به؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. "الفرق "تحرك راؤه وتسكن. قال ابن وهب: "الفرق "مكيال من الخشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية. وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى "الفرق "فقال: ثلاثة آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال: وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قال سفيان: "الفرق "ثلاثة آصع. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. وفي رواية: يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم. ومذهب الأباضية الإكثار من الماء، وذلك من الشيطان.
قوله تعالى: "وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" هذه آية التيمم، نزلت في عبدالرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح؛ فرخص له في أن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وقيل: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة "المريسيع "حين انقطع العقد لعائشة. أخرج الحديث مالك من رواية عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة. وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير: حدثنا محمد قال: أخبرنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم.
قلت: وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القلادة كانت لأسماء؛ خلاف حديث مالك. وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت لأسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء. وهذا بيان لحديث مالك إذا قال: انقطع عقد لعائشة، ولحديث البخاري إذ قال: هلكت قلادة لأسماء. وفيه أن المكان يقال له الصلصل. وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها؛ وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي. وقال في المكان: "الأبواء "كما قال مالك، إلا أنه من غير شك. وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. وجاء في البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده. وهذا كله صحيح المعنى، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة. وأما قوله في حديث الترمذي: فأرسل رجلين قيل: أحدهما أسيد بن حضير. ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع، إذ أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم. فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته. وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا، وضاع العقد ونزلت الآية. وقد قيل: إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق. وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع، إذ هي غزاة واحدة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبدالبر، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل: بل نميلة بن عبدالله الليثي. وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت. وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء. فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه. وقد قيل: إن آية المائدة آية التيمم، على ما يأتي بيانه هناك. قال أبو عمر: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة "المائدة"، أو الآية التي في سورة "النساء". ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان.
قوله تعالى: "مرضى "المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين: كثير ويسير؛ فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الأعضاء، فهذا يتيمم بإجماع؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات. وهذا مردود بقوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج "[الحج: 78] وقوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم "[النساء:29]. وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: "وإن كنتم مرضى أو على سفر "قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم. وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال: رخص للمريض في التيمم بالصعيد. وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة. فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب. قال ابن عطية: فيما حفظت.
قلت: قد ذكر الباجي فيه خلافا؛ قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك. قال ابن العربي: "قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف؛ لأن زيادة المرض غير متحققة؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك. قلنا: قد ناقضت؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك، يبيحه خوف المرض؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور. قال: وعجبا للشافعي يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه".
قلت: الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء. فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي: جواز التيمم. روى أبو داود والدارقطني، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو: (صليت بأصحابك وأنت جنب) ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما "[النساء: 29] فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين؛ وهذا أحد القولين عندنا؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات. والقول الثاني: أنه لا يصلي؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة؛ وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤم المتيمم المتوضئين) إسناده ضعيف. وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء؛ فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال وإنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده). قال الدارقطني: "قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس بالقوي، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب. واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا: رواه ابن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، وأسند الحديث". وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم؛ لقوله تعالى: "وإن كنتم مرضى". قال ابن عطية: وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب، والعلل المخوف عليها من الماء؛ كما تقدم عن ابن عباس.
قوله تعالى: "أو على سفر" يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة. وهذا كله ضعيف. والله أعلم.
أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف؛ وهو قول الطبري. وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى الله عليه وسلم ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، لا غير المريض. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية؛ فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم. فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضر بالمعنى. وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى. وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر؛ كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى. وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء، لقوله تعالى: "فلم يجدوا ماء فتيمموا "فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء. وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا؛ والله أعلم. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء، فالمريض أحرى بذلك. قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة:
أما الكتاب فقوله سبحانه: "أو جاء أحد منكم من الغائط "يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم. نص عليه القشيري عبدالرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب القضاء؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان:
قلت: وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح. وقال ابن حبيب ومحمد بن عبدالحكم. يعيد أبدا؛ ورواه ابن المنذر عن مالك. وقال الوليد عنه: يغتسل وإن طلعت الشمس. وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو "بئر جمل" فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ "بئر". وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه "ثم رد على الرجل السلام وقال: (إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر".
قوله تعالى: "أو جاء أحد منكم من الغائط" الغائط أصله ما انخفض من الأرض، والجمع الغيطان أو الأغواط؛ وبه سمي غوطة دمشق. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة. وغاط في الأرض يغوط إذا غاب.
وقرأ الزهري: "من الغيط" فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف، كهين وميت وشبهه. ويحتمل أن يكون من الغوط؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء؛ كما قالوا في لا حول لا حيل. و"أو "بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر؛ فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه. والصحيح في "أو "أنها على بابها عند أهل النظر. فلأو معناها، وللواو معناها. وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء. والله أعلم.
لفظ "الغائط "يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى. وقد اختلف الناس في حصرها، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال العقل، خارج معتاد، ملامسة. وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس. وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبدالحكم ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعد اللمس. وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء، واختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث؛ ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة.
الطرف الأول: ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله: ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه. رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت: جئتك أسألك عن المسح على الخفين؛ قال: نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة. ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم. قالوا: والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك. وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكاء السنه العينان فمن نام فليتوضأ) وهذا عام. أخرجه أبو داود، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام. فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى الله عليه وسلم؛ وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد. والجمهور على خلاف هذين الطرفين. فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما، وطال نومه على أي حال كان، فقد وجب عليه الوضوء؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم. قال أحمد بن حنبل: فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا. وقال الشافعي: من نام جالسا فلا وضوء عليه؛ ورواه ابن وهب عن مالك. والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم) رواه الأئمة واللفظ للبخاري؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل. وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه: ونوم ثقيل غالب على النفس؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه. وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال: (أو ريح) بدل (أو نوم)، فقال الدارقطني: لم يقل في هذا الحديث (أو ريح) غير وكيع عن مسعر.
قلت: وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة؛ فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف؛ رواه الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى. غط أو نفخ ثم قام فصلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال: (إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله). تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح؛ قال الدارقطني. وأخرجه أبو داود وقال: قوله: (الوضوء على من نام مضطجعا) هو حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة، وروى أوله جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا. وقال أبو عمر بن عبدالبر: هذا حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات، وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني، وأنكروه وليس بحجة فيما نقل. وأما قول الشافعي: على كل نائم الوضوء إلا على الجالس وحده، وإن كل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء؛ فهو قول الطبري وداود، وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر؛ لأن الجالس لا يكاد يستثقل، فهو في معنى النوم الخفيف. وقد روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء). وأما الخارج؛ فلنا ما رواه البخاري قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي. فهذا خارج على غير المعتاد، وإنما هو عرق انقطع فهو مرض؛ وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا، خلافا للشافعي كما ذكرنا. وبالله توفيقنا. ويرد على الحنفي حيث راعى الخارج النجس. فصح ووضح مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه ما تردد نفس، وعنهم أجمعين.
قوله تعالى: "أو لامستم النساء" قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر "لامستم". وقرأ حمزة والكسائي: "لمستم "وفي معناه ثلاثة أقوال: الأول: أن يكون لمستم جامعتم. الثاني: لمستم باشرتم. الثالث: يجمع الأمرين جميعا. و"لامستم "بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الأولى في اللغة أن يكون "لامستم "بمعنى قبلتم أو نظيره؛ لأن لكل واحد منهما فعلا. قال: و"لمستم "بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل.
واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة؛ فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: "وإن كنتم مرضى "الآية، فلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء؛ روي هذا القول عن عمر وابن مسعود. قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمر وعبدالله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار؛ وذلك والله أعلم لحديث عمار وعمران بن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب. وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع. فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجر له ذكر؛ فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه. فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه؛ وعضدوا هذا بما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: فقلت لها من هي إلا أنت ؟ فضحكت. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ. فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء؛ وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضى الآية. وقال علي بن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء. وقال عبدالملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها؛ فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ؛ وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي. وقال الشيخ أبو إسحاق: من أنعظ إنعاظا أنتقض وضوئه؛ وهذا قول مالك في المدونة. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد معلق نقض الطهر به؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه؛ لقوله تعالى: "فلمسوه بأيديهم" [الأنعام: 7]. فهذه خمسة مذاهب أسدها مذهب مالك؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبدالله، وهو قول عبدالله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية؛ فإن قوله في أولها: "ولا جنبا "أفاد الجماع، وإن قوله: "أو جاء أحد منكم من الغائط" أفاد الحدث، وإن قوله: "أو لامستم" أفاد اللمس والقبل. فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والإعلام. ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام.
قلت: وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل؛ رواه وكيع، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى بن سعيد: وذكر حديث الأعمش عن حبيب عن عمرو فقال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيبا لم يسمع من عروة شيئا؛ قال الدارقطني. فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به. قلنا: تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة. فإن قيل: إن الملامسة هي الجماع وقد روي ذلك عن ابن عباس. قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبدالله بن مسعود وهو كوفي، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع. قلنا: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامس وملموس.
جواب آخر: وهو أن الملامسة قد تكون من واحد؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه "وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام". وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير.
فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة، فبين الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء. قلنا: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بينا. وقد قرئ "لمستم" كما ذكرنا. وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا؛ وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة. ولو احتلط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا. ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى يفضي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية. واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها، فمرة قال: ينتقض الوضوء؛ لقوله تعالى: "أو لامستم النساء "فلم يفرق. والثاني لا ينقض؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهن. قال المروزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب؛ لأن الله عز وجل قال: "أو لامستم النساء "ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة؛ وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة. قال: وكذلك عامة التابعين. قال المروزي: فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما. قال: ولا يصح ذلك في النظر؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته، وغير مماس لها في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها. وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب عليه وضوء؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة.
قلت: أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قول إلا الليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا: إذا لمس فالتذ وجب الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء. وأما قوله: "ولا يصح ذلك في النظر" فليس بصحيح؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانيا، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غمز رجل عائشة؛ كما في رواية القاسم عن عائشة (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما) أخرجه البخاري. فهذا يخص عموم قوله: "أو لامستم" فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس. ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصد. ولا يقال: فلعله كان على قدمي عائشة ثوب، أو كان يضرب رجليها بكمه؛ فإنا نقول: حقيقة الغمز إنما هو باليد؛ ومنه غمزك الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا. والرجل من النائم الغالب عليها ظهورها من النائم؛ لا سيما مع امتداده وضيق حاله. فهذه كانت الحال في ذلك الوقت؛ ألا ترى إلى قولها: (وإذا قام بسطتهما) وقولها: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). وقد جاء صريحا عنها قالت: (كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما) أخرجه البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان؛ الحديث. فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض.
فإن قيل: كان على قدمه حائل كما قال المزني. قيل له: القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل، والأصل الوقوف مع الظاهر؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص.
فإن قيل: فقد أجمعت الأمة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك، أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها؛ فكذلك حكم من قبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء؛ لأن المعنى في الجسة واللمسة والقبلة الفعل لا اللذة. قلنا: قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادعيتموه من الإجماع. سلمناه، لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة. وقد قال الشافعي - فيما زعمتم إنه لم يسبق إليه، وقد سبقه إليه شيخه مالك؛ كما هو مشهور عندنا "إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي "وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه؛ إذ المقصود وجود الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. وهذا يرد ما قال الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد، فقصره عليه دون غيره من الأعضاء؛ حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض لذلك وضوءه. وقال في الرجل يقبل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثور: لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم.
قوله تعالى: "فلم تجدوا ماء" الأسباب التي لا يجد المسافر معها الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره؛ وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى الله عليه وسلم. ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره. ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، أو بأن يسجن أو يربط. وقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا ضعيف، لأن دين الله يسر. وقالت طائفة: يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا. وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله. وقيل لأشهب: أتشترى القربة بعشرة دراهم ؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس. وقال الشافعي بعدم الزيادة.
واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط، وهو قول الشافعي. وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم؛ وهو قول أبي حنيفة. وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه. قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء "وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله؛ كالصوم مع العتق في الكفارة.
وإذا ثبت هذا وعدم الماء، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الأمران، فهذه ثلاثة أحوال: فالأول: يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت: لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت. الثاني: يتيمم وسط الوقت؛ حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه. الثالث: يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار؛ قال ابن حبيب. ولو علم الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم: يجزئه، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة. وقال عبدالملك بن الماجشون: إن وجد الماء بعد أعاد أبدا.
والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إما الماء وإما التراب.
فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا؛ لأن المطلوب من وجود الكفاية. وقال الشافعي في القول الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمم؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم؛ والصحيح أنه يعيد؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط. والقول الآخر لا يعيد؛ وهو قول مالك؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده.
وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير؛ لقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء" فقال: هذا نفي في نكرة، وهو يعم لغة؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير؛ لانطلاق اسم الماء عليه. قلنا: النفي في النكرة يعم كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد، وسيأتي حكم المياه في "الفرقان"، إن شاء الله تعالى.
وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء؛ وقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء فتيمموا "يرده. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود، وليس بثابت؛ لأن الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبدالله؛ قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في "الفرقان "بيانه إن شاء الله تعالى.
الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته. وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى: { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه؛ سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء؛ فلما كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده.
وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة "الفرقان"، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "فتيمموا" التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا) وذكر الحديث، وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه. وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه، والكلام ههنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله، ومن يجوز له التيمم، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه.
فالتيمم لغة هو القصد. تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه. وأنشد الخليل:
يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال الخليل: من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ؛ لأنه قال: "شزرا "ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس:
تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال أيضا:
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
آخر:
إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت بعيري غيره بلدا
وقال أعشى بأهلة:
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمة ذي شزن
وقال حميد بن ثور:
سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
وللشافعي:
علمي معي حيثما يممت أحمله بطني وعاء له لا بطن صندوق
قال ابن السكيت: قوله تعالى "فتيمموا صعيدا طيبا "أي اقصدوا؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم: "قد تيمم الرجل "معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه. قلت: وهذا هو التيمم الشرعي، إذا كان المقصود به القربة. ويممت المريض فتيمم للصلاة. ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب؛ عن الشيباني. وأنشد:
إنا وجدنا أعصر بن سعد ميمم البيت رفيع المجد
وقال آخر:
أزهر لم يولد بنجم الشح ميمم البيت كريم السنح
لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في "البقرة "وفي هذه السورة و"المائدة "والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في "النساء" والأخرى في "المائدة". فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها: "فأنزل الله آية التيمم". ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم.
قلت: أما قوله: "فلا نعلم أية آية عنت عائشة "فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم. وقوله: "وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم "في صحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم. فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل. وفي قوله: "فنزلت آية التيمم "ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء؛ وهذا بين لا إشكال فيه.
التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل، وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة. واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج). فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء؛ فحكمه إذا حكم الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى: "فلم تجدوا ماء "ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا المعنى؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت). وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس.
وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر: (إذا وجدت الماء فأمسه جلدك) إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، رواه ابن جريج وعبدالحميد بن جبير بن شيبة عنه؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث. وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة. قال ابن عبدالبر: وهذا تناقض وقلة روية. ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.
وأجمعوا على أن من تيمم على ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه؛ وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة؛ لأنه أدى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة. واستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين). أخرجه أبو داود وقال: وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: ثم وجد الماء بعد في الوقت.
واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخول في الصلاة؛ فقال مالك: ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل؛ وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض. قالوا: والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى: "ولا تبطلوا أعمالكم "[محمد: 33]. وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في. الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، واختلفوا في قطعها إذا رئي الماء؛ ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء.
واختلفوا هل يصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؛ فقال شريك بن عبدالله القاضي: يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك: لكل فريضة؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن بن حي وداود: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء؛ وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، فهي طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث؛ وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول الوقت؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوزونه؛ لأنه لما قال الله تعالى "فلم تجدوا ماء فتيمموا "ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى هذا لا يصلى فرضين بتيمم واحد، وهذا بين. واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه: يعيد أبدا. وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية أبدا. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا؛ لأن طلب الماء شرط. وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلوات: إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط. والأول أصح. والله أعلم.
قوله تعالى: "صعيدا طيبا" الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جزرا" [الكهف: 8] أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا. وقال تعالى "فتصبح صعيدا زلقا" [الكهف: 40]. ومنه قول ذي الرمة:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. وجمع الصعيد صعدات؛ ومنه الحديث (إياكم والجلوس في الصعدات ). واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب؛ فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. و"طيبا "معناه طاهرا. وقالت فرقة: "طيبا "حلالا؛ وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد التراب المنبت وهو الطيب؛ قال الله تعالى: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه "[الأعراف: 58] فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وذكر عبدالرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال: الحرث. قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه: هو التراب خاصة. وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره؛ حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه. وقال الكيا الطبري: واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال الكيا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) بين ذلك.
قلت: فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام: (وجعلت تربتها لنا طهورا ) وقالوا: هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: "فيهما فاكهة ونخل ورمان" [الرحمن: 68] وقد ذكرناه في "البقرة "عند قوله "وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل" [البقرة: 98]. وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا، وهو نص القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان. وقال صلى الله عليه وسلم للجنب: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) وسيأتي. في "صعيدا "على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد. و"طيبا "نعت له. ومن جعل "طيبا "بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر.
وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن خويز منداد: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه؛ وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في التيمم على العود؛ فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوقار أنه جائز. وقيل: بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل. وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال: وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده عاف الجمد والثلج أجزأه. قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان: الإجازة والمنع؛ وفي التيمم على الجدار خلاف.
قلت: والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. أخرجه البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغبر التراب كما يقول مالك ومن وافقه. ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد. وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال ابن عطية: وهذا خطأ بحت من جهات. قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه. وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال: يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به. وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللبد. قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق. قال: فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه؛ لأنه ليس من جنس الأرض.
قوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح: مسح الشيء بالسيف وقطعه. ومسحت الإبل يومها إذا سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا إست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمراد هنا بالمسح عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "[المائدة: 6]. فقوله "منه "يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما؛ وفي رواية: نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة؛ يوضحه تيممه على الجدار. قال الشافعي: لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه؛ وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة؛ حكاه ابن عطية. وقال الله عز وجل: "بوجوهكم وأيديكم "فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البخاري من حديث عمار في "باب التيمم ضربة "ذكر اليدين قبل الوجه. وقال بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء.
واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين؛ فقال ابن شهاب: إلى المناكب. وروي عن أبي بكر الصديق. وفي مصنف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل: يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك في المدونة: يعيد في الوقت. وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله وابن عمر وبه كان يقول. قال الدارقطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين. قال: وحدثني محدث عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إلى المرفقين ). قال أبو إسحاق: فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه !. وقالت طائفة: يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري. وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم. وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط. فقلت: عمن أخذت هذا ؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن الله تعالى يقول: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم "فهي يد كلها. قلت له: فإن الله تعالى يقول: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "[المائدة: 38] فمن أين تقطع اليد ؟ قال: فخصمته. وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية: هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين. وهو قول الشعبي.
واختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري والليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبدالله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم: التيمم بضربة واحدة. وروي عن الأوزاعي في الأشهر عنه؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع: يعيد أبدا. قال أبو عمر وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حي: ضربتان؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه، ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر؛ فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف عنده. وبالله التوفيق.
قوله تعالى: "إن الله كان عفوا غفورا" أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.
الآيات: 44 - 53 {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما، ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا، ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا، أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقير}
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب "إلى قوله تعالى: "فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه "الآية.
نزلت في يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب "إلى قوله "قليلا". ومعنى "يشترون "يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى "[البقرة: 16] قاله القتبي وغيره. "ويريدون أن تضلوا السبيل" عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق. وقرأ الحسن: "تضلوا "بفتح الضاد أي عن السبيل.
قوله تعالى: "والله أعلم بأعدائكم" يريد منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون "أعلم "بمعنى عليم؛ كقوله تعالى: "وهو أهون عليه "[الروم: 27] أي هين. "وكفى بالله وليا" الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و"وليا "و "نصيرا" نصب على البيان، وإن شئت على الحال.
قوله تعالى: "من الذين هادوا" قال الزجاج: إن جعلت "من "متعلقة بما قبل فلا يوقف على قول "نصيرا"، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على "نصيرا "والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم؛ ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون:
لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم
قالوا: المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها؛ ثم حذف. وقال الفراء: المحذوف "من" المعنى: من الذين هادوا من يحرفون. وهذا كقوله تعالى: "وما منا إلا له مقام معلوم" [الصافات: 164] أي من له. وقال ذو الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يذري عبرة العين بالهمل
يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول. وأنكره المبرد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة. "يحرفون" يتأولونه على غير تأويله. وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين. وقيل: "عن مواضعه" يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم. "ويقولون سمعنا وعصينا" أي سمعنا قولك وعصينا أمرك. "واسمع غير مسمع" قال ابن عباس: كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع لا سمعت، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن ومجاهد. معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس: ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك. وتقدم القول في "راعنا". ومعنى "ليا بألسنتهم" أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللي الفتل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله. وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. "وطعنا" معطوف عليه أي يطعنون في الدين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى "أقوم" أصوب لهم في الرأي. "فلا يؤمنون إلا قليلا "أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان. وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم.
قوله تعالى: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا" قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم: (يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق ) قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها "إلى آخر الآية.
قوله تعالى: "مصدقا لما معكم" نصب على الحال. "من قبل أن نطمس وجوها" الطمس استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى: "فإذا النجوم طمست "[المرسلات: 8]. ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس؛ يقال: طمس الأثر وطسم أي أمحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى: "ربنا اطمس على أموالهم"[يونس: 88] أي أهلكها؛ عن ابن عرفة. ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد. وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين؛ ومنه قوله تعالى: "ولو نشاء لطمسنا على أعينهم "[يس: 66] يقول أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان. روي عن أبي بن كعب أنه قال: "من قبل أن نطمس "من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة. وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء. أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا "فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وكذلك فعل عبدالله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر. وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
قوله تعالى: "أو نلعنهم" أي أصحاب الوجوه "كما لعنا أصحاب السبت" أي نمسخهم قردة وخنازير؛ عن الحسن وقتادة. وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة "وكان أمر الله مفعولا" أي كائنا موجودا. ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به.
قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: "إن الله يغفر الذنوب جميعا "[الزمر: 53] فقال له رجل: يا رسول الله والشرك ! فنزل "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة. "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقول: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم "[النساء: 31] فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر "الفرقان". قال زيد بن ثابت: نزلت سورة "النساء "بعد "الفرقان "بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل. وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي "الفرقان "إن شاء الله تعالى. وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "قال: هذا حديث حسن غريب.
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه"، وقولهم: "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى "وقال الضحاك والسدي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبدالله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية: التطهير والتبرية من الذنوب.
هذه الآية وقوله تعالى: "فلا تزكوا أنفسكم" [النجم: 32] يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم ) فقالوا: بم نسميها ؟ فقال: (سموها زينب ). فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا.
فأما تزكية الغير ومدحه له؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك ). وفي الحديث الآخر (قطعتم ظهر الرجل ) حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (احثوا التراب في وجوه المداحين ) إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات "والله يعلم المفسد من المصلح". وقد مدح في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك. كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ). وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا: عبدالله ورسوله ) فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا. وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: "ولا يظلمون فتيلا" الضمير في "يظلمون" عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل. وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية. والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة؛ قال ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما؛ فهو فعيل بمعنى مفعول. وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: "ولا يظلمون نقيرا" [النساء: 124] وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي. قال الشاعر يذم بعض الملوك:
تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا
ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: "انظر كيف يفترون على الله الكذب" في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جريج. وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. والافتراء الاختلاق؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه. وفريت الشيء قطعته. "وكفى به إثما مبينا" نصب على البيان. والمعنى تعظيم الذنب وذمه. العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم.
قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب" يعني اليهود "يؤمنون بالجبت والطاغوت" اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. ابن مسعود: الجبت والطاغوت ههنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب. عكرمة: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى: "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت "[النساء:60]. قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن. وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقول مالك في هذا الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى: "أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "[النحل: 36] وقال تعالى: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها "[الزمر: 17]. وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ). الطرق الزجر، والعيافة الخط؛ خرجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان. والله أعلم.
قوله تعالى: "ويقولون للذين كفروا" أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد. وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق. نحن أم محمد ؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد.
قوله تعالى: "أم لهم نصيب من الملك" أي ألهم ؟ والميم صلة. "نصيب" حظ "من الملك" وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم. وقيل: المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟. "فإذا لا يؤتون الناس نقيرا "أي يمنعون الحقوق. خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس أيضا: النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض. وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ. وفلان كريم النقير أي الأصل. و"إذا "هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: "إذا "في عوامل الأفعال بمنزلة "أظن "في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت؛ كقولك: أنا أزورك فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك. قال عبدالله بن عنتمة الضبي:
اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذن يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل "إذن "تام فوقعت ابتداء كلام. فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك. زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا. وفي التنزيل "وإذا لا يلبثون "[الإسراء: 76] وفي مصحف أبي "وإذا لا يلبثوا". وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعه كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه "إذا" لمضارعتها "أن"، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا. وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف.
الصفحة رقم 85 من المصحف تحميل و استماع mp3