تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 85 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 85

85 : تفسير الصفحة رقم 85 من القرآن الكريم

** الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً * وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً
يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب, واليتامى, والمساكين, والجار ذي القربى, والجار الجنب, والصاحب بالجنب, وابن السبيل, وما ملكت أيمانكم من الأرقاء, ولا يدفعون حق الله فيها, ويأمرون الناس بالبخل أيضاً, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأي داء أدوأ من البخل». وقال: «إياكم والشح, فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا, وأمرهم بالفجور ففجروا».
وقوله تعالى: {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} فالبخيل جحود لنعمة الله لا تظهر عليه ولا تبين, لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله, كما قال تعالى: {إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد} أي بحاله وشمائله {وإنه لحب الخير لشديد} وقال ههنا {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} ولهذا توعدهم بقوله: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهين} والكفر هو الستر والتغطية, فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعم الله عليه, وفي الحديث «إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه», وفي الدعاء النبوي «واجعلنا شاكرين لنعمتك, مثنين بها عليك قابليها, وأتممها علينا» وقد حمل بعض السلف هذه الاَية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك, ولهذا قال تعالى: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهين}, رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس, وقاله مجاهد و غير واحد, ولا شك أن الاَية محتملة لذلك, والظاهر أن السياق في البخل بالمال, وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى, فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء, وكذلك الاَية التي بعدها وهي قوله {الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء, ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم, ولا يريدون بذلك وجه الله, وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم: العالم, والغازي, والمنفق المراؤون بأعمالهم, «يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك, فيقول الله: كذبت إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل» أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك, وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لعدي بن حاتم «إن أباك رام أمراً فبلغه». وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان: هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه ؟ فقال: «لا, إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين», ولهذا قال تعالى: {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر} الاَية, أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان, فإنه سول لهم وأملى لهم, وقارنهم فحسن لهم القبائح, ولهذا قال تعالى: {ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قرين}, ولهذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينهفكل قرين بالمقارن يقتدي

ثم قال تعالى: {وماذا عليهم لوآمنوا بالله وباليوم الاَخر وأنفقوا مما رزقهم الله} الاَية, أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة, وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ورجاء موعوده في الدار الاَخرة لمن أحسن عملاً, وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها, وقوله {وكان الله بهم عليم} أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة, وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه, ويلهمه رشده, ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه, وبمن يستحق الخذلان والطرد عن الجناب الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه, فقد خاب وخسر في الدنيا والاَخرة, عياذاً بالله من ذلك.

** إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَـَؤُلآءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ لَوْ تُسَوّىَ بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً
يقول تعالى مخبراً: إنه لا يظلم أحداً من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة,بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة, كما قال تعالى: {ونضع الموازين القسط} الاَية, وقال تعالى مخبراً عن لقمان أنه قال: {يا بنيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله} الاَية, وقال تعالى: {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم, فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل, وفيه «فيقول الله عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان, فأخرجوه من النار» وفي لفظ: «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان, فأخرجوه من النار فيخرجون خلقاً كثيراً» ثم يقول أبو سعيد: اقرؤوا إن شئتم {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة, عن عبد الله بن السائب, عن زاذان, قال: قال عبد الله بن مسعود: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والاَخرين: هذا فلان بن فلان, من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها, ثم قرأ {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً, فينصب للناس فينادى: هذا فلان بن فلان, من كان له حق فليأت إلى حقه. فيقول: رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طُلبته, فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ علينا {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفه} قال: ادخل الجنة وإن كان عبداً شقياً قال الملك: رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير, فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضعفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار, ورواه ابن جرير من وجه آخر عن زاذان به نحوه ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق عن عطية العوفي حدثني عبد الله بن عمر, قال: نزلت هذه الاَية في الأعراب {من جاء بالحسنة فله عشر أمثاله} قال رجل: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: ما هو أفضل من ذلك {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيم}, وحدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله: {وإن تك حسنة يضاعفه} فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً, وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال: يا رسول الله, إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك, فهل نفعته بشيء ؟ قال «نعم هو في ضحضاح من نار, ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عمران, حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجزى بها في الاَخرة, وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة» وقال أبو هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله: {ويؤت من لدنه أجراً عظيم}: يعني الجنة, نسأل الله رضاه والجنة, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان, قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة, قال: فقُضي أني انطلقت حاجاً أو معتمراً, فلقيته فقلت: بلغني عنك حديث أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يجزى العبد بالحسنة ألف ألف حسنة» فقلت: ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة, وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت أريد أن الحقه فوجدته قد انطلق حاجاً, فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته فقلت: يا أبا هريرة: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال: يا أبا عثمان, وما تعجب من ذا والله يقول {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} ويقول {وما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة» قال: وهذا حديث غريب, وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير, ورواه أحمد أيضاً فقال: حدثنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, قال أتيت أبا هريرة, فقلت له: بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ! قال: وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة», ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا أبو خلاد وسليمان بن خلاد المؤدب, حدثنا محمد الرفاعي عن زياد بن الجصاص, عن أبي عثمان النهدي, قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة, فقدم قبلي حاجاً وقدمت بعده, فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة» فقلت: ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة, وما سمعت منه هذا الحديث, فهممت أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجاً, فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث, ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال: حدثنا بشر بن مسلم, حدثنا الربيع بن روح, حدثنا محمد بن خالد الذهبي, عن زياد الجصاص, عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» فقال أبو هريرة: والله بل سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الاَية {وما متاع الحياة الدنيا في الاَخرة إلا قليل} وقوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} يقول تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه, فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة حين يجيء من كل أمة بشهيد, يعني الأنبياء عليهم السلام, كما قال تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} الاَية¹ وقال تعالى: {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم} الاَية, وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إبراهيم عن عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ علي» فقلت: يا رسول الله آقرأ عليك, وعليك أنزل ؟ «قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الاَية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} فقال «حسبك الاَن» فإذا عيناه تذرفان, ورواه هو ومسلم أيضاً من حديث الأعمش به, وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود فهو مقطوع به عنه ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا, حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري, حدثنا فضيل بن سليمان, حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري عن أبيه, قال: وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر, فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم, ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً فقرأ حتى أتى على هذه الاَية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه, فقال: «يا رب, هذا شهدت على من أنا بين ظهريه, فكيف بمن لم أره», وقال ابن جرير: حدثني عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان, عن المسعودي, عن جعفر بن عمرو بن حريث, عن أبيه, عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الاَية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شهيد عليهم ما دمت فيهم, فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم». وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في التذكرة حيث قال: باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته, قال: أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض فيه على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية, فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم, فلذلك يشهد عليهم, يقول الله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} فإنه أثر وفيه انقطاع, فإن فيه رجلاً مبهماً لم يسم, وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه, وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس, وعلى الأنبياء والاَباء والأمهات يوم الجمعة, قال: ولا تعارض, فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم, ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديث} أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ, كقوله: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} الاَية, وقوله: {ولا يكتمون الله حديث} إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام, حدثنا عمرو عن مطرف, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: سمعت الله عز وجل يقول ـ يعني إخباراً عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا ـ {والله ربنا ما كنا مشركين} وقال في الاَية الأخرى: {ولا يكتمون الله حديث} فقال ابن عباس: أما قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام, قالوا: تعالوا فلنجحد, فقالوا {والله ربنا ما كنا مشركين} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم {ولا يكتمون الله حديث}¹ وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن, قال: ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال: ليس هو بالشك, ولكن اختلاف قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك, قال أسمع الله يقول {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} وقال {ولا يكتمون الله حديث} فقد كتموا. فقال ابن عباس: أما قوله: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركاً جحد المشركون, فقالوا {والله ربنا ما كنا مشركين} رجاء أن يغفر لهم, فختم الله على أفواههم, وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون, فعند ذلك {يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديث}وقال جويبر عن الضحاك: إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس, قول الله تعالى: {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديث} وقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين}, فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك, فقلت: ألقى على ابن عباس متشابه القرآن, فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد, فيقول المشركون: إن الله لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده, فيقولون: تعالوا نجحد: فيسألهم فيقولون {والله ربنا ما كنا مشركين} قال: فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم {ولا يكتمون الله حديث} رواه ابن جرير.

** يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مّرْضَىَ أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول, وعن قربان محالها التي هي المساجد للجنب, إلا أن يكون مجتازاً من باب إلى باب من غير مكث, وقد كان هذا قبل تحريم الخمر, كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر} الاَية. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر, فقال «اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً», فلما نزلت هذه الاَية تلاها عليه فقال «اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً» فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} إلى قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر, فذكر الحديث وفيه: فنزلت الاَية التي في النساء {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي: أن لا يقربن الصلاة سكران, لفظ أبي داود. ذكروافي سبب نزول هذه الاَية ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثا شعبة, أخبرني سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات, صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار, فأكلنا وشربنا حتى سكرنا, ثم افتخرنا, فرفع رجل لَحْىَ بعير ففزر به أنف سعد, فكان سعد مفزور الأنف, وذلك قبل تحريم الخمر, فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الاَية, والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة, ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه من طرق عن سماك به.
(سبب آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي, حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب, عن أبي عبد الرحمن السلمي, عن علي بن أبي طالب, قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر, فأخذت الخمر منا, وحضرت الصلاة فقدموا فلاناً, قال فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون, فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} هكذا رواه ابن أبي حاتم, وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد, عن عبد الرحمن الدشتكي به, وقال: حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن محمد بن بشار, عن عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب, عن أبي عبد الرحمن, عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر, شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ {قل يا أيها الكافرون} فخلط فيها, فنزلت {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري به, ورواه ابن جرير أيضاً عن ابن حميد, عن جرير, عن عطاء, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: كان علي في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف, فطعموا فأتاهم بخمر فشربوا منها, وذلك قبل أن يحرم الخمر, فحضرت الصلاة فقدموا علياً فقرأ بهم {قل يا أيها الكافرون} فلم يقرأها كما ينبغي, فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} ثم قال: حدثني المثنى, حدثنا الحجاج بن المنهال, حدثنا حماد عن عطاء بن السائب, عن عبد الرحمن بن حبيب وهو أبو عبد الرحمن السلمي: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً, فدعا نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب, فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون, وأنتم عابدون ما أعبد, وأنا عابد ما عبدتم, لكم دينكم ولي دين, فأنزل الله عز وجل هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} وقال العوفي عن ابن عباس في الاَية: إن رجالاً كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر, فقال الله {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الاَية, رواه ابن جرير, وكذا قال أبو رزين ومجاهد. وقال عبد الرزاق عن معمر, عن قتادة: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر. وقال الضحاك في الاَية: لم يعن بها سكر الخمر وإنما عنى بها سكر النوم, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم, ثم قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب, قال: ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب, لأن ذاك في حكم المجنون, وإنما خوطب بالنهي الثمل الذي يفهم التكليف, وهذا حاصل ما قاله, وقد ذكره غير واحد من الأصوليين, وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون السكران الذي لا يدري ما يقال له فإن الفهم شرط التكليف, وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار, فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً, والله أعلم, وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك. وقوله {حتى تعلموا ما تقولون} هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول, فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبي, حدثنا أيوب عن أبي قلابة, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم, ورواه هو والنسائي من حديث أيوب به. وفي بعض ألفاظ الحديث «فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه» وقوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلو} قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن الدشتكي, أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس في قوله: {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلو} قال لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب, إلا عابري سبيل, قال: تمر به مراً, ولا تجلس, ثم قال: وروي عن عبد الله بن مسعود, وأنس, وأبي عبيدة, وسعيد بن المسيب, وأبي الضحى, وعطاء, ومجاهد, ومسروق, وإبراهيم النخعي, وزيد بن أسلم, وأبي مالك, وعمرو بن دينار, والحكم بن عتيبة, وعكرمة, والحسن البصري, ويحيى بن سعيد الأنصاري, وابن شهاب, وقتادة نحو ذلك, وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا أبو صالح, حدثني الليث, حدثنا يزيد بن أبي حبيب, عن قول الله عز وجل {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد, فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم, فيردون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد, فأنزل الله {ولا جنباً إلا عابري سبيل} ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله, ما ثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر» وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم, علماً منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده, ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين, فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد, إلا بابه رضي الله عنه, ومن روى إلا باب علي, كما وقع في بعض السنن فهو خطأ, والصواب ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الاَية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد, ويجوز له المرور, وكذا الحائض والنفساء أيضاً, في معناه, إلا أن بعضهم قال: يمنع مرورهما لاحتمال التلويث, ومنهم من قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور, جاز لهما المرور, وإلا فلا. وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناوليني الخمرة من المسجد» فقلت: إني حائض, فقال «إن حيضتك ليست في يدك» وله عن أبي هريرة مثله, ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد, والنفساء في معناها, والله أعلم, وروى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة العامري, عن جسرة بنت دجاجة, عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب», قال أبو مسلم الخطابي: ضعف هذا الحديث جماعة وقالوا: أفلت مجهول, لكن رواه ابن ماجه, من حديث أبي الخطاب الهجري, عن محدوج الذهلي, عن جسرة, عن أم سلمة, عن النبي صلى الله عليه وسلم به, قال أبو زرعة الرازي: يقولون: جسرة, عن أم سلمة, والصحيح جسرة عن عائشة, فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي: من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية, عن أبي سعيد الخدري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا علي لا يحل لأحد أن يجنب, في هذا المسجد غيري وغيرك» فإنه حديث ضعيف لا يثبت, فإن سالماً هذا متروك, وشيخه عطية ضعيف, والله أعلم.
(حديث آخر) في معنى الاَية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا المنذر بن شاذان, حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرني ابن أبي ليلى عن المنهال, عن زر بن حبيش, عن علي {ولا جنباً إلا عابري سبيل} قال: لا يقرب الصلاة, إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة, فلا يجد الماء فيصلي, حتى يجد الماء, ثم رواه من وجه آخر عن المنهال بن عمرو, عن زر, عن علي بن أبي طالب, فذكره. قال: وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات, وسعيد بن جبير والضحاك, نحو ذلك. وقد روى ابن جرير, من حديث وكيع, عن ابن أبي ليلى عن المنهال, عن عباد بن عبد الله, أو عن زر بن حبيش عن علي, فذكره. ورواه من طريق العوفي وأبي مجلز: عن ابن عباس, فذكره. ورواه عن سعيد بن جبير, وعن مجاهد, والحسن بن مسلم, والحكم بن عتيبة, وزيد بن أسلم, وابنه عبد الرحمن مثل ذلك. وروى من طريق ابن جريج عن عبد الله بن كثير, قال: كنا نسمع أنه في السفر. ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي قلابة عن عمر بن بُجْدان, عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصعيد الطيب طهور المسلم, وإن لم تجد الماء عشر حجج, فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك, فإن ذلك خير» ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين: والأولى قول من قال {ولا جنباً إلا عابري سبيل} أي إلا مجتازي طريق فيه, وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب, في قوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر} إلى آخره, فكان معلوماً بذلك أن قوله {ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلو} لو كان معنياً به المسافر, لم يكن لإعادة ذكره في قوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر} معنى مفهوم, وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك, فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الاَية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها, وأنتم سكارى, حتى تعلموا ما تقولون, ولا تقربوها أيضاً جنباً, حتى تغتسلوا, إلا عابري سبيل, قال: والعابر السبيل: المجتاز مراً وقطعاً, يقال منه: عبرت هذا الطريق, فأنا أعبره عبرا وعبوراً, ومنه يقال عبر فلان النهر, إذا قطعه وجاوزه, ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار, هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار, وهذا الذي نصره, هو قول الجمهور, وهو الظاهر من الاَية, وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها, وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة, وهي الجنابة المباعدة للصلاة, ولمحلها أيضاً, والله أعلم. وقوله {حتى تغتسلو} دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة, أبو حنيفة ومالك والشافعي, أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم, إن عدم الماء, أو لم يقدر على استعماله بطريقه, وذهب الإمام أحمد: إلى أنه متى توضأ الجنب, جاز له المكث في المسجد, لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد, هو الدراوردي, عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, يجلسون في المسجد وهم مجنبون, إذا توضؤوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد على شرط مسلم, والله أعلم.
وقوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيب} أما المرض المبيح للتيمم, فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء, فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء, ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض, لعموم الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس, عن خُصَيْف عن مجاهد في قوله {وإن كنتم مرضى} قال: نزلت في رجل من الأنصار, كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ, ولم يكن له خادم فيناوله, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فأنزل الله هذه الاَية, هذا مرسل والسفر معروف, ولا فرق فيه بين الطويل والقصير, وقوله {أو جاء أحد منكم من الغائط} الغائط هو المكان المطمئن من الأرض, كنى بذلك عن التغوط, وهو الحدث الأصغر, وأما قوله {أو لامستم النساء} فقرىء لمستم ولامستم, واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين: (أحدهما): أن ذلك كناية عن الجماع, لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونه} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله {أو لامستم النساء} قال: الجماع. وروي عن علي وأبي بن كعب ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان, نحو ذلك, وقال ابن جرير: حدثني حميد بن مسعدة,حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا شعبة عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, قال: ذكروا اللمس, فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع, وقال ناس من العرب: اللمس الجماع, قال: فأتيت ابن عباس فقلت له: إن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس, فقالت الموالي: ليس بالجماع, وقالت العرب: الجماع, قال: فمن أي الفريقين كنت ؟ قلت: كنت من الموالي, قال: غُلب فريق الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع, ولكن الله يكني ما شاء بما شاء, ثم رواه عن ابن بشار, عن غندر, عن شعبه به نحوه, ثم رواه من غير وجه, عن سعيد بن جبير نحوه. ومثله قال: حدثني يعقوب, حدثنا هشيم, قال حدثنا أبو بشر: أخبرنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: اللمس والمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني بما يشاء, حدثنا عبد الحميد بن بيان, أنبأنا إسحاق الأزرق, عن سفيان, عن عاصم الأحول, عن بكر بن عبد الله, عن ابن عباس, قال: الملامسة: الجماع, ولكن الله كريم يكني بما يشاء, وقد صح من غير وجه, عن عبد الله بن عباس, أنه قال ذلك, ثم رواه ابن جرير: عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم, ثم قال ابن جرير وقال آخرون: عنى الله تعالى بذلك كل لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان, وأوجبوا الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه, ثم قال: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان, عن مخارق, عن طارق, عن عبد الله بن مسعود, قال: اللمس ما دون الجماع, وقد رواه من طرق متعددة, عن ابن مسعود بمثله, وروى من حديث الأعمش, عن إبراهيم, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود, قال: القبلة من المس وفيها الوضوء. وروى الطبراني بإسناده, عن عبد الله بن مسعود, قال: يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس بيده, ومن القبلة, وكان يقول في هذه الاَية {أو لامستم النساء} هو الغمز, وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عبيد الله بن عمر, عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة, ويرى فيها الوضوء, ويقول: هي من اللماس. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً: من طريق شعبة عن مخارق, عن طارق, عن عبد الله, قال: اللمس ما دون الجماع, ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر, وعبيدة, وأبي عثمان النهدي, وأبي عبيدة يعني ابن عبد الله بن مسعود, وعامر الشعبي, وثابت بن الحجاج, وإبراهيم النخعي, وزيد بن أسلم, نحو ذلك, (قلت) وروى مالك, عن الزهري, عن سالم بن عبد الله بن عمر, عن أبيه, أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة, فمن قبل امرأته أوجسها بيده, فعليه الوضوء, وروى الحافظ أبوالحسن الدار قطني في سننه: عن عمر بن الخطاب نحو ذلك, ولكن روينا عنه من وجه آخر: أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ, فالرواية عنه مختلفة, فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه, على الاستحباب, والله أعلم. والقول بوجوب الوضوء من المس, هو قول الشافعي وأصحابه, ومالك, والمشهور عن أحمد بن حنبل رحمهم الله, قال ناصر هذه المقالة: قد قرىء في هذه الاَية لامستم ولمستم, واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد, قال تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم} أي جسوه, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا, يعرّض له بالرجوع عن الإقرار: «لعلك قبلت أو لمست», وفي الحديث الصحيح «واليد زناها اللمس», وقالت عائشة رضي الله عنها: قلّ يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا, فيقبل ويلمس, ومنه ما ثبت في الصحيحين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة, وهو يرجع إلى الجس باليد, على كلا التفسيرين, قالوا: ويطلق في اللغة على الجس باليد, كما يطلق على الجماع, قال الشاعر:
وألمست كفي كفه أطلب الغنى
واستأنسوا أيضاً بالحديث الذي رواه أحمد, حدثنا عبد الله بن مهدي, وأبو سعيد, قالا: حدثنا زائدة, عن عبد الملك بن عمير, وقال أبو سعيد: حدثنا عبد الملك بن عمير, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن معاذ, قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله, ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها, فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها, غير أنه لم يجامعها, قال: فأنزل الله عز وجل هذه الاَية {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}, قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «توضأ ثم صلّ» قال معاذ: فقلت: يا رسول الله, أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال «بل للمؤمنين عامة», ورواه الترمذي من حديث زائدة به, وقال: ليس بمتصل, ورواه النسائي: من حديث شعبة, عن عبد الملك بن عمير, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, مرسلاً, قالوا: فأمره بالوضوء, لأنه لمس المرأة ولم يجامعها, وأجيب بأنه منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ, فإنه لم يلقه, ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة, كما تقدم في حديث الصديق: «ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له» الحديث, وهو مذكور في سورة آل عمران, عند قوله {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} الاَية, ثم قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أو لامستم النساء} الجماع, دون غيره من معاني اللمس, لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه, ثم صلى ولم يتوضأ, ثم قال: حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي, قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عروة, عن عائشة, قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ, ثم يقبل ثم يصلي, ولا يتوضأ, ثم قال: حدثنا أبو كريب, حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن حبيب, عن عروة, عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قبّل بعض نسائه, ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ, قلت: من هي إلا أنت ؟ فضحكت, وهكذا رواه أبو داود والترمذي, وابن ماجه, عن جماعة من مشايخهم, عن وكيع به, ثم قال أبو داود: روي عن الثوري أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني, وقال يحيى القطان لرجل: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء, وقال الترمذي: سمعت البخاري يضعف هذا الحديث, وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة, وقد وقع في رواية ابن ماجه: عن أبي بكر بن أبي شيبة, وعلي بن محمد الطنافسي, عن وكيع, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عروة بن الزبير, عن عائشة, وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده: من حديث هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, وهذا نص في كونه عروة بن الزبير, ويشهد له قوله: من هي إلا أنت فضحكت, لكن روى أبو داود عن إبراهيم بن مخلد الطالقاني, عن عبد الرحمن بن مغراء, عن الأعمش, قال: حدثنا أصحاب لنا, عن عروة المزني, عن عائشة, فذكره, والله أعلم. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو زيد, عمر بن شَبّةَ عن شهاب بن عباد, حدثنا مندل بن علي, عن ليث, عن عطاء, عن عائشة وعن أبي روق, عن إبراهيم التيمي, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء, ثم لا يعيد الوضوء, وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن أبي روق الهمداني, عن إبراهيم التيمي, عن عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل ثم صلى ولم يتوضأ, رواه أبو داود والنسائي, من حديث يحيى القطان, زاد أبو داود: وابن مهدي, كلاهما عن سفيان الثوري به. ثم قال أبو داود والنسائي: لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة, ثم قال ابن جرير أيضاً: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي, حدثنا أبي, حدثنا يزيد بن سنان, عن عبد الرحمن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة, عن أم سلمة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم, ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً. وقال أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا حفص بن غياث, عن حجاج, عن عمرو بن شعيب, عن زينب السهمية, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. وقد رواه الإمام أحمد, عن محمد بن فضيل, عن حجاج بن أرطأة, عن عمرو بن شعيب, عن زينب السهمية, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم به, وقوله تعالى: {فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيب} استنبط كثير من الفقهاء من هذه الاَية: أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء, فمتى طلبه فلم يجده, جاز له حينئذ التيمم, وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع, كما هو مقرر في موضعه, كما هو في الصحيحين من حديث عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم, فقال «يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم, ألست برجل مسلم» قال: بلى يا رسول الله, ولكن أصابتني جنابة ولا ماء, قال «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» ولهذا قال تعالى: {فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيب} فالتيمم في اللغة, هو القصد, تقول العرب: تيممك الله بحفظه, أي قصدك, ومنه قول امرىء القيس شعراً:
ولما رأت أن المنية وردهاوأن الحصى من تحت أقدامها داميتيممت العين التي عند ضارجيفيء عليها الفيء عرمضها طامي

والصعيد قيل: هو كل ما صعد على وجه الأرض, فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والحجر والنبات, وهو قول مالك, وقيل: ما كان من جنس التراب, كالرمل والزرنيخ والنورة, وهذا مذهب أبي حنيفة, وقيل: هو التراب فقط, وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما, واحتجوا بقوله تعالى: {فتصبح صعيداً زلق} أي تراباً أملس طيباً, وبما ثبت في صحيح مسلم, عن حذيفة بن اليمان, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة, وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً, وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» وفي لفظ «وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» قالوا: فخصص الطهورية بالتراب, في مقام الامتنان, فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه, والطيب ههنا قيل: الحلال, وقيل: الذي ليس بنجس, كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن, إلا ابن ماجه من حديث أبي قلابة, عن عمرو بن بُجْدان, عن أبي ذر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصعيد الطيب طهور المسلم, وإن لم يجد الماء عشر حجج, فإذا وجده فليمسه بشرته فإن ذلك خير» وقال الترمذي: حسن صحيح, وصححه ابن حبان أيضاً, ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده, عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان, وقال ابن عباس: أطيب الصعيد تراب الحرث, رواه ابن أبي حاتم, ورفعه ابن مردويه في تفسيره, وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به, لا أنه بدل منه في جميع أعضائه, بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع, ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال: أحدها وهو مذهب الشافعي في الجديد: أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين, لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين, وعلى ما يبلغ المرفقين, كما في آية الوضوء, ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين, كما في آية السرقة {فاقطعوا أيديهم} قالوا: وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية, وذكر بعضهم: ما رواه الدارقطني عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التيمم ضربتان: ضربة للوجه, وضربة لليدين إلى المرفقين» ولكن لا يصح, لأن في أسانيده ضعفاء, لا يثبت الحديث بهم, وروى أبو داود عن ابن عمر, في حديث, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه, ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه, ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي, وقد ضعفه بعض الحفاظ, ورواه غيره من الثقات, فوقفوه على فعل ابن عمر, قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي: وهو الصواب, وقال البيهقي: رفع هذا الحديث منكر, واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد, عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية, عن الأعرج, عن ابن الصمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه. وقال ابن جرير: حدثني موسى بن سهل الرملي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا خارجة بن مصعب, عن عبد الله بن عطاء, عن موسى بن عقبة, عن الأعرج, عن أبي جهيم, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول, فسلمت عليه, فلم يرد عليّ حتى فرغ, ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه, فمسح بهما وجهه, ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين, ثم رد علي السلام. والقول الثاني: أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين, وهو قول الشافعي في القديم. والثالث: أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الحكم, عن ذر, عن ابن عبد الرحمن بن أبزى, عن أبيه, أن رجلاً أتى عمر, فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء, فقال عمر لا تصل, فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء, فأما أنت فلم تصل, وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت, فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له, فقال «إنما كان يكفيك, وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض, ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه» وقال أحمد أيضاً: حدثنا عفان, حدثنا أبان, حدثنا قتادة, عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى, عن أبيه, عن عمار, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم «ضربة للوجه والكفين».
(طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد, عن سليمان الأعمش, حدثنا شقيق, قال: كنت قاعداً مع عبد الله وأبي موسى, فقال أبو موسى لعبد الله: لو أن رجلاً لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله: لا, فقال أبو موسى: أما تذكر إذ قال عمار لعمر: ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل, فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب, فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «إنما كان يكفيك أن تقول هكذا, وضرب بكفيه إلى الأرض, ثم مسح كفيه جميعاً, ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة» ؟ فقال عبد الله: لا جرم, ما رأيت عمر قنع بذاك, قال: فقال له أبو موسى: فكيف بهذه الاَية في سورة النساء {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيب} ؟ قال: فما درى عبد الله ما يقول, وقال: لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم: وقال تعالى في آية المائدة {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} استدل بذلك الشافعي, على أنه لا بد في التيمم, أن يكون بتراب طاهر, له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء, كما روى الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة: أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول, فسلم عليه فلم يرد عليه, حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه, فضرب بيده عليه, ثم مسح وجهه وذراعيه, وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} أي في الدين الذي شرعه لكم {ولكن يريد ليطهركم} فلهذا أباح لكم, إذا لم تجدوا الماء, أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد, {وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم, دون سائر الأمم, كما ثبت في الصحيحين, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي, نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» وفي لفظ «فعنده طهوره ومسجده, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة» وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم «فضلنا على الناس بثلاث, جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة, وجعلت لنا الأرض مسجداً وتربتها طهوراً إذا لم نجد الماء» وقال تعالى في هذه الاَية الكريمة: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفور} أي ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم أن شرع التيمم, وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء, توسعة عليكم ورخصة لكم, وذلك أن هذه الاَية الكريمة فيها تنزيه الصلاة, أن تفعل على هيئة ناقصة, من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول, أو جنابة حتى يغتسل, أو حدث حتى يتوضأ, إلا أن يكون مريضاً أو عادماً للماء, فإن الله عز وجل قد أرخص في التيمم, والحالة هذه رحمة بعباده ورأفة بهم , وتوسعة عليهم, ولله الحمد والمنة.
(ذكر سبب نزول مشروعية التيمم) وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الاَية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة, وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتّم تحريم الخمر, والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير يقال: في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير, وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ولا سيما صدرها, فناسب أن يذكر السبب ههنا, وبالله الثقة. قال أحمد: حدثنا ابن نمير عن هشام, عن أبيه, عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها فوجدوها, فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء, فشكوا ذلك إلى رسول الله, فأنزل الله آية التيمم, فقال أسيد بن الحضير لعائشة: جزاك الله خيراً, فو الله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً.
(طريق أخرى) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف, أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه, عن عائشة, قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش, انقطع عقد لي, قأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه, وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء, فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة, أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام, فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر, وقال ما شاء الله أن يقول, وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على)فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم, فتيمموا, فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر, قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته, وقد رواه البخاري أيضاً عن قتيبة وإسماعيل, ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن صالح قال, قال ابن شهاب: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس, عن عمار بن ياسر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه زوجته عائشة, فانقطع عقد لها من جزع ظفار, فحبس الناس ابتغاء عقدها, وذلك حتى أضاء الفجر, وليس مع الناس ماء, فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب, فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض, ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً, فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب, ومن بطون أيديهم إلى الاَباط. وقد رواه ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا صيفي, عن ابن أبي ذئب, عن الزهري, عن عبيد الله, عن أبي اليقظان, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلك عقد لعائشة, فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر, فتغيظ أبو بكر على عائشة, فنزلت عليه رخصة المسح بالصعيد الطيب, فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة نزلت فيك رخصة, فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا, وضربة لأيدينا إلى المناكب والاَباط.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث, حدثنا محمد بن مرزوق, حدثنا العباس بن أبي سَويّة, حدثني الهيثم بن رُزيق المالكي من بني مالك بن كعب بن سعد وعاش مائة وسبع عشرة سنة, عن أبيه, عن الأسلع بن شريك, قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة, وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة, فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب, وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض, فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها, ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت, ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فقال: «يا أسلع ما لي أرى رحلتك تغيرت» قلت: يا رسول الله لم أرحلها, رحلها رجل من الأنصار, قال «ولم» ؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي, فأمرته أن يرحلها, ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتلست به, فأنزل الله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} إلى قوله {إن الله كان عفواً غفور} وقد روي من وجه آخر عنه.