تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 84 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 84

84- تفسير الصفحة رقم84 من المصحف
الآية: 34 {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبير}
قوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء" ابتداء وخبر، أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن؛ وأيضا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو، وليس ذلك في النساء. يقال: قوام وقيم. والآية نزلت في سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير فلطمها؛ فقال أبوها: يا رسول الله، أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام: (لتقتص من زوجها). فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال عليه السلام: (ارجعوا هذا جبريل أتاني) فأنزل الله هذه الآية؛ فقال عليه السلام: (أردنا أمرا وأراد الله غيره). وفي رواية أخرى: (أردت شيئا وما أراد الله خير). ونقض الحكم الأول. وقد قيل: إن في هذا الحكم المردود نزل "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" [طه: 114]. ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ. لحجاج - قال حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي لطم وجهي. فقال: (بينكما القصاص)، فأنزل الله تعالى: "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه". وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل: "الرجال قوامون على النساء". وقال أبو روق: نزلت في جميلة بنت أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس. وقال الكلبي: نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع. وقيل: سببها قول أم سلمة المتقدم. ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث، فنزلت "ولا تتمنوا" الآية. ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق؛ ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن. ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير؛ فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف؛ فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك، وبقوله تعالى: "وبما أنفقوا من أموالهم".
ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها. و"قوام" فعال للمبالغة؛ من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد. فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد؛ وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية؛ وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد راعى بعضهم في التفضيل اللحية - وليس بشيء؛ فإن اللحية قد تكون وليس معها شيء مما ذكرنا. وقد مضى الرد على هذا في "البقرة".
فهم العلماء من قوله تعالى: "وبما أنفقوا من أموالهم" أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد؛ لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ؛ لقوله تعالى: "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" [البقرة: 280] وقد تقدم القول في هذا في هذه السورة.
قوله تعالى: "فالصالحات قانتات حافظات للغيب" هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك) قال: وتلا هذه الآية "الرجال قوامون على النساء" إلى آخر الآية. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: (ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته "أخرجه أبو داود. وفي مصحف ابن مسعود "فالصوالح قوانت حوافظ". وهذا بناء يختص بالمؤنث. قال ابن جني: والتكسير أشبه لفظا بالمعنى؛ إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود ههنا. و"ما" في قوله: "بما حفظ الله" مصدرية، أي بحفظ الله لهن. ويصح أن تكون بمعنى الزي، ويكون العائد في "حفظ" ضمير نصب. وفي قراءة أبي جعفر "بما حفظ الله" بالنصب. قال النحاس: الرفع أبين؛ أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته وتسديده. وقيل: بما حفظهن الله في مهورهن وعشرتهن. وقيل: بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن. ومعنى قراءة النصب: بحفظهن الله؛ أي بحفظهن أمره أو دينه. وقيل في التقدير: بما حفظن الله، ثم وحد الفعل؛ كما قيل:
فإن الحوادث أودى بها
وقيل: المعنى بحفظ الله؛ مثل حفظت الله.
قوله تعالى: "واللاتي تخافون نشوزهن" اللاتي جمع التي وقد تقدم. قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون. وقيل هو على بابه. والنشوز العصيان؛ مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض. يقال: نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما؛ ومنه قوله عز وجل: "وإذا قيل انشزوا فانشزوا" [المجادلة: 11] أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى. فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج. وقال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه؛ يقال: نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء. ونشصت تنشص، وهي السيئة للعشرة. وقال ابن فارس: ونشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها. قال ابن دريد: نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد.
قوله تعالى: "فعظوهن" أي بكتاب الله؛ أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). وقال: (لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب). وقال: (أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) في رواية (حتى تراجع وتضع يدها في يده). وما كان مثل هذا.
قوله تعالى: "واهجروهن في المضاجع" وقرأ ابن مسعود والنخعي وغيرهما "في المضجع" على الإفراد؛ كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع. والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها؛ عن ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: جنبوا مضاجعهن؛ فيتقدر على هذا الكلام حذف، ويعضده "اهجروهن" من الهجران، وهو البعد؛ يقال: هجره أي تباعد ونأى عنه. ولا يمكن بعدها إلا بترك مضاجعتها. وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك، واختاره ابن العربي وقال: حملوا الأمر على الأكثر الموفي. ويكون هذا القول كما تقول: اهجره في الله. وهذا أصل مالك.
قلت: هذا قول حسن؛ فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها؛ فيتبين أن النشوز من قبلها. وقيل: "اهجروهن" من الهجر وهو القبيح من الكلام، أي غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره؛ قال معناه سفيان، وروي عن ابن عباس. وقيل: أي شدوهن وثاقا في بيوتهن؛ من قولهم: هجر البعير أي ربطه بالهجار، وهو حبل يشد به البعير، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال. وفي كلامه في هذا الموضع نظر. وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال: يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر؛ فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها: أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة؛ ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة. فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير. وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه. ولا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولي.
قوله تعالى: "واضربوهن" أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب؛ فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه. والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها؛ فإن المقصود منه الصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب. وفي صحيح مسلم: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح) الحديث. أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج، أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب. وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن). وقال: هذا حديث حسن صحيح. فقوله: "بفاحشة مبينة" [النساء: 19] يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم. وليس المراد بذلك الزنى؛ فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح). قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه. وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله).
قوله تعالى: "فإن أطعنكم" أي تركوا النشوز. "فلا تبغوا عليهن سبيلا" أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل. وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن. وقيل: المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن.
قوله تعالى: "إن الله كان عليا كبيرا" إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب؛ أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله؛ فيده بالقدرة فوق كل يد. فلا يستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف، هنا بالعلو والكبر.
وإذا ثبت هذا فاعلم. أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا إلا هنا وفي الحدود العظام؛ فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء. قال المهلب: إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة. واختلف في وجوب ضربها في الخدمة، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف. وقال ابن خويز منداد. والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها، فإذا رجعت عادت حقوقها؛ وكذلك كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها. ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة؛ فأدب الرفيعة العذل، وأدب الدنيئة السوط. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ علق سوطه وأدب أهله). وقال: (إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه). وقال بشار:
الحر يلحى والعصا للعبد
يلحى أي يلام؛ وقال ابن دريد:
واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا
قال ابن المنذر: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة. وقال أبو عمر: من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا. وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة الناشز فأوجبها. وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها. ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز؛ لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا. والله أعلم.
الآية: 35 {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبير}
قوله تعالى: "وإن خفتم شقاق بينهما" قد تقدم معنى الشقاق في "البقرة". فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه. والمراد إن خفتم شقاقا بينهما؛ فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك: يعجبني سير الليلة المقمرة، وصوم يوم عرفة. وفي التنزيل: "بل مكر الليل والنهار" [سبأ: 33]. وقيل: إن "بين" أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية؛ إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبهما "فابعثوا". و"ختم" على الخلاف المتقدم. قال سعيد بن جبير: الحكم أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع. وقد قيل: له أن يضرب قبل الوعظ. والأول أصح لترتيب ذلك في الآية.
والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله: "وإن خفتم" الحكام والأمراء. وأن قول: "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما" يعني الحكمين؛ في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين. وقيل: المراد الزوجان؛ أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين "يوفق الله بينهما". وقيل: الخطاب للأولياء. يقول: "إن خفتم" أي علمتم خلافا بين الزوجين "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة؛ إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه. فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما. فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ له الحق من صاحبه ويجبر على إزالة الضرر. ويقال: أن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له: أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال: لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله النشوز. وإن قال: إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعلم أنه ليس بناشز. ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها: أتهوين زوجك أم لا؛ فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد؛ فيعلم أن النشوز من قبلها. وإن قالت: لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهى؛ فذلك قوله تعالى: "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها".
قال العلماء: قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا؛ لأنهن إما طائعة وإما ناشز؛ والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا. فإن كان الأول تركا؛ لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول: يا بني هاشم، والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة، أين شيبة بن ربيعة؛ فيسكت عنها، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت؛ فنشرت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما؛ وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما. فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة. فإن أنابا ورجعا تركاهما، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما. وتفريقهما جائز على الزوجين؛ وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما. والفراق في ذلك طلاق بائن. وقال قوم: ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك، وليعرفا الإمام؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان. ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق. وهذا أحد قولي الشافعي؛ وبه قال الكوفيون، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن، وبه قال أبو ثور. والصحيح الأول، لأن للحكمين التطليق دون توكيل؛ وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس، وعن الشعبي والنخعي، وهو قول الشافعي؛ لأن الله تعالى قال: "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى؛ فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر !. وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" قال: جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت، المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة؛ قال أبو عمر. فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما ؟ وهذا بين. احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به. فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه. وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين.
فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه. وكذلك كل حكمين حكما في أمر؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا. وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال: تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة؛ وهو قول ابن القاسم. وقال ابن القاسم أيضا: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها؛ وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة. وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء.
ويجزئ إرسال الواحد؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود، ثم قد أرسل. النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له: (إن اعترفت فأرجمها) وكذلك قال عبدالملك في المدونة.
قلت: وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك، وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين. فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة. هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا، ولو كان غير عدل قال عبدالملك: حكمه منقوض؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر. قال ابن العربي: والصحيح نفوذه؛ لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ، وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل، وباب القضاء مبني على الغرر كله، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يؤول إليه الحكم. قال ابن العربي: مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين، واختلاف ما بينهما. وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه. وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا: يجعلان على يدي أمين؛ وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزؤوا. وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر، فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي. ولا تعجب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة، ولكن أعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر، بل اعجب مرتين للشافعي فإنه قال: الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما. قال: وذلك أني وجدت الله عز رجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة. وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج؛ فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك. وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين. قال ابن العربي: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر. أما قوله: "الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين" فليس بصحيح بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء؛ فإن الله تعالى قال: "الرجال قوامون على النساء" [النساء: 34] - ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما. وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصا، يكون ظاهرا؛ فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر ؟. ثم قال: "وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه". ثم قال: "فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية. فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية". وأما قوله "برضى الزوجين وتوكيلهما" فخطأ صراح؛ فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه. هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه. وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى. وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل.
الآية: 36 {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخور}
أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ. وكذلك هي في جميع الكتب. ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب. وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار، لمن له الحكم والاختيار؛ فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره؛ قال الله تعالى "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" [الكهف: 110] حتى لقد قال بعض علمائنا: إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه؛ لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص؛ كما قال تعالى: "ألا لله الدين الخالص" [الزمر: 3]. وقال تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" [البينة: 5]. وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره؛ لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وروى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل - وهو أعلم - إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي). وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء).
مسألة: إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم. وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". [النساء: 48]. ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة، وقد تبرأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام. ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة وهو الرياء؛ وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهذا هو الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه، وهو مبطل للأعمال وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي. ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه "الرعاية" وبين إفساده للأعمال. وفي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك). وفيه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيخ الدجال فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ الدجال ؟) قال: فقلنا بلى يا رسول الله؛ فقال: (الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل). وفيه عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية) خرجه الترمذي الحكيم. وسيأتي في آخر الكهف، وفيه بيان الشهوة الخفية. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهوة الخفية فقال: (هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه). قال سهل بن عبدالله التستري رضي الله عنه: الرياء على ثلاثة وجوه؛ أحدها: أن يعقد في أصل فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله، فهذا صنف من النفاق وتشكك في الإيمان. والآخر: يدخل في الشيء لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط، فهذا إذا تاب يزيد أن يعيد جميع ما عمل. والثالث: دخل في العمل بالإخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح عليه وسكن إلى مدحهم؛ فهذا الرياء الذي نهى الله عنه. قال سهل: قال لقمان لابنه: الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا، وإنما عمل القوم للآخرة. قيل له: فما دواء الرياء ؟ قال كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل ؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله. قال: وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل. وقال أيوب السختياني: ما هو بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله.
قلت: قول سهل "والثالث دخل في العمل بالإخلاص" إلى آخره، إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبروه وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم؛ لأن قلبه مغمور فرحا باطلاعهم عليه، وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ. فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا يحب إطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة؛ كما قال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" [يونس: 58]. وبسط هذا وتتميمه في كتاب "الرعاية للمحاسبي"، فمن أراده فليقف عليه هناك. وقد سئل سهل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم (أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني) قال: يعجبه من جهة الشكر لله الذي أظهره الله عليه أو نحو هذا. فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الأعمال. وقد مضى في "البقرة". حقيقة الإخلاص. والحمد لله.
قوله تعالى: "وبالوالدين إحسانا" قد تقدم في صدر هذه السورة أن من الإحسان إليهما عتقهما، ويأتي في "سبحان" [الإسراء: 1] حكم برهما معنى مستوفى. وقرأ ابن أبي عبلة "إحسان" بالرفع أي واجب الإحسان إليهما. الباقون بالنصب، على معنى أحسنوا إليهما إحسانا. قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان؛ فقال تعالى: "أن اشكر لي ولوالديك. [لقمان: 14]. وروى شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلي بن عطاء عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين".
قوله تعالى: "وبذي القربى واليتامى والمساكين" وقد مضى الكلام فيه في (البقرة).
قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب" أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه. ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى: "والجار ذي القربى" أي القريب. "والجار الجنب" أي الغريب؛ قال ابن عباس، وكذلك هو في اللغة. ومنه فلان أجنبي، وكذلك الجنابة البعد. وأنشد أهل اللغة:
فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وقال الأعشى:
أتيت حريثا زائرا عن جنابة فكان حريث عن عطائي جامدا
وقرأ الأعمش والمفضل "والجار الجنب" بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان؛ يقال: جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة، وجمعه أجانب. وقيل: على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية. وقال نوف الشامي: "الجار ذي القربى" المسلم "والجار الجنب" اليهودي والنصراني.
قلت: وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا، وهو الصحيح. والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه. روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وروي عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: يا رسول الله ومن ؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) وهذا عام في كل جار. وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات، وأنه لا يؤمن الكامل من أذى جاره. فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار).
روى البخاري عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: (إلى أقربهما منك بابا). فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى: "والجار ذي القربى" وأنه القريب المسكن منك. "والجار الجنب" هو البعيد المسكن منك. واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار، وعضدوه وبقوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه). ولا حجة في ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره. قال ابن المنذر: فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق. وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له. وعوام العلماء يقولون: إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره؛ إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللصيق وحده.
واختلف الناس في حد الجيرة؛ فكان الأوزاعي يقول: أربعون دارا من كل ناحية؛ وقال ابن شهاب. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه. وقال علي بن أبي طالب: من سمع النداء فهو جار. وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد. وقالت فرقة: من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار. قال الله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون" [الأحزاب: 60] إلى قوله: "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا" فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا. والجيرة مراتب بعضها الصق من بعض، أدناها الزوجة؛ كما قال:
أيا جارتا بيني فإنك طالقة
ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك). فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة. وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب. والله أعلم.
قال العلماء: لما قال عليه السلام "فأكثر ماءها" نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء؛ ولذلك لم يقل: إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها؛ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد. ولقد أحسن القائل:
قدري وقدر الجار واحدة وإليه قبلي ترفع القدر
ولا يهدى النزر اليسير المحتقر؛ لقوله عليه السلام: (ثم أنظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف) أي بشيء يهدى عرفا؛ فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر، وعلى المهدى إليه قبوله؛ لقوله عليه السلام: (يا نساء المؤمنات لا تحتقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا) أخرجه مالك في موطئه. وكذا قيدناه (يا نساء المؤمنات) بالرفع على غير الإضافة، والتقدير: يا أيها النساء المؤمنات؛ كما تقول يا رجال الكرام؛ فالمنادى محذوف وهو يا أيها، والنساء في التقدير النعت لأيها، والمؤمنات نعت للنساء. قد قيل: فيه: يا نساء المؤمنات بالإضافة، والأول أكثر.
من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره). ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكنافكم. روي "خشبه وخشبة" على الجمع والإفراد. وروي "أكتافهم" بالتاء و"أكنافهم" بالنون. ومعنى "لأرمين بها" أي بالكلمة والقصة. وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه خلاف بين العلماء. فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والإحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب؛ بدليل قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه). قالوا: ومعنى قوله (لا يمنع أحدكم جاره) هو مثل معنى قوله عليه السلام: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها). وهذا معناه عند الجميع الندب، على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك. وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث: إلى أن ذلك على الوجوب. قالوا: ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب. وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: لا والله. فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك؛ رواه مالك في الموطأ. وزعم الشافعي في كتاب "الرد" أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب؛ وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه. قال أبو عمر: ليس كما زعم الشافعي؛ لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر، ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر، وعبدالرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر، والنظر، يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة؛ فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها؛ هذا أو نحوه. أجاب الأولون فقالوا: القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما في الحكم. فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب. واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال: استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول: أبشر هنيئا لك الجنة؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره). والأعمش لا يصح له سماع من أنس، والله أعلم. قاله أبو عمر.
ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار، وهو حديث معاذ بن جبل قال: قلنا يا رسول الله، ما حق الجار ؟ قال: (إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بنار قدرك إلا أن تعرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله) أو كلمة نحوها. هذا حديث جامع وهو حديث حسن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي.
قال العلماء: الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا. وفي الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال: (لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين). ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء؛ فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية: (ابدئي بجارنا اليهودي). وروي أن شاة ذبحت في أهل عبدالله بن عمرو فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
قوله تعالى: "والصاحب بالجنب" أي الرفيق في السفر. وأسد الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القويم؛ فقال: كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال: (كلا يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحابته ولو ساعة من نهار). وقال ربيعة بن أبي عبدالرحمن: للسفر مروءة وللحضر مروءة؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاج في غير مساخط الله. وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل. ولبعض بني أسد - وقيل إنها لحاتم الطائي:
إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي له مركب فضلا فلا حملت رجلي
ولم يك من زادي له شطر مزودي فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل
شريكان فيما نحن فيه وقد أرى علي له فضلا بما نال من فضلي
وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى: "الصاحب بالجنب" الزوجة. ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. والأول أصح؛ وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك. وقد تتناول الآية الجميع بالعموم. والله أعلم.
قوله تعالى: "وابن السبيل" قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارا. والسبيل الطريق؛ فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه. ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده.
قوله تعالى: "وما ملكت أيمانكم" أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فعلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة؛ فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) قلت: يا رسول الله، من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم). وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه، فقال له قائل: لو أنزلته يسعى خلف دابتك؛ فقال أبو هريرة: لأن يسعى معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي. وخرج أبو داود عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله). لايمكم وافقكم. والملايمة الموافقة. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق) وقال عليه السلام: (لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي) وسيأتي بيانه في سورة يوسف عليه السلام. فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزية على عبيدهم، إذ الكل عبيدالله والمال مال الله، لكن سخر بعضهم لبعض، وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة؛ فإن أطعموهم أقل مما يأكلون، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفه ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه. ولا خلاف في ذلك والله أعلم. وروى مسلم عن عبدالله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال لا. قال: فأنطلق فأعطهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم).
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه). ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد. وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص وقال عليه السلام: (من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين). وقال عليه السلام: (لا يدخل الجنة سيئ الملكة). وقال عليه السلام: (سوء الخلق شوم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء).
واختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد؛ فروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران) والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مدتين). فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد؛ لأنه مخاطب من جهتين: مطالب بعبادة الله، مطالب بخدمة سيده. وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبدالبر النمري وأبو بكر محمد بن عبدالله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ.
استدل من فضل الحر بأن قال: الاستقلال بأمور الدين والدنيا وإنما يحصل بالأحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلال، وكالآلة المصرفة بالقهر، وكالبهيمة المسخرة بالجبر؛ ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة المقدار، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر، وعناؤه أعظم فثوابه أكثر. وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله: لولا الجهاد والحج؛ أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور. والله أعلم.
روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي - وروي حتى كاد - وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا). ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره.
قوله تعالى: "إن الله لا يحب" أي لا يرضى. "من كان مختالا فخورا" فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته؛ أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة. وفي هذا ضرب من التوعد. والمختال ذو الخيلاء أي الكبر. والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا. والفخر: البذخ والتطاول. وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم. وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه "والجار الجنب" بفتح الجيم وسكون النون. قال المهدوي: هو على تقدير حذف المضاف؛ أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية. وأنشد الأخفش:
الناس جنب والأمير جنب
والجنب الناحية، أي المتنحي عن القرابة. والله أعلم.
الآية: 37 {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهين}
قوله تعالى: "الذين يبخلون" "الذين" في موضع نصب على البدل من "من" في قوله: "من كان" ولا يكون صفة؛ لأن "من" و"ما" لا يوصفان ولا يوصف بهما. ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور. ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه. ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف، أي الذين يبخلون، لهم كذا، أو يكون الخبر "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" [النساء:40]. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني، فتكون الآية في المؤمنين؛ فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان.
قوله تعالى: "يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه. وهو مثل قوله تعالى: "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله" [آل عمران: 180] الآية. وقد مضى في "آل عمران" القول في البخل وحقيقته، والفرق بينه وبين الشح مستوفى. والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود؛ فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية، والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولا الذين يبخلون؛ على ما ذكرنا من إعرابه.
قوله تعالى: "وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا" فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا.