تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 90 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 90

90- تفسير الصفحة رقم90 من المصحف
الآية: 75 - وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصير}
قوله تعالى: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله" حض على الجهاد. وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه؛ لقوله عليه السلام (فكوا العاني ) وقد مضى في "البقرة". وكذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة. فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا؛ قولان للعلماء، أصحهما الرجوع.
قوله تعالى: "والمستضعفين" عطف على اسم الله عز وجل، أي وفي سبيل المستضعفين، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله. وهذا اختيار الزجاج وقال الزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم؛ فالسبيلان مختلفان. ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام: (اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين). وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين. في البخاري عنه "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان "فقال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله، أنا من الولدان وأمي من النساء.
قوله تعالى: "من هذه القرية الظالم أهلها" القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين. ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير. وهذا كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، والكريم أبوه، والحسنة جاريته. وإنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير، فلو قلت: مررت بالرجل الكريم عمر ولم تجز المسألة؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء. ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع، لأنها تقوم مقام الفعل، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين. وتقول: مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم. "واجعل لنا من لدنك" أي من عندك. "وليا" أي من يستنقذنا "واجعل لنا من لدنك نصيرا" أي ينصرنا عليهم.
الآية: 76 {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيف}
قوله تعالى: "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله" أي في طاعته. "والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت" قال أبو عبيدة والكسائي: الطاغوت يذكر ويؤنث. قال أبو عبيد: وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. قال أبو إسحاق: الدليل على أنه الشيطان قوله عز وجل: "فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا" أي مكره ومكر من اتبعه. ويقال: أراد به يوم بدر حين قال للمشركين "لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم" [الأنفال: 48] على ما يأتي.
الآية: 77 {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيل}
روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبدالرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال: (إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ). فلما حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فنزلت الآية. أخرجه النسائي في سننه، وقاله الكلبي. وقال مجاهد: هم يهود. قال الحسن: هي في المؤمنين؛ لقوله: "يخشون الناس" أي مشركي مكة "كخشية الله" فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. قال السدي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين؛ والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله. "أو أشد خشية" أي عندهم وفي اعتقادهم.
قلت: وهذا أشبه بسياق الآية، لقوله: "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب "أي هلا، ولا يليها إلا الفعل. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة. والله أعلم.
قوله تعالى: "قل متاع الدنيا قليل" ابتداء وخبر. وكذا "والآخرة خير لمن اتقى" أي المعاصي؛ وقد مضى القول في هذا في "البقرة" ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها ) وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة "مستوفى.
الآية: 78 {أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديث}
قوله تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت" شرط ومجازاة، و"ما" زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا: "لولا أخرتنا إلى أجل قريب "أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا، لقولهم لما أصيب أهل أحد، قالوا: "لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا "[آل عمران: 156] فرد الله عليهم "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة "قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. وواحد البروج برج، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طرفة يصف ناقة:
كأنها برج رومي تكففها بان بشيد واجر وأحجار
وقرأ طلحة بن سليمان "يدرككم "برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله:
من يفعل الحسنات اللهُ يشكرها
أراد فالله يشكرها.
واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح. إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها. وقال قتادة: في قصور محصنة. وقاله ابن جريج والجمهور، ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد: البروج القصور. ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى "مشيدة "مطولة، قال الزجاج والقتبي. عكرمة: المزينة بالشيد وهو الجص. قال قتادة: محصنة. والمشيد والمشيد سواء، ومنه "وقصر مشيد "[الحج: 45] والتشديد للتكثير. وقيل المشيد المطول، والمشيد المطلي بالشيد. يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره. وقال السدي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية. وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى: "والسماء ذات البروج "[البروج: 1] و"جعل في السماء بروجا "[الفرقان: 61] "ولقد جعلنا في السماء بروجا "[الحجر: 16]. وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: "في بروج مشيدة" معناه في قصور من حديد. قال ابن عطية: وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ.
هذه الآية ترد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة "فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به. وقالت المعتزلة: إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد تقدم الرد عليهم في "آل عمران "ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين.
اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس، وهي سنة الله في عباده. وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول: التوكل ترك الأسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع. وقد قيل للأحنف: ما حكمة السور ؟ فقال: ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه. الرابعة: وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع، وهي الكواكب العظام. وقيل للكواكب بروج لظهورها، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع؛ ومنه قوله: "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى "[الأحزاب: 33] وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها، ورتب الأزمنة عليها، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد غير ذلك من أحوال المعاش.
قوله تعالى: "وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله "أي إن يصب المنافقين خصب قالوا: هذا من عند الله. "وإن تصبهم سيئة "أي جدب ومحل قالوا: هذا من عندك، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك. وقيل: الحسنة السلامة والأمن، والسيئة الأمراض والخوف. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر. وقيل: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية. وأنها نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى "من عندك "أي بسوء تدبيرك. وقيل: "من عندك "بشؤمك، كما ذكرنا، أي بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير. قال الله تعالى: "قل كل من عند الله" أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره." فمال هؤلاء القوم" يعني المنافقين "لا يكادون يفقهون حديثا" أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله.
الآية: 79 {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيد}
قوله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك" أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قال الحسن والسدي وغيرهما؛ كما قال تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء "[الطلاق:1]. وقد قيل: الخطاب للإنسان والمراد به الجنس؛ كما قال تعالى: "والعصر إن الإنسان لفي خسر "[العصر:1 - 2] أي إن الناس لفي خسر، ألا تراه استثنى منهم فقال "إلا الذين آمنوا "ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة. وعلى هذا التأويل يكون قوله "ما أصابك" استئنافا. وقيل: في الكلام حذف تقديره يقولون؛ وعليه يكون الكلام متصلا؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله. وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة؛ والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله وتعالى: "فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي" [الأنعام: 77] والمعنى أو تلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى: "فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي "[الأنعام: 77] أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي:
رموني وقالوا يا خويلد لم تُرع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أراد "أهم "فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي. قال الأخفش "ما "بمعنى الذي. وقيل: هو شرط. قال النحاس: والصواب قول الأخفش؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك "فهذه قراءة على التفسير، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع؛ لأن مجاهدا لم ير عبدالله ولا أبيا. وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما أصابهم يوم أحد؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه؛ على ما تقدم في "آل عمران "بيانه. فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى: "أولما أصابتكم مصيبة "[آل عمران: 165] يعني يوم أحد "قد أصبتم مثليها "يعني يوم بدر "قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم". ولا يجوز أن تكون الحسنة ههنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها "[الأنعام:160] وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية "الأعراف "وهي قوله تعالى: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون "[الأعراف: 130]. "بالسنين "بالجدب سنة بعد سنة؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم. "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه "أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل أتباعنا لك وطاعتنا إياك؛ فرد الله عليهم بقوله: "ألا إنما طائرهم عند الله "[الأعراف: 131] يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله "كما قال: "ألا إنما طائرهم عند الله "وكما قال تعالى: "وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله" [آل عمران: 166] أي بقضاء الله وقدره وعلمه، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض. قال علماؤنا: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته؛ كما قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة "[الأنبياء: 35] وقال تعالى: "وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال "[الرعد: 11].
مسألة: وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون: إن الحسنة ههنا الطاعة، والسيئة المعصية؛ قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى: "وما أصابك من سيئة فمن نفسك "إلى الإنسان دون الله تعالى؛ فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى: "قل كل من عند الله "قالوا: فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم. والقدرية إن قالوا "ما أصابك من حسنة "أي من طاعة "فمن الله "فليس هذا اعتقادهم؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء. وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره. نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم.
قوله تعالى: "وأرسلناك للناس رسولا" مصدر مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة "وكفى بالله شهيدا" نصب على البيان والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق.