تفسير السعدي تفسير الصفحة 206 من المصحف


وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 118 ) .
( و ) كذلك لقد تاب الله ( عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) عن الخروج مع المسلمين، في تلك الغزوة، وهم: « كعب بن مالك » وصاحباه، وقصتهم مشهورة معروفة، في الصحاح والسنن.
( حَتَّى إِذَا ) حزنوا حزنا عظيما، و ( ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ) أي: على سعتها ورحبها ( وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) التي هي أحب إليهم من كل شيء، فضاق عليهم الفضاء الواسع، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء.
( وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ) أي: تيقنوا وعرفوا بحالهم، أنه لا ينجي من الشدائد، ويلجأ إليه، إلا اللّه وحده لا شريك له، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين، وتعلقوا باللّه ربهم، وفروا منه إليه، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.
( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ) أي: أذن في توبتهم ووفقهم لها ( لِيَتُوبُوا ) أي: لتقع منهم، فيتوب اللّه عليهم، ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ ) أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، ( الرَّحِيمُ ) وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية.
وفي هذه الآيات دليل على أن توبة اللّه على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن اللّه جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها.
ومنها: لطف الله بهم وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.
ومنها: أن العبادة الشاقة على النفس، لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر.
ومنها: أن توبة اللّه على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.
ومنها: أن علامة الخير وزوال الشدة، إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقا تاما، وانقطع عن المخلوقين.
ومنها: أن من لطف اللّه بالثلاثة، أن وسمهم بوسم، ليس بعار عليهم فقال: ( خُلِّفُوا ) إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، [ أو خلفوا عن من بُتّ في قبول عذرهم، أو في رده ] وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير، ولهذا لم يقل: « تخلفوا » .
ومنها: أن اللّه تعالى من عليهم بالصدق، ولهذا أمر بالاقتداء بهم فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( 119 ) .
أي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) باللّه، وبما أمر اللّه بالإيمان به، قوموا بما يقتضيه الإيمان، وهو القيام بتقوى اللّه تعالى، باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه.
( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خلية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.
قال الله تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ الآية.
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 120 ) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 121 ) .
يقول تعالى - حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين، والأنصار، ومن حولهم من الأعراب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم- : ( مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ) أي: ما ينبغي لهم ذلك، ولا يليق بأحوالهم.
( وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ ) في بقائها وراحتها، وسكونه ( عَنْ نَفْسِهِ ) الكريمة الزكية، بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به، أن لا يتخلفوا عنه، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ) أي: المجاهدين في سبيل اللّه ( لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ) أي: تعب ومشقة ( وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: مجاعة.
( وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ) من الخوض لديارهم، والاستيلاء على أوطانهم، ( وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا ) كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال ( إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ) لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.
( إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله، وقيامهم بما عليهم من حقه وحق خلقه، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم.
ثم قال: ( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا ) في ذهابهم إلى عدوهم ( إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
ومن ذلك هذه الأعمال، إذا أخلصوا فيها للّه، ونصحوا فيها، ففي هذه الآيات أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( 122 ) .
يقول تعالى: - منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم- ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) أي: جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى، ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ) أي: من البلدان، والقبائل، والأفخاذ ( طَائِفَةٌ ) تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى.
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: ( لِيَتَفَقَّهُوا ) أي: القاعدون ( فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) أي. ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم علما، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم، من بركته وأجره، الذي ينمى له.
وأما اقتصار العالم على نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان، لمن آتاه اللّه علما ومنحه فهما.
وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور.