تفسير الطبري تفسير الصفحة 206 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 206
207
205
 الآية : 118
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُواْ حَتّىَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنّوَاْ أَن لاّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }.
يقول تعالى ذكره: لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا. وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قبل, هم الاَخرون الذين قال جلّ ثناؤه: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبَهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فتاب عليهم عزّ ذكره وتفضل عليهم. وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام إذًا: ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلّفهم الله عن التوبة, فأرجأهم عمن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما:
13595ـ حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عمن سمع عكرمة, في قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: خلفوا عن التوبة.
13596ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أما قوله: خُلّفُوا فخلّفوا عن التوبة.
حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ يقول: بسعتها غمّا وندما على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ بما نالهم من الوجد والكرب بذلك. وَظَنّوا أنْ لا مَلْجَأَ يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجئون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء بتخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينجيهم من كربه, ولا مما يحذرون من عذاب الله إلا الله. ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته, والرجوع إلى ما يرضيه عنهم, لينيبوا إليه ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه. أنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحيمُ يقول: إن الله هو الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته الموفق من أحبّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه, الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة, أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
13597ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر, في قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا: قال: كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن ربيعة, وكلهم من الأنصار.
حدثني عبيد بن الورّاق, قال: حدثنا أبو أسامة, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر بنحوه, إلا أنه قال: ومرارة بن الربيع, أو ابن ربيعة, شكّ أبو أسامة.
13598ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عكرمة وعامر: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: أُرجئوا في أوسط براءة.
13599ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: الذين أرجئوا في أوسط براءة, قوله: وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْر اللّهِ هلال بن أمية, ومرارة بن ربيعة, وكعب بن مالك.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا الذين أرجئوا في وسط براءة.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية, ومرارة بن ربيعة, وكعب بن مالك.
قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: الذين أرجئوا.
13600ـ قال: حدثنا جرير, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, قال: الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا: كعب بن مالك وكان شاعرا, ومرارة بن الربيع, وهلال بن أمية, وكلهم أنصار.
13601ـ قال: حدثنا أبو خالد الأحمر والمحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية, ومرارة بن الربيع, وكعب بن مالك.
13602ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هاشم, عن جويبر, عن الضحاك, قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: هلال بن أمية, وكعب بن مالك, ومرارة بن الربيع كلهم من الأنصار.
13603ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا... إلى قوله: ثُمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا, إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن ربيعة تخلفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية, فقال: لا أطلقها أو لا أطلق نفسي حتى يطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: «واللّهِ لا أُطْلِقُهُ حتى يُطْلِقَهُ رَبّهُ إنْ شاءَ». وأما الاَخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك, فجعله صدقة في سبيل الله, وقال: والله لا أطعمه وأما الاَخر فركب المفاوز يتبع رسول الله ترفعه أرض وتضعه أخرى, وقدماه تشلشلان دما.
13604ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السديّ, عن أبي مالك, قال: الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا: هلال بن أمية, وكعب بن مالك, ومرارة بن ربيعة.
13605ـ قال: حدثنا أبو داود الحفري, عن سلام أبي الأحوص, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا قال: هلال بن أمية, ومرارة, وكعب بن مالك.
13606ـ حدثني يعقوب, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا ابن عون, عن عمر بن كثير بن أفلح, قال: قال كعب بن مالك: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغزاة. قال كعب بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أتجهز غدا ثم ألحقه فأخذت في جهازي, فأمسيت ولم أفرغ فلما كان اليوم الثالث أخذت في جهازي, فأمسيت ولم أفرغ, فقلت: هيهات, سار الناس ثلاثا فأقمت. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الناس يعتذرون إليه, فجئت حتى قمت بين يديه فقلت: ما كنت في غزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة. فأعرض عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمر الناس أن لايكلمونا, وأمرت نساؤنا أن يتحوّلن عنا. قال: فتسوّرت حائطا ذات يوم فإذا أنا بجابر بن عبد الله, فقلت: أي جابر, نشدتك بالله هل علمتني غششت الله ورسوله يوما قطّ؟ فسكت عني, فجعل لا يكلمني. فبينا أنا ذات يوم, إذ سمعت رجلاً على الثنيّةِ يقول: كعب كعب حتى دنا مني, فقال: بشّروا كعبا.
13607ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام, حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة, صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية. ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يجاوزها, وأنزل الله: لَقَدْ تابَ اللّهُ على النّبِيّ والمُهاجِرِينَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي ساعَةِ العُسْرَةِ... الآية, والثلاثة الذين خلفوا: رهط منهم: كعب بن مالك وهو أحد بني سلمة, ومرارة بن ربيعة وهو أحد بني عمرو بن عوف, وهلال بن أمية وهو من بني واقف. وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلاً فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, صدَقه أولئك حديثهم واعترفوا بذنوبهم, وكذب سائرهم, فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما حبسهم إلا العذر, فقبل منهم رسول الله وبايعهم, ووكلهم في سرائرهم إلى الله. ونُهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كلام الذين خلفوا, وقال لهم حين حدّثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: «قَدْ صَدَقْتُمْ فَقُومُوا حتى يَقْضِيَ اللّهُ فِيكُمْ» فلما أنزل الله القرآن تاب على الثلاثة, وقال للاَخرين: سَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ... حتى بلغ: لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ. قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك, وكان قائد كعب من بنيه حين عمي, قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قطّ إلا في غزوة تبوك, غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش, حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام, وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. فكان من خبري حين تخلفت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة, والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد, واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز, واستقبل عدوّا كثيرا, فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم, فأخبرهم بوجهه الذي يريد, والمسلمون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم كثير, ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا يظنّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال, وأنا إليهما أصعر. فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه, وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم, فلم أقض من جهازي شيئا, ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى حتى أسرعوا وتفارط الغزو, وهممت أن أرتحل فأدركهم, فيا ليتني فعلت, فلم يقدرّ ذلك لي, فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك, فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مالكٍ؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرْداه والنظر في عطفيه. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثَمَةَ» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري, وهو الذي تصدّق بصاع التمر, فلمزه المنافقون. قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني همي, فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكلّ ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما زاح عني الباطل, حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا, فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما, وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون, فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له, وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم, ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت, فلما سلمت تبسمّ تبسمّ المغضب, ثم قال: «تَعَالَ» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: «ما خَلّفَكَ, ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قال: قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أُعطيت جدلاً, ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ, ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله والله ما كان لي عذر, والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ, قُمْ حتى يَقْضِيَ اللّهُ فِيكَ» فقمت, وثار رجال من بني سلمة, فاتبعوني وقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا, لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون, فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنبونني, حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه, قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجْلَدَهُم, فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة, فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ ثم أصلي معه وأسارقه النظر, فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين, مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ, فسلمت عليه, فوالله ما ر دّ عليّ السلام, فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت, قال: فعدت فناشدته فسكت, فعدت فنا شدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي, وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة, إذا بنبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة, يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني, فدفع إليّ كتابا من ملك غسان, وكنت كاتبا, فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك, ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة, فالحق بنا نواسك قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضا من البلاء. فتأممت به التنّور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك, قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها قال: وأرسل إلى صاحبيّ بذلك, قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك تكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال: فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم, فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: «لا, وَلَكِنْ لا يَقْرُبَنّكِ» قالت: فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شيء, ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يوم هذا قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال: فقلت لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلبثت بعد ذلك عشر ليال, فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا, فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عنا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت, سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر قال: فخررت ساجدا, وعرفت أن قد جاء فرج. قال: وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر, فذهب الناس يبشروننا, فذهب قِبَل صاحبي مبشرون, وركض رجل إليّ فرسا, وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل, وكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ, فكسوتهما إياه ببشارته, والله ما أملك غيرهما يومئذ, واستعرت ثوبين فلبستهما. وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة, ويقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس, فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني, والله ما قام رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبْشرْ بِخَيْرِ يَوْمّ مَرّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدتْكَ أُمّكَ» فقلت: أمن عندك يا رسول الله, أم من عند الله؟ قال: «لا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر, وكنا نعرف ذلك منه. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمْسِكْ بَعْضَ مالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق, وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقا ما بقيت قال: فوالله ما علمت أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن مما ابتلاني, والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا, وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقى. قال: فأنزل الله: لَقَدْ تابَ اللّهُ على النّبِيّ... حتى بلغ: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا.... إلى: اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه, فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد: سَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ أنّهُمْ رِجْسٌ وَمأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ... إلى قوله: لا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ قال كعب: خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حلفوا له, فبايعهم واستغفر لهم, وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه, فبذلك قال الله: وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه, فقبل منهم.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب, قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, أن عبد الله بن كعب بن مالك, وكان قائد كعب من بنيه حين عمي, قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن عبد الرحمن بن كعب, عن أبيه, قال: لم أتخلف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها إلا بدرا, ولم يعاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر, ثم ذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن ابن شهاب الزهري, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري, ثم السلمي, عن أبيه. أن أباه عبد الله بن كعب, وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره, قال: سمعت أبي كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وحديث صاحبيه قال: ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها, غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر, ثم ذكر نحوه.
الآية : 119
القول في تأويل قوله تعالى: {يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين معرّفهم سبيل النجاة من عقابه والخلاص من أليم عذابه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله, اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه وتجنب حدوده, وكونوا في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته, تكونوا في الاَخرة مع الصادقين في الجنة. يعني مع من صدق الله الإيمان به فحقق قوله بفعله ولم يكن من أهل النفاق فيه الذين يكذّب قيلهم فعلهم.
وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الاَخرة باتقاء الله في الدنيا, كما قال جلّ ثناؤه: وَمَنْ يُطِعِ اللّهِ وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ والصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ.
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام, لأن كون المنافق مع المؤمنين غير نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم إن لم يكن عاملاً عملهم, وإذا عمل عملهم فهو منهم, وإذا كان منهم كان لا وجه في الكلام أن يقال: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. ولتوجيه الكلام إلى ما وجهنا من تأويله فسر ذلك من فسره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر, أو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين رحمة الله عليهم. ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله:
13608ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن زيد بن أسلم, عن نافع, في قول الله: اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا حبويه أبو يزيد, عن يعقوب القمي, عن زيد بن أسلم, عن نافع, قال: قيل للثلاثة الذين خلفوا: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ محمد وأصحابه.
13609ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن عبد الرحمن المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رحمة الله عليهم.
13610ـ قال: حدثنا محمد بن يحيى, قال: حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي, قال: حدثنا خلف بن خليفة, عن أبي هاشم الرماني, عن سعيد بن جبير, في قول الله: اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما.
13611ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ قال: مع المهاجرين الصادقين.
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه: «وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ» ويتأوّله أن ذلك نهي من الله عن الكذب. ذكر الرواية عنه بذلك:
13612ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا آدم العسقلاني, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحلّ منه جدّ ولا هزل, اقرءوا إن شئتم: «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ» قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود: «من الصادقين», فهل ترون في الكذب رخصة؟
قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: سمعت أبا عبيدة, عن عبد الله, نحوه.
قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: سمعت أبا عبيدة يحدّث, عن عبد الله قال: الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل, اقرءوا إن شئتم: «يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا مِنَ الصّادِقِينَ» وهي كذلك في قراءة عبد الله, فهل ترون من رخصة في الكذب؟
13613ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن عبد الله, قال: لا يصلح الكذب في هزل ولا جدّ, ثم تلا عبد الله: اتّقُوا اللّهَ وكُونُوا ما أدري أقال «مِنَ الصّادِقِينَ» أو مَعَ الصّادِقِينَ وهو في كتابي: مَعَ الصّادِقِينَ.
قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن مجاهد, عن أبي معمر, عن عبد الله, مثله.
قال: حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عمرو بن مرّة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله, مثله.
والصحيح من التأويل في ذلك هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك, وذلك أن رسوم المصاحف كلها مجمعة على: وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ, وهي القراءة التي لا أستجيز لأحد القراءة بخلافها, وتأويل عبد الله رحمة الله عليه في ذلك على قراءته تأويل صحيح غير, أن القراءة بخلافها.
الآية : 120
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نّيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }.
يقول تعالى ذكره: لم يكن لأهل المدينة, مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي, الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وهم من أهل الإيمان به أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم, ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. يقول: إنه لم يكن لهم هذا بأنهم من أجل أنهم وبسبب أنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه ظمأ وهو العطش ولا نصب, يقول: ولا تعب, وَلا مَخْمَصَة فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني: ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته, وهدم منار الكفر. وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئا يعني أرضا, يقول: ولا يطئون أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياها. وَلا يَنالُونَ منْ عَدُوّ نَيْلاً يقول ولا يصيبون من عدوّ الله وعدوّهم شيئا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب الله لهم بذلك كله ثواب عمل صالح قد ارتضاه. إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ يقول: إن الله لا يدع محسنا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه, أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله فلذلك كتب لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية الثواب على كل ما فعل فلم يضيع له أجر فعله ذلك.
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية, فقال بعضهم: هي محكمة, وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, لم يكن لأحد أن يتخلف إذا غزا خلافه فيقعد عنه إلا من كان ذا عذر, فأما غيره من الأئمة والولاة فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف خلافه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة. ذكر من قال ذلك:
13614ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ولا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه هذا إذا غزا نبيّ الله بنفسه, فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْلا أنْ أشُقّ على أُمّتِي ما تَخَلّفْتُ خَلْفَ سَرِيّة تَغْزُو في سَبِيلِ اللّهِ, لكِنّي لا أجِدُ سَعَةً فانْطَلِقْ بِهِمْ مَعِي, وَيَشُقّ عَليّ أو أكْرَهُ أنْ أدَعَهُمْ بَعْدِي».
13615ـ حدثنا عليّ بن سهل, قال: حدثنا الوليد بن مسلم, قال: سمعت الأوزاعي, وعبد الله بن المبارك, والفزاري, والسبيعي, وابن جابر, وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ... إلى آخر الآية. إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله.
وقال آخرون: هذه الآية نزلت وفي أهل الإسلام قلة, فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء, فقال: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً. ذكر من قال ذلك:
13616ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ فقرأ حتى بلغ: ليَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يعْمَلُونَ قال: هذا حين كان الإسلام قليلاً, فلما كثر الإسلام بعد قال: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ... إلى آخر الآية.
والصواب من القول في ذلك عندي, أَن الله عني بها الذين وصفهم بقوله: وجاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ... الآية, ثم قال جلّ ثناؤه: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول الله ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده, فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف, فعدّد جلّ ثناؤه من تخلف منهم, فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر, وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شكّ ولا ارتياب في أمر الله إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه صلى الله عليه وسلم ذلك, وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم, فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بدّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته. وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الاَيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى, إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الأخرى من كلّ وجوهه, ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.
وقد بيّنا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده, وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضع غير هذا, فأغني ذلك عن إعادته ههنا.
وأما النيل: فهو مصدر من قول القائل: نالني ينالني, ونلت الشيء: فهو منيل, وذلك إذا كنت تناله بيدك, وليس من التناول, وذلك أن التناول من النوال, يقال منه: نلت له أنول له من العطية. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: النيل مصدر من قول القائل: نالني بخير ينولني نوالاً, وأنالني خيرا إنالة وقال: كأنّ النيل من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب, بل من شأن العرب أن تصحح الواو من ذوات الواو إذا سكنت وانفتح ما قبلها, كقولهم: القَوْل, والَعْول, والحَوْل, ولو جاز ما قال لجاز القَيْل.
الآية : 121
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ, وسائر ما ذكر, ولا ينالون من عدوّ نيلاً, ولا ينفقون نفقة صغيرة في سبيل الله, ولا يقطعون مع رسول الله في غزوه واديا إلا كتب لهم أجر عملهم ذلك, جزاءً لهم عليه كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم. كما:
13617ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً... الآية, قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا.
الآية : 122
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ }.
يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعا. وقد بيّنا معنى الكافّة بشواهده وأقوال أهل التأويل فيه, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية وما النفر الذي كرهه لجميع المؤمنين, فقال بعضهم: هو نفر كان من قوم كانوا بالبادية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام, فلما نزل قوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ انْصَرفوا عن البادية إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه وممن عني بالآية. فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً وكره انصراف جميعهم من البادية إلى المدينة. ذكر من قال ذلك:
13618ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفَةٌ قال: ناس مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي, فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به, ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى, فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا, وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال الله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير, لِيَتَفَقّهُوا وليسمعوا ما في الناس, وما أنزل الله بعدهم, وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم, إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله, إلا أنه قال في حديثه: فقال الله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ خرج بعض وقعد بعض, يبتغون الخير.
قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحو حديثه, عن أبي حذيفة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة, غير أنه قال في حديثه: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم, وقال: ليَتَفَقّهُوا ليسمعوا ما في الناس.
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا إلى عدوّهم ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده. كما:
13619ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قال: ليذهبوا كلهم, فلولا نفر من كلّ حيّ وقبيلة طائفة وتخلف طائفة ليتفقهوا في الدين, ليتفقه المتخلفون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدين, ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. ذكر من قال ذلك:
13620ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده. فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني عصبة, يعني السرايا, ولا يتسروا إلا بإذنه, فإذا رجعت السرايا, وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبيّ صلى الله عليه وسلم, قالوا: إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخر, فذلك قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ يقول: يتعلمون ما أنزل الله على نبيه, ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون.
13621ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً.... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال: هذا إذا بعث نبيّ الله الجيوش أمرهم أن لا يعرّوا نبيه وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين, وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذّرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
13622ـ حدثنا الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... الآية, كان نبيّ الله إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل العذر, وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبيّ الله على أصحابه القاعدين معه, فإذا رجعت السرية قال لهم الذي أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرءونهم, ويفقهونهم في الدين. وهو قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً يقول: إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبيّ الله قاعد, ولكن إذا قعد نبيّ الله تسرّت السرايا وقعد معه معظم الناس.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين, ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم ولكنهم منافقون, ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون لنفر بعض ليتفقه في الدين ولينذر قومه إذا رجع إليهم. ذكر من قال ذلك:
13623ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فإنها ليست في الجهاد, ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين, أجدبت بلادهم, وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد, ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون, فضيقوا على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم. وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين, فردّهم رسول الله إلىَ عشائرهم, وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعلّهُمْ يَحْذَرُونَ.
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول ثالث, وهو ما:
13624ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ قال: كان ينطلق من كلّ حيّ من العرب عصابة فيأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدونه من دينهم ويتفقهون في دينهم, ويقولون لنبيّ الله: ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم قال فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله, ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: إن من أسلم فهو مّنا وينذرونهم, حتى إن الرجل ليعرّف أباه وأمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم, فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة.
وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزروا بأعراب المسلمين وعزّروهم في تخلفهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم ممن قد عذره الله بالتخلف. ذكر من قال ذلك:
13625ـ حدثني الحرث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن سليمان الأحول, عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ... إلى: إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ قال ناس من المنافقين: هلك من تخلف فنزلت: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً... إلى: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ, ونزلت: وَالّذِينَ يُحاجّونَ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجّتُهُمْ دَاحِضَةٌ... الآية.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, قال: حدثنا سليمان الأحول عن عكرمة, قال: سمعته يقول: لما نزلت: إلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَابا ألِيما وَما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ... إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم, فأنزل الله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ... إلى قوله: لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ, ونزلت: والّذِينَ يُحاجّونَ في اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ... الآية.
واختلف الذين قالوا عني بذلك النهي عن نفر الجميع في السرية وترك النبيّ عليه الصلاة والسلام وحده في المعنيين بقوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينَ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ فقال بعضهم: عني به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد ليتفقه المتخلفون في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم وذلك قول قتادة, وقد ذكرنا رواية ذلك عنه من رواية سعيد بن أبي عروبة. وقد:
13626ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ... الآية, قال: ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله. وَليُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهمْ يقول: لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم.
13627ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن وقتادة: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً قالا: كافة, ويدعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة وتحذر النافرةُ المتخلفةَ. ذكر من قال ذلك:
13628ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ قال: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة, وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده, وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدا ولكن عليهم إذا سرى رسول الله سرية أن ينفر معها من كلّ قبيلة من قبائل العرب وهي الفرقة. طائفة وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد, كما قال الله جلّ ثناؤه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول: فهلاّ نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وهذا إلى هاهنا على أحد الأقوال التي رُويت عن ابن عباس, وهو قول الضحاك وقتادة.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب, لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة, مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومن الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله لغزو وجهاد عدوّ قبل هذه الآية بقوله: ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ, ثم عقب ذلك جلّ ثناؤه بقوله: وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر والمباح لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ, وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم أن يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته وإشخاص غيره عنها, كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
وأما قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِيُنْذِرُوا قوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ. فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به, فيفقه بذلك من معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه, ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ يقول: لعلّ قومهم إذا هم حذّروهم ما عاينوا من ذلك يحذرون, فيؤمنون بالله ورسوله, حذرا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب, وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه لأن النفر قد بيّنا فيما مضى أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه, وكان جلّ ثناؤه قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدّينِ علم أن قوله: «ليتفقهوا» إنما هو شرط للنفر لا لغيره, إذ كان يليه دون غيره من الكلام.
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدين؟ قيل: ننكر ذلك لاستحالته وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة, وجب أن يكون مقامها معهم سببا لجهلهم وترك التفقه وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه. وبعد, فإنه قال جلّ ثناؤه: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ عطفا به على قوله: لِيَتَفَقّهُوا فِي الدّينِ ولا شكّ أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها, وللإنذار وخوف الوعيد نفرت, فما وجه إنذرا الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى, لكان أحقهما بأن يوصف به الطائفة النافرة, لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به ما لم تعاين المقيمة, ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا من أنها تنذر من حيها وقبيلتها ومن لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك