سورة التوبة | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 206 من المصحف
** وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُواْ حَتّىَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنّوَاْ أَن لاّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ * يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله, عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي, قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك, غيرأني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها, وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد, ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام, وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر, وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة, والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز, واستقبل عدواً كثيراً فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم, فأخبرهم وجهه الذي يريد, والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير, لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر, فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه, فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا, فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمّر بالناس الجد, فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً, ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت, ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل, ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك, فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك» فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه, فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك, حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب, وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي, فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً, زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً, فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس, فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى, حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب, ثم قال لي «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: «ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهراً» فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر, لقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي, ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله ما كان لي عذر, والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون, فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك, قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي, قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت, وقيل لهما مثل ما قيل لك, فقلت فمن هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي, فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة, قال: فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه, فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدافي بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم, فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصّلي قريباً منه وأسارقه النظر, فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ, فإِذا التفتُ نحوه أعرض عنّي, حتّى إِذا طال علّي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتّى تسوّرت حائط أبي قتادة وهوابن عمي وأحب الناس إليّ, فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام, فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت, قال فعدت له فنشدته فسكت, فعدت له فنشدته فسكت, فقال الله ورسوله أعلم.
قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار, فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك, قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً, فإِذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة, فالحق بنا نواسك, قال: فقلت حين قرأته وهذا أيضاً من البلاء, قال: فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين, إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك, قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها, قال وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك, قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء, قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه, قال «لا ولكن لا يقربنّك» قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء, وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا, قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لا مرأة هلال بن أمية أن تخدمه, قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا, قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا, فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت, سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك, قال: فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا, فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر, فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون, وركض إلي رجل فرساً وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس, فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشارته, والله ما أملك يومئذ غيرهما, واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنوني بتوبة الله, يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد والناس حوله, فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره, قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة, قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال: قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله ؟ قال «لا بل من عند الله» قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه, فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إِن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله, قال «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله: إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت, قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى, والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا, وإِني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي.
(قال) وأنزل الله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤ وف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجاً من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله وكونوا مع الصاديقين} إلى آخر الاَيات. قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ, أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه, فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد, فقال الله تعالى: {سيحلفون با لله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإِن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم, وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه, فلذلك قال عز وجل {وعلى الثلاثة الذين خلفو} وليس تخليفه إِيانا وارجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو, وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم, من حديث الزهري بنحوه, فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الاَية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها, وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها, كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفو} قال: هم كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن الربيع, وكلهم من الأنصار, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة, وكذا في مسلم ابن ربيعة في بعض نسخه, وفي بعضها مرارة بن الربيع, وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب, وقوله فسموا رجلين شهدا بدراً قيل إنه خطأ من الزهري, فإِنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدراً, والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها, وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت, أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون, فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم, وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم, فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم, ولهذا قال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك, ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإِن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً, وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» أخرجاه في الصحيحين, وقال شعبة عن عمرو بن مرة: سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل, اقروءا إن شئتم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} هكذا قرأها, ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة, وعن عبد الله بن عمرو في قوله {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} قال مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما, وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
** مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نّيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب, ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة, فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر لأنهم {لا يصيبهم ظم} وهو العطش {ولا نصب} وهو التعب {ولا مخمصة} وهي المجاعة {ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار}. أي ينزلون منزلاً يرهب عدوهم {ولا ينالون} منه ظفراً وغلبة عليه {إلا كتب لهم} بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} كقوله {إنا لا نضيع أجر من أحسن عمل}.
** وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {ولا ينفقون} هؤلاء الغزاة في سبيل الله {نفقة صغيرة ولا كبيرة} أي قليلاً ولا كثيراً {ولا يقطعون وادي} أي في السير إلى الأعداء {إلا كتب لهم} ولم يقل ههنا به, لأن هذه أفعال صادرة عنهم, ولهذا قال: {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الاَية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم, وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة, كما قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو موسى الغنزي, حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثني سليمان بن المغيرة, حدثني الوليد بن أبي هشام, عن فرقد أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن خباب السلمي, قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها, قال ثم حث, فقال عثمان: عليّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها, قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث, فقال عثمان بن عفان: عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها, وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» وقال عبد الله أيضاً: حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ضمرة, حدثنا عبد الله بن شوذب, عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة, قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة, قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مراراً, وقال قتادة في قوله تعالى: {ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم} الاَية. ما ازداد قوم في سبيل الله بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من الله.
** وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: {انفروا خفاقاً وثقال} وقال {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب} الاَية, قال فنسخ ذلك بهذه الاَية. وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم, ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو, فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين, وبعده صلى الله عليه وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد, فإنه فرض كفاية على الأحياء, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه, فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآناً وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى, فذلك قوله: {ليتفقهوا في الدين} يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم, {لعلهم يحذرون} وقال مجاهد: نزلت هذه الاَية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفاً, ومن الخصب ما ينتفعون به, ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى, فقال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا ؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجاً وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الله عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يبغون الخير {ليتفقهوا في الدين} وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم {ولينذروا قومهم} الناس كلهم إذا رجعوا إليهم {لعلهم يحذرون} وقال قتادة في الاَية: هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى الله عليه وسلم, وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين, وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار, وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه, وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه, فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآناً فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين, وهو قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} يقول إذا أقام رسول الله {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد, ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس. وقال علي بن أبي طلحة أيضاً عن ابن عباس في الاَية, قوله {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} إنها ليست في الجهاد, ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين, أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها, حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون, فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم, فأنزل الله تعالى يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين, فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم, فذلك قوله: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} الاَية.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية: كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتقفهون في دينهم, ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تأمرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم, قال فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله ورسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة, وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا: إن من أسلم فهو منا وينذرونهم, حتى إن الرجل ليفارق أباه, وأمه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم, فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة, وقال عكرمة لما نزلت هذه الاَية {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليم} و{ما كان لأهل المدينة} الاَية, قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه, وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عز وجل {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الاَية, ونزلت{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} وقال الحسن البصري في الاَية: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة, وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 206
206 : تفسير الصفحة رقم 206 من القرآن الكريم** وَعَلَى الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُواْ حَتّىَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنّوَاْ أَن لاّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ * يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله, عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك, أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي, قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك, غيرأني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها, وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد, ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام, وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر, وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة, والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز, واستقبل عدواً كثيراً فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم, فأخبرهم وجهه الذي يريد, والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير, لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب: فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر, فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه, فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا, فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمّر بالناس الجد, فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً, ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت, ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل, ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك, فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك» فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه, فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك, حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب, وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي, فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً, زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً, فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس, فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى, حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب, ثم قال لي «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: «ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهراً» فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر, لقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي, ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله ما كان لي عذر, والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون, فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك, قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي, قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد ؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت, وقيل لهما مثل ما قيل لك, فقلت فمن هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي, فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة, قال: فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه, فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدافي بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم, فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا ؟ ثم أصّلي قريباً منه وأسارقه النظر, فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ, فإِذا التفتُ نحوه أعرض عنّي, حتّى إِذا طال علّي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتّى تسوّرت حائط أبي قتادة وهوابن عمي وأحب الناس إليّ, فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام, فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال فسكت, قال فعدت له فنشدته فسكت, فعدت له فنشدته فسكت, فقال الله ورسوله أعلم.
قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار, فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك, قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً, فإِذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة, فالحق بنا نواسك, قال: فقلت حين قرأته وهذا أيضاً من البلاء, قال: فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين, إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك, قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها, قال وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك, قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء, قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه, قال «لا ولكن لا يقربنّك» قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء, وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا, قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لا مرأة هلال بن أمية أن تخدمه, قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا, قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا, فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت, سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك, قال: فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا, فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر, فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون, وركض إلي رجل فرساً وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس, فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشارته, والله ما أملك يومئذ غيرهما, واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنوني بتوبة الله, يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد والناس حوله, فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره, قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة, قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال: قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله ؟ قال «لا بل من عند الله» قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه, فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إِن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله, قال «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله: إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت, قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى, والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا, وإِني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي.
(قال) وأنزل الله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤ وف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجاً من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله وكونوا مع الصاديقين} إلى آخر الاَيات. قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ, أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه, فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد, فقال الله تعالى: {سيحلفون با لله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإِن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم, وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه, فلذلك قال عز وجل {وعلى الثلاثة الذين خلفو} وليس تخليفه إِيانا وارجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو, وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم, من حديث الزهري بنحوه, فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الاَية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها, وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها, كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفو} قال: هم كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن الربيع, وكلهم من الأنصار, وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة, وكذا في مسلم ابن ربيعة في بعض نسخه, وفي بعضها مرارة بن الربيع, وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب, وقوله فسموا رجلين شهدا بدراً قيل إنه خطأ من الزهري, فإِنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدراً, والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها, وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت, أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون, فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم, وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم, فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم, ولهذا قال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك, ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإِن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً, وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» أخرجاه في الصحيحين, وقال شعبة عن عمرو بن مرة: سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل, اقروءا إن شئتم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} هكذا قرأها, ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة, وعن عبد الله بن عمرو في قوله {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} قال مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما, وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
** مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نّيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب, ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة, فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر لأنهم {لا يصيبهم ظم} وهو العطش {ولا نصب} وهو التعب {ولا مخمصة} وهي المجاعة {ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار}. أي ينزلون منزلاً يرهب عدوهم {ولا ينالون} منه ظفراً وغلبة عليه {إلا كتب لهم} بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} كقوله {إنا لا نضيع أجر من أحسن عمل}.
** وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {ولا ينفقون} هؤلاء الغزاة في سبيل الله {نفقة صغيرة ولا كبيرة} أي قليلاً ولا كثيراً {ولا يقطعون وادي} أي في السير إلى الأعداء {إلا كتب لهم} ولم يقل ههنا به, لأن هذه أفعال صادرة عنهم, ولهذا قال: {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الاَية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم, وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة, كما قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو موسى الغنزي, حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثني سليمان بن المغيرة, حدثني الوليد بن أبي هشام, عن فرقد أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن خباب السلمي, قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها, قال ثم حث, فقال عثمان: عليّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها, قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث, فقال عثمان بن عفان: عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها, وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» وقال عبد الله أيضاً: حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ضمرة, حدثنا عبد الله بن شوذب, عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة, قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة, قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مراراً, وقال قتادة في قوله تعالى: {ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم} الاَية. ما ازداد قوم في سبيل الله بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من الله.
** وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى: {انفروا خفاقاً وثقال} وقال {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب} الاَية, قال فنسخ ذلك بهذه الاَية. وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم, ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو, فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين, وبعده صلى الله عليه وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد, فإنه فرض كفاية على الأحياء, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه, فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآناً وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى, فذلك قوله: {ليتفقهوا في الدين} يقول: ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم, {لعلهم يحذرون} وقال مجاهد: نزلت هذه الاَية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفاً, ومن الخصب ما ينتفعون به, ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى, فقال الناس لهم: ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا ؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجاً وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال الله عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يبغون الخير {ليتفقهوا في الدين} وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم {ولينذروا قومهم} الناس كلهم إذا رجعوا إليهم {لعلهم يحذرون} وقال قتادة في الاَية: هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى الله عليه وسلم, وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين, وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار, وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه, وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه, فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآناً فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين, وهو قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} يقول إذا أقام رسول الله {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد, ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس. وقال علي بن أبي طلحة أيضاً عن ابن عباس في الاَية, قوله {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} إنها ليست في الجهاد, ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين, أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها, حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون, فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم, فأنزل الله تعالى يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين, فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم, فذلك قوله: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} الاَية.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية: كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتقفهون في دينهم, ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تأمرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم, قال فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله ورسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة, وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا: إن من أسلم فهو منا وينذرونهم, حتى إن الرجل ليفارق أباه, وأمه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم, فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة, وقال عكرمة لما نزلت هذه الاَية {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليم} و{ما كان لأهل المدينة} الاَية, قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه, وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عز وجل {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الاَية, ونزلت{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} وقال الحسن البصري في الاَية: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة, وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
الصفحة رقم 206 من المصحف تحميل و استماع mp3