تفسير السعدي تفسير الصفحة 228 من المصحف

 إِنْ نَقُولُ فيك إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ أي: أصابتك بخبال وجنون، فصرت تهذي بما لا يعقل. فسبحان من طبع على قلوب الظالمين، كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق، بهذه المرتبة، التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لولا أن الله حكاها عنهم.
ولهذا بين هود، عليه الصلاة والسلام، أنه واثق غاية الوثوق، أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى، فقال: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا أي اطلبوا لي الضرر كلكم بكل طريق تتمكنون بها مني ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلوني
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ أي اعتمدت في أمري كله على الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ أي هو خالق الجميع ومدبرنا وإياكم وهو الذي ربانا
مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي والله لم يسلطكم علي لم تقدروا على ذلك فإن سلطكم فلحكمة أرادها
فـ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي على عدل وقسط وحكمة وحمد في قضائه وقدره في شرعه وأمره وفي جزائه وثوابه وعقابه لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم التي يحمد ويثنى عليه بها
فَإِنْ تَوَلَّوْا عما دعوتكم إليه فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ فلم يبق عليَّ تبعة من شأنكم
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ يقومون بعبادته ولا يشركون به شيئا وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا فإن ضرركم إنما يعود عليكم فالله لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا أي عذابنا بإرسال الريح العقيم التي مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ أي عظيم شديد أحله الله بعاد فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم
وَتِلْكَ عَادٌ الذين أوقع الله بهم ما أوقع بظلم منهم لأنهم جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ولهذا قالوا لهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ فتبين بهذا أنهم متيقنون لدعوته وإنما عاندوا وجحدوا وَعَصَوْا رُسُلَهُ لأن من عصى رسولا فقد عصى جميع المرسلين لأن دعوتهم واحدة
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ أي متسلط على عباد الله بالجبروت عَنِيدٍ أي معاند لآيات الله فعصوا كل ناصح ومشفق عليهم واتبعوا كل غاش لهم يريد إهلاكهم لا جرم أهلكهم الله
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً فكل وقت وجيل إلا ولأنبائهم القبيحة وأخبارهم الشنيعة ذكر يذكرون به وذم يلحقهم وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لهم أيضا لعنة أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي جحدوا من خلقهم ورزقهم ورباهم أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ أي أبعدهم الله عن كل خير وقربهم من كل شر
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( 61 - 68 ) إلى آخر قصتهم .
، أي: ( و ) أرسلنا ( إِلَى ثَمُودَ ) وهم: عاد الثانية، المعروفون، الذين يسكنون الحجر، ووادي القرى، ( أَخَاهُمْ ) في النسب ( صَالِحًا ) عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فـ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: وحدوه، وأخلصوا له الدين مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ لا من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ أي: خلقكم فيها وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا أي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها، فكما أنه لا شريك له في جميع ذلك، فلا تشركوا به في عبادته.
فَاسْتَغْفِرُوهُ مما صدر منكم، من الكفر، والشرك، والمعاصي, وأقلعوا عنها، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي: ارجعوا إليه بالتوبة النصوح، والإنابة، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب، واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص، فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو المذكور في قوله تعالى وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ .
وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وهذا النوع، قرب يقتضي إلطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن، باسمه « القريب » اسمه « المجيب »
فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلام، ورغبهم في الإخلاص لله وحده, ردوا عليه دعوته، وقابلوه أشنع المقابلة.
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع، وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه.
ولكنه، لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة, قالوا هذه المقالة، التي مضمونها، أنك [ قد ] كنت كاملا والآن أخلفت ظننا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير.
وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح، كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين، وكيف ينهاهم عن عبادة، من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئا من الأحجار، والأشجار ونحوها.
وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى, وإحسانه عليهم دائما ينزل، الذي ما بهم من نعمة، إلا منه، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو.
وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ أي: ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه، شكا مؤثرا في قلوبنا الريب، وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه، لاتبعوه، وهم كذبة في ذلك، ولهذا بين كذبهم في قوله: