تفسير السعدي تفسير الصفحة 256 من المصحف


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 6 ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ( 7 ) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 8 ) .
فإنه يستدل بأيامه على كمال قدرته وعميم إحسانه، وتمام عدله وحكمته، ولهذا امتثل موسى عليه السلام أمر ربه، فذكرهم نعم الله فقال: ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) أي: بقلوبكم وألسنتكم. ( إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ ) أي: يولونكم ( سُوءَ الْعَذَابِ ) أي: أشده وفسر ذلك بقوله: ( وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) أي: يبقونهن فلا يقتلونهن، ( وَفِي ذَلِكُمْ ) الإنجاء ( بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) أي: نعمة عظيمة، أو وفي ذلكم العذاب الذي ابتليتم به من فرعون وملئه ابتلاء من الله عظيم لكم، لينظر هل تصبرون أم لا؟
وقال لهم حاثا على شكر نعم الله: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) أي: أعلم ووعد، ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ ) من نعمي ( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ومن ذلك أن يزيل عنهم النعمة التي أنعم بها عليهم.
والشكر: هو اعتراف القلب بنعم الله والثناء على الله بها وصرفها في مرضاة الله تعالى. وكفر النعمة ضد ذلك.
( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) فلن تضروا الله شيئا، ( فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) فالطاعات لا تزيد في ملكه والمعاصي لا تنقصه، وهو كامل الغنى حميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ليس له من الصفات إلا كل صفة حمد وكمال، ولا من الأسماء إلا كل اسم حسن، ولا من الأفعال إلا كل فعل جميل.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 9 ) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 10 ) .
يقول تعالى مخوفا عباده ما أحله بالأمم المكذبة حين جاءتهم الرسل، فكذبوهم، فعاقبهم بالعقاب العاجل الذي رآه الناس وسمعوه فقال: ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ) وقد ذكر الله قصصهم في كتابه وبسطها، ( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ ) من كثرتهم وكون أخبارهم اندرست.
فهؤلاء كلهم ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي: بالأدلة الدالة على صدق ما جاءوا به، فلم يرسل الله رسولا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، فحين أتتهم رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل استكبروا عنها، ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) أي: لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الإيمان كقوله يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
( وَقَالُوا ) صريحا لرسلهم: ( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) أي: موقع في الريبة، وقد كذبوا في ذلك وظلموا.
ولهذا ( قَالَتْ ) لهم ( رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) أي: فإنه أظهر الأشياء وأجلاها، فمن شك في الله ( فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) الذي وجود الأشياء مستند إلى وجوده، لم يكن عنده ثقة بشيء من المعلومات، حتى الأمور المحسوسة، ولهذا خاطبتهم الرسل خطاب من لا يشك فيه ولا يصلح الريب فيه ( يَدْعُوكُمْ ) إلى منافعكم ومصالحكم ( لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي: ليثيبكم على الاستجابة لدعوته بالثواب العاجل والآجل، فلم يدعكم لينتفع بعبادتكم، بل النفع عائد إليكم.
فردوا على رسلهم رد السفهاء الجاهلين ( قَالُوا ) لهم: ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) أي: فكيف تفضلوننا بالنبوة والرسالة، ( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) فكيف نترك رأي الآباء وسيرتهم لرأيكم؟ وكيف نطيعكم وأنتم بشر مثلنا؟
( فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي: بحجة وبينة ظاهرة، ومرادهم بينة يقترحونها هم، وإلا فقد تقدم أن رسلهم جاءتهم بالبينات.