تفسير السعدي تفسير الصفحة 315 من المصحف


قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ( 52 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ( 53 ) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ( 54 ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ( 55 ) .
( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها.
ومضمون ذلك، أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها، فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم، فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم، فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها، قد تحققت صدقها ويقينها، وهو الواقع، فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل، وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة، فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق، فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان، ولن تجد لذلك سبيلا ما دام الملوان.
كيف وقد أخبر الله عنه، أنه جحدها مع استيقانها، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا وقال موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.
ثم استطرد في هذا الدليل القاطع، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري، فقال: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا ) أي: فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها، والقرار، والبناء، والغراس، وإثارتها للازدراع وغيره، وذللها لذلك، ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم.
( وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ) أي: نفذ لكم الطرق الموصلة، من أرض إلى أرض، ومن قطر إلى قطر، حتى كان الآدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون، وينتفعون بأسفارهم، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.
( وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ) أي: أنزل المطر فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلاف أنواعها، وتشتت أشكالها، وتباين أحوالها، فساقه، وقدره، ويسره، رزقا لنا ولأنعامنا، ولولا ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان، ولهذا قال: ( كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ) وسياقها على وجه الامتنان، ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النوابت الإباحة، فلا يحرم منهم إلا ما كان مضرا، كالسموم ونحوه.
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) أي: لذوي العقول الرزينة، والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه، ورحمته، وسعة جوده، وتمام عنايته، وعلى أنه الرب المعبود، المالك المحمود، الذي لا يستحق العبادة سواه، ولا الحمد والمدح والثناء، إلا من امتن بهذه النعم، وعلى أنه على كل شيء قدير، فكما أحيا الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى.
وخص الله أولي النهى بذلك، لأنهم المنتفعون بها، الناظرون إليها نظر اعتبار، وأما من عداهم، فإنهم بمنزلة البهائم السارحة، والأنعام السائمة، لا ينظرون إليها نظر اعتبار، ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها، بل حظهم، حظ البهائم، يأكلون ويشربون، وقلوبهم لاهية، وأجسامهم معرضة. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ
ولما ذكر كرم الأرض، وحسن شكرها لما ينزله الله عليها من المطر، وأنها بإذن ربها، تخرج النبات المختلف الأنواع، أخبر أنه خلقنا منها، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها، ومنها يخرجنا تارة أخرى، فكما أوجدنا منها من العدم، وقد علمنا ذلك وتحققناه، فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا، ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها.
وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان: إخراج النبات من الأرض بعد موتها، وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( 56 ) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ( 57 ) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ( 58 ) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( 59 ) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ( 60 ) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ( 61 ) .
يخبر تعالى، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع، جميع أنواعها العيانية، والأفقية والنفسية، فما استقام ولا ارعوى، وإنما كذب وتولى، كذب الخبر، وتولى عن الأمر والنهي، وجعل الحق باطلا والباطل حقا، وجادل بالباطل ليضل الناس، فقال: ( أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ) زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى، سحر وتمويه، المقصود منها إخراجهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه، فإن الطباع تميل إلى أوطانها، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها.
فأخبرهم أن موسى هذا قصده، ليبغضوه، ويسعوا في محاربته، فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا، واجعل لنا ( مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ) أي: مستو علمنا وعلمك به، أو مكانا مستويا معتدلا ليتمكن من رؤية ما فيه.
فقال موسى: ( مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ) وهو عيدهم، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم، ( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) أي: يجمعون كلهم في وقت الضحى، وإنما سأل موسى ذلك، لأن يوم الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة الاجتماع، ورؤية الأشياء على حقائقها، ما لا يحصل في غيره، ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ) أي: جميع ما يقدر عليه، مما يكيد به موسى، فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم، وكان السحر إذ ذاك، متوفرا، وعلمه علما مرغوبا فيه، فجمع خلقا كثيرا من السحرة، ثم أتى كل منهما للموعد، واجتمع الناس للموعد.
فكان الجمع حافلا حضره الرجال والنساء، والملأ والأشراف، والعوام، والصغار، والكبار، وحضوا الناس على الاجتماع، وقالوا للناس: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فحين اجتمعوا من جميع البلدان، وعظهم موسى عليه السلام، وأقام عليهم الحجة، وقال لهم: ( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ) أي: لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق، وتفترون على الله الكذب، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ويخيب سعيكم وافتراؤكم، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملائه، ولا تسلمون من عذاب الله، وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب.
لا جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلام موسى، وارتبكوا، ولعل من جملة نزاعهم، الاشتباه في موسى، هل هو على الحق أم لا؟ ولكن هم إلى الآن، ما تم أمرهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة، لينجحوا في مقالهم وفعالهم، وليتمسك الناس بدينهم، والنجوى التي أسروها فسرها بقوله: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى كمقالة فرعون السابقة، فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد، وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته، التي صمم عليها وأظهرها للناس، وزادوا على قول فرعون أن قالوا: وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى أي: طريقة السحر حسدكم عليها، وأراد أن يظهر عليكم، ليكون له الفخر والصيت والشهرة، ويكون هو المقصود بهذا العلم، الذي أشغلتم زمانكم فيه، ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه، وما يتبع ذلك من الرياسة، وهذا حض من بعضهم على بعض على الاجتهاد في مغالبته، ولهذا قالوا:
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أي: أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه، متناصرين، متفقا رأيكم وكلمتكم، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ليكون أمكن لعملكم، وأهيب لكم في القلوب، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره، فإنه المفلح الفائز، فهذا يوم له ما بعده من الأيام