تفسير الطبري تفسير الصفحة 315 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 315
316
314
 الآية : 51 - 52
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَىَ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى }.
يقول تعالـى ذكره: قال فرعون لـموسى, إذ وصف موسى ربه جلّ جلاله بـما وصفه به من عظيـم السلطان, وكثرة الإنعام علـى خـلقه والإفضال: فما شأن الأمـم الـخالـية من قبلنا لـم تقرّ بـما تقول, ولـم تصدّق بـما تدعو إلـيه, ولـم تـخـلص له العبـادة, ولكنها عبدت الاَلهة والأوثان من دونه, إن كان الأمر علـى ما تصف من أن الإشياء كلها خـلقه, وأنها فـي نعمه تتقلّب, وفـي مِنَنه تتصرف؟ فأجابه موسى فقال: علـم هذه الأمـم التـي مضت من قبلنا فـيـما فعلت من ذلك, عند ربـي فـي كتاب: يعنـي فـي أمّ الكتاب, لا علـم لـي بأمرها, وما كان سبب ضلال من ضلّ منهم فذهب عن دين الله لا يَضِلّ رَبّـي يقول: لا يخطىء ربـي فـي تدبـيره وأفعاله, فإن كان عذّب تلك القرون فـي عاجل, وعجل هلاكها, فـالصواب ما فعل, وإن كان أخر عقابها إلـى القـيامة, فـالـحقّ ما فعل, هو أعلـم بـما يفعل, لا يخطىء ربـي ولاَ يَنْسَى فـيترك فعل ما فعْله حكمة وصواب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18222ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فِـي كِتابٍ لا يَضِلّ رَبّـي وَلا يَنْسَى يقول: لا يخطىء ربـي ولا ينسى.
18223ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَمَا بَـالُ القُرُونِ الأُولـى يقول فما أعمى القرون الأولـى, فوكلها نبـي الله موكلاً فقال: عِلْـمُها عِنْدَ رَبّـي... الاَية يقول: أي أعمارها وآجالها.
وقال آخرون: معنى قوله لا يَضِلّ رَبّـي وَلا يَنْسَى واحدا. ذكر من قال ذلك:
18224ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: لا يَضِلّ رَبّـي وَلا يَنْسَى قال: هما شيء واحد.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
والعرب تقول: ضلّ فلان منزله: إذا أخطأه, يضله بغير ألف, وكذلك ذلك فـي كلّ ما كان من شيء ثابت لا يبرح, فأخطأه مريده, فإنها تقول: أضله, فأما إذا ضاع منه ما يزول بنفسه من دابة وناقة وما أشبه ذلك من الـحيوان الذي ينفلت منه فـيذهب, فإنها تقلو: أضلّ فلان بعيره أو شاته أو ناقته يُضله بـالألف. وقد بـيّنا معنى النسيان فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته.
الآية : 53
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّىَ }.
اختلف أهل التأويـل فـي قراءة قوله مَهْدا فقرأته عامّة قرّاء الـمدينة والبصرة: «الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادا بكسر الـمِيـم من الـمِهاد وإلـحاق ألف فـيه بعد الهاء, وكذلك عملهم ذلك فـي كلّ القرآن. وزعم بعض من اختار قراءة ذلك كذلك, أنه إنـما اختاره من أجل أن الـمهاد: اسم الـموضّع, وأن الـمهد الفعل قال: وهو مثل الفرش والفراش. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: مَهْدا بـمعنى: الذي مهد لكم الأرض مهدا.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قَرأة الأمصار مشهورتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيها.
وقوله: وَسَلَكَ لَكُمْ فـيها سُبُلاً يقول: وأنهج لكم فـي الأرض طرقا. والهاء فـي قوله فـيها: من ذكر الأرض, كما:
18225ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَسَلَكَ لَكُمْ فِـيها سُبُلاً: أي طرقا.
وقوله: وأنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً يقلو: وأنزل من السماء مطرا فأخرجنا به أزْوَاجا مِنْ نَبـاتٍ شَتّـى وهذا خبر من الله تعالـى ذكره عن إنعامه علـى خـلقه بـما يحدث لهم من الغيث الذي ينزله من سمائه إلـى أرضه, بعد تناهي خبره عن جواب موسى فرعون عما سأله عنه وثنائه علـى ربه بـما هو أهله. يقول جلّ ثناؤه: فأخرجنا نـحن أيها الناس بـما ننزل من السماء من ماء أزواجا, يعنـي ألوانا من نبـات شتـى, يعنـي مختلفة الطعوم, والأرايـيح والـمنظر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18226ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: مِنْ نَبـاتٍ شَتّـى يقول: مختلف.
الآية : 54
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: كلوا أيها الناس من طيب ما أخرجنا لكم بـالغيث الذي أنزلناه من السماء إلـى الأرض من ثمار ذلك وطعامه, وما هو من أقواتكم وغذائكم, وارعوا فـيـما هو أرزاق بهائمكم منه وأقواتها أنعامكم إنّ فِـي ذلكَ لاَياتٍ يقول: إن فـيـما وصفت فـي هذه الاَية من قدرة ربكم, وعظيـم سلطانه لاَيات: يعنـي لدلالات وعلامات تدلّ علـى وحدانـية ربكم, وأن لا إله لكم غيره أُوِلـي النّهَى يعنـي: أهل الـحجى والعقول. والنهي: جمع نُهية, كما الكُشَي: جمع كُشْيَة.
قال أبو جعفر: والكُشَي: شحمة تكون فـي جوف الضبّ, شبـيهة بـالسرّة وخصّ تعالـى ذكره بأن ذلك آيات لأولـي النّهَي, لأنهم أهل التفكّر والاعتبـار, وأهل التدبر والاتعاظ.
الآية : 55
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: من الأرض خـلقناكم أيها الناس, فأنشأناكم أجساما ناطقة وَفِـيها نُعِيدُكُمْ يقول: وفـي الأرض نعيدكم بعد مـماتكم, فنصيركم ترابـا, كما كنتـم قبل إنشائنا لكم بشرا سويا وَمِنْها نُـخْرِجُكُمْ يقول: ومن الأرض نـخرجكم كما كنتـم قبل مـماتكم أحياء, فننشئكم منها, كما أنشأناكم أوّل مرّة. وقوله: تارَةً أُخْرَى يقول: مرّة أخرى, كما:
18227ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة وَمِنْها نُـخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرَى يقول: مرّة أخرى.
18228ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: تارَةً أُخْرَى قال: مرّة أخرى الـخـلق الاَخر.
قال أبو جعفر: فتأويـل الكلام إذن: من الأرض أخرجناكم ولـم تكونوا شيئا خـلقا سويا, وسنـخرجكم منها بعد مـماتكم مرّة أخرى, كما أخرجناكم منها أوّل مرّة.
الآية : 56
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلّهَا فَكَذّبَ وَأَبَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولقد أرينا فرعون آياتنا, يعنـي أدلتنا وحججنا علـى حقـيقة ما أرسلنا به رسولـينا, موسى وهارون إلـيه كلها فَكَذّبَ وأَبَى أن يقبل من موسى وهارون ما جاءا به من عند ربهما من الـحقّ استكبـارا وعتوّا.
الآية : 57 و 58
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَمُوسَىَ * فَلَنَأْتِيَنّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى }.
يقول تعالـى ذكره: قال فرعون لـما أريناه آياتنا كلها لرسولنا موسى: أجئتنا يا موسى لتـخرجنا من منازلنا ودورنا بسحرك هذا الذي جئتنا به فَلَنْأتِـيَنّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فـاجْعَلْ بَـيْنَنا وَبَـيْنَكَ مَوْعِدا لا نتعدّاه, لنـجيء بسحر مثل الذي جئت به, فننظر أينا يغلب صاحبه, لا نـخـلف ذلك الـموعد نَـحْنُ وَلا أنْتَ مَكانا سُوًى يقول: بـمكان عدل بـيننا وبـينك ونَصَف.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين: «مَكانا سِوًى» بكسر السين, وقرأته عامة قرّاء الكوفة: مَكانا سُوًى بضمها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أنهما لغتان, أعنـي الكسر والضم فـي السين من «سوى» مشهورتان فـي العرب. وقد قرأت بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, مع اتفـاق معنـيـيهما, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وللعرب فـي ذلك إذا كان بـمعنى العدل والنصب لغة هي أشهر من الكسر والضم وهو الفتـح, كما قال جلّ ثناؤه تَعَالُوا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـينَنا وَبَـيْنَكُمْ وإذا فتـح السين منه مدّ. وإذا كسرت أو ضمت قصر, كما قال الشاعر:
فإنّ أبـانا كانَ حَلّ بِبَلْدَةٍسُوًى بـينَ قَـيْسٍ قَـيْسٍ عَيْلانَ والفِزْرِ
ونظير ذلك من الأسماء: طُوَى, وطَوَى وثَنى وثُنَى وَعَدَى, وعُدَى. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك, قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18229ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: مَكانا سُوًى قال: منصفـا بـينهم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, بنـحوه.
18230ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة مَكانا سوًى: أي عادلاً بـيننا وبـينك.
18231ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, قوله: مَكانا سُوًى قال: نصفـا بـيننا وبـينك.
18232ـ حدثنا موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, فـي قوله: فـاجْعَلْ بَـيْنَنا وَبَـيْنَكَ مَوْعِدا لا نُـخْـلِفُهُ نَـحْنُ وَلا أنْتَ مَكانا سُوًى قال: يقول: عدلاً. وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:
18233ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: مَكانا سُوًى قال: مكانا مستويا يتبـين للناس ما فـيه, لا يكون صوب ولا شيء فـيغيب بعض ذلك عن بعض مستوٍ حين يرى.
الآية : 59و60
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى * فَتَوَلّىَ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمّ أَتَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: قال موسى لفرعون, حين سأله أن يجعل بـينه وبـينه موعدا للاجتـماع: موعدكم للاجتـماع يَوْمُ الزّينَةِ يعنـي يوم عيد كان لهم, أو سوق كانوا يتزيّنون فـيه وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ يقول: وأن يُساق الناس من كلّ فجّ وناحية ضُحًى فذلك موعد ما بـينـي وبـينك للاجتـماع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18234ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى فإنه يوم زينة يجتـمع الناس إلـيه ويحشر الناس له.
18235ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ قال: يوم زينة لهم, ويوم عيد لهم وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى إلـى عيد لهم.
18236ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد يَوْمُ الزّينَةِ قال: يوم السوق.
18237ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد يَوْمُ الزّينَةِ: موعدهم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
18238ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ قال موسى: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى وذلك يوم عيد لهم.
18239ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد حدثنا سعيد, عن قتادة قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ يوم عيد كان لهم. وقوله: وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى يجتـمعون لذلك الـميعاد الذي وعدوه.
18240ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: قالَ مَوْعَدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ قال: يوم العيد, يوم يتفرّغ الناس من الأعمال, ويشهدون ويحضُرون ويرون.
18241ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةُ يوم عيد كان فرعون يخرج له وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى حتـى يحضروا أمري وأمرك, وأنّ من قوله وأنْ يحْشَرَ النّاسُ ضُحًى رفع بـالعطف علـى قوله يَوْمُ الزّينَةِ. وذُكر عن أبـي نهيك فـي ذلك ما:
18242ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: عبد الـمؤمن, قال: سمعت أبـا نهيك يقول: وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضحًى يعنـي فرعون يحشر قومه.
وقوله: فَتَوَلّـى فِرْعَوْنُ يقول تعالـى ذكره: فأدبر فرعون معرضا عما أتاه به من الـحقّ فجَمَعَ كَيْدَهُ يقول: فجمع مكره, وذلك جمعُه سحرتَه بعد أخذه إياهم بتعلـمه, ثُمّ أتَـى يقول: ثم جاء للـموعد الذي وعده موسى, وجاء بسحرته.
الآية : 61
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىَ }.
يقل تعالـى ذكره: قَالَ مُوسَى للسحرة لـما جاء بهم فرعون: وَيْـلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلـى اللّهِ كَذِبـا يقول: لا تـختلفوا علـى الله كذبـا, ولا تتقوّلوه فَـيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ فـيستأصلكم بهلاك فـيبـيدكم. وللعرب فـيه لغتان: سَحَت, وأسحت, وَسَحت, أكثر من أسحت, يقال منه: سحت الدهر, وأسحت مال فلان: إذا أهلكه فهو يَسْحَته سحتا, وأسحته يُسْحته إسحاتا. ومن الإسحات قول الفرزدق:
وَعَضّ زَمانٍ يا بْنَ مَرْوَنَ لَـمْ يَدَعْمِنَ الـمَالِ إلاّ مُسْحَتا أوْ مُـجَلّفُ
ويُروى: إلا مسحت أو مـجلف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18243ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: فَـيُسْحِتَكم بِعَذَابٍ يقول: فـيهلككم.
18244ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة فَـيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ يقول يستأصلكم بعذاب.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, فـي قوله: فَـيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ قال: فـيستأصلكم بعذاب فـيهلككم.
18245ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فَـيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ قال: يهلككم هلاكا لـيس فـيه بقـيّة, قال: والذي يسحت لـيس فـيه بقـية.
18246ـ حدثنا موسى قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ فَـيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ يقول يهلككم بعذاب.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: «فَـيَسْحَتَكُمْ» بفتـح الـياء من سحت يَسحت. وقرأته عامة قرّاء الكوفة: فَـيُسْحِتَكُمْ بضم الـياء من أسحت يُسْحِت.
قال أبو جعفر: والقول فـي ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان, ولغتان معروفتان بـمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب, غير أن الفتـح فـيها أعجب إلـيّ لأنها لغة أهل العالـية, وهي أفصح, والأخرى وهي الضمّ فـي نـجد.
وقوله: وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرَى يقول: ولـم يظفر من يخـلق كذبـا وبقوله, بكذبه ذلك, بحاجته التـي طلبها به, ورجا إدراكها به.
الآية : 62 و 63
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَتَنَازَعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَىَ * قَالُوَاْ إِنْ هَـَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ }.
يقول تعالـى ذكره: فتنازع السحرة أمرهم بـينهم. وكان تنازعهم أمرهم بـينهم فـيـما ذكر أن قال بعضهم لبعض, ما:
18247ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: فَتَنازَعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ وأسَرّوا النّـجْوَى قال السحرة بـينهم: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه, وإن كان من السماء فله أمر.
وقال آخرون بل هو أن بعضهم قال لبعض: ما هذا القول بقول ساحر. ذكر من قال ذلك:
18248ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه, قال: جمع كلّ ساحر حبـاله وعصيه, وخرج موسى معه أخوه يتكىء علـى عصاه, حتـى أتـى الـمـجمع, وفرعون فـي مـجلسه, معه أشراف أهل مـملكته, قد استكَفّ له الناس, فقال موسى للسحرة حين جاءهم: وَيْـلَكُمْ لا تَفْتَروا عَلـى اللّهِ كَذِبـا فَـيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرَى فترادّ السحرة بـينهم, وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر.
وقوله: وأسَرّوا النّـجْوَى يقول تعالـى ذكره: وأسرّوا السحرة الـمناجاة بـينهم.
ثم اختلف أهل العلـم السرار الذي أسروه, فقال بعضهم: هو قول بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه, وإن كان من أمر السماء فإنه سيغلبنا. وقال آخرون فـي ذلك ما:
18249ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه, قال: أشار بعضهم إلـى بعض بتناج: إنْ هَذَانِ لسَاحِرَانِ يُرِيدَانه أنْ يخْرِجاكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما.
18250ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ: فَتَنازَعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ وأسَرّوا النّـجْوَى من دون موسى وهارون, قالوا فـي نـجواهم: إنْ هَذَانِ لَساحِرَانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرَهُما وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمْ الـمُثْلَـى قالوا: إن هذان لساحران, يَعْنُون بقولهم: إن هذان موسى وهارون, لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما, كما:
18251ـ حدثنا بِشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: إنْ هَذَانِ لَساحِرَانِ يُرِيدَانِ أنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما موسى وهارون صلـى الله علـيهما.
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: إنْ هَذَانِ لَساحِرَانِ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: «إنّ هَذَانِ» بتشديد إن وبـالألف فـي هذان, وقالوا: قرأنا ذلك كذلك. وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: «إن» خفـيفة فـي معنى ثقـيـلة, وهي لغة لقوم يرفعون بها, ويدخـلون اللام لـيفرقوا بـينها وبـين التـي تكون فـي معنى ما. وقال بعض نـحويـيّ الكوفة: ذلك علـى وجهين: أحدهما علـى لغة بنـي الـحارث بن كعب ومن جاورهم, يجعلون الاثنـين فـي رفعهما ونصبهما وخفضهما بـالألف. وقد أنشدنـي رجل من الأَسْد عن بعض بنـي الـحارث بن كعب:
فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشّجاعِ وَلَوْ رَأىَمَساغا لِنابـاهُ الشّجاعُ لَصمّـما
قال: وحكى عنه أيضا: هذا خط يدا أخي أعرفه, قال: وذلك وإن كان قلـيلاً أقـيس, لأن العرب قالوا: مسلـمون, فجعلوا الواو تابعة للضمة, لأنها لا تعرب, ثم قالوا: رأيت الـمسلـمين, فجعلوا الـياء تابعة لكسرة الـميـم قالوا: فلـما رأوا الـياء من الاثنـين لا يـمكنهم كسر ما قبلها, وثبت مفتوحا, تركوا الألف تتبعه, فقالوا: رجلان فـي كلّ حال. قال: وقد اجتـمعت العرب علـى إثبـات الألف فـي كلام الرجلـين, فـي الرفع والنصب والـخفض, وهما اثنان, إلا بنـي كنانة, فإنهم يقولون: رأيت كِلَـىِ الرجلـين, ومررت بكلـي الرجلـين, وهي قبـيحة قلـيـلة مَضَوا علـى القـياس. قال: والوجه الاَخر أن تقول: وجدت الألف من هذا دعامة, ولـيست بلام «فَعلَـى» فلـما بنـيت زدت علـيها نونا, ثم تركت الألف ثابتة علـى حالها لا تزول بكلّ حال, كما قالت العرب الذي, ثم زادوا نونا تدلّ علـى الـجمع, فقالوا: الذين فـي رفعهم ونصبهم وخفضهم, كما تركوا هذان فـي رفعه ونصبه وخفضه. قال: وكان القـياس أن يقولوا: الّذُون. وقال آخر منهم: ذلك من الـجزم الـمرسل, ولو نصب لـخرج إلـى الانبساط.
18252ـ وحُدثت عن أبـي عُبـيدة معمر بن الـمثنى, قال: قال أبو عمرو وعيسى بن عمر ويونس, إن هذين لساحران فـي اللفظ, وكتب «هذان» كما يريدون الكتاب, واللفظ صواب. قال: وزعم أبو الـخطاب أنه سمع قوما من بنـي كنانة وغيرهم, يرفعون الاثنـين فـي موضع الـجرّ والنصب. قال: وقال بشر بن هلال: إن بـمعنى الابتداء والإيجاب. ألا ترى أنها تعمل فـيـما يـلـيها, ولا تعمل فـيـما بعد الذي بعدها, فترفع الـخبر ولا تنصبه, كما نصبت الاسم, فكان مـجاز «إن هذان لساحران», مـجاز كلامين, مَخْرجه: إنه: إي نَعَم, ثم قلت: هذان ساحران. ألا ترى أنهم يرفعون الـمشترك كقول ضابىء:
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بـالـمَدِينَةِ رَحْلُهُفإنّـي وَقَـيّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وقوله:
إنّ السّيُوفَ غُدُوّها وَرَواحَهاتَرَكْتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
قال: ويقول بعضهم: إن الله وملائكتُهُ يصلون علـى النبـيّ, فـيرفعون علـى شركة الابتداء, ولا يعملون فـيه إنّ. قال: وقد سمعت الفصحاء من الـمُـحْرِمين يقولون: إن الـحمدَ والنعمةُ لك والـملكُ, لا شريك لك. قال: وقرأها قوم علـى تـخفـيف نون إن وإسكانها. قال: ويجوز لأنهم قد أدخـلوا اللام فـي الابتداء وهي فصل, قال:
أُمّ الـحُلَـيْسِ لعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ
قال: وزعم قوم أنه لا يجوز, لأنه إذا خفف نوّن «إن» فلا بدّ له من أن يدخـل «إلا» فـيقول: إن هذا إلا ساحران.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: إنّ بتشديد نونها, وهذان بـالألف لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه, وأنه كذلك هو فـي خطّ الـمصحف. ووجهه إذا قرىء كذلك مشابهته الذين إذ زادوا علـى الذي النون, وأقرّ فـي جميع الأحوال الإعراب علـى حالة واحدة, فكذلك إنّ هَذَانِ زيدت علـى هذا نون وأقرّ فـي جميع أحوال الإعراب علـى حال واحدة, وهي لغة بلـحرث بن كعب, وخثعم, وزبـيد, ومن ولـيهم من قبـائل الـيـمن.
وقوله: وَيَذْهَبـا بطَرِيقَتِكُمْ الـمُثْلَـى يقول: ويغلبـا علـى ساداتكم وأشرافكم, يقال: هو طريقة قومه ونظورة قومه, ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والـمنظور إلـيه, يقال ذلك للواحد والـجمع, وربـما جمعوا, فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم ومنه قول الله تبـارك وتعالـى: كُنّا طَرَائقَ قِدَادا وهؤلاء نظائر قومهم. وأما قوله: الـمُثْلَـى فإنها تأنـيث الأمثل, يقال للـمؤنث, خذ الـمثلـى منهما. وفـي الـمذكر: خذ الأمثل منهما, ووحدت الـمثلـى, وهي صفة ونعت للـجماعة, كما قـيـل: لهُ الأسْماءُ الـحُسْنَى, وقد يحتـمل أن يكون الـمُثلـى أنثت لتأنـيث الطريقة.
وبنـحو ما قلنا فـي معنى قوله: بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18253ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثلَـى يقول: أمثلكم وهم بنو إسرائيـل.
18254ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى قال: أولـي العقل والشرف والأنساب.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد, فـي قوله وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى قال: أولـي العقول والأشراف والأنساب.
18255ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى وطريقتهم الـمُثلـى يومئذٍ كانت بنو إسرائيـل, وكانوا أكثر القوم عددا وأموالاً وأولادا. قال عدوّ الله: إنـما يريدان أن يذهبـا بهم لأنفسهما.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة فـي قوله بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى قال: ببنـي إسرائيـل.
18256ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ وَيَذْهَبَـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى يقول: يذهبـا بأشراف قومكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتـم علـيه, من قولهم: فلان حسن الطريقة. ذكر من قال ذلك:
18257ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى قال: يذهبـا بـالذي أنتـم علـيه, يغير ما أنتـم علـيه. وقرأ: ذَرُونِـي أقْتُلْ مُوسَى وَلـيْدْعُ رَبّهُ إنّـي أخافُ أنْ يُبَدّلَ دِينَكُمْ أوْ أنْ يُظْهِرَ فِـي الأرْضِ الفَسادَ قال: هذا قوله: وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى وقال: يقول طريقتكم الـيوم طريقة حسنة, فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة. ورُوي عن علـي فـي معنى قوله: وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى ما:
18258ـ حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق, عن القاسم, عن علـيّ بن أبـي طالب, قال: يصرفـان وجوه الناس إلـيهما.
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد فـي قوله: ويَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى وإن كان قولاً له وجه يحتـمله الكلام, فإن تأويـل أهل التأويـل خلافه, فلا أستـجيز لذلك القول به.
الآية : 64
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىَ }.
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والكوفة فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمز الألف من فأجْمِعُوا, ووجّهوا معنى ذلك إلـى: فأحكموا كيدكم, واعزموا علـيه من قولهم: أجمع فلان الـخروج, وأجمع علـى الـخروج, كما يقال: أزمع علـيه ومنه قول الشاعر:
يا لَـيْت شعْرِي والـمُنى لا تَنْفَعُهَلْ أغْدُوَنْ يَوْما وأمْرِيَ مُـجْمَعُ
يعنـي بقوله: «مـجمع» قد أحكم وعزم علـيه ومنه قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَـمْ يُجْمِعْ عَلـى الصّوْمِ مِن اللّـيْـلِ فَلا صَوْم لَهُ».
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة: «فـاجْمِعُوا كَيْد كُمْ» بوصل الألف, وترك همزها, من جمعت الشيء, كأنه وجّهه إلـى معنى: فلا تدَعوا من كيدكم شيئا إلا جئتـم به. وكان بعض قارئي هذه القراءة يعتلّ فـيـما ذُكر لـي لقراءته ذلك كذلك بقوله: فَتَوّلـى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ.
قال أبو جعفر: والصواب فـي قراءة ذلك عندنا همز الألف من أجمع, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه, وأن السحرة هم الذين كانوا به معروفـين, فلا وجه لأن يقال لهم: اجمعوا ما دعيتـم له مـما أنتـم به عالـمون, لأن الـمرء إنـما يجمع ما لـم يكن عنده إلـى ما عنده, ولـم يكن ذلك يوم تزيد فـي علـمهم بـما كانوا يعملونه من السحر, بل كان يوم إظهاره, أو كان متفرّقا مـما هو عنده, بعضه إلـى بعض, ولـم يكن السحر متفرّقا عندهم فـيجمعونه. وأما قوله: فَجَمَعَ كَيْدَهُ فغير شبـيه الـمعنى بقوله فَأجِمعُوا كَيْدَكُمْ وذلك أن فرعون كان هو الذي يجمع ويحتفل بـما يغلب به موسى مـما لـم يكن عنده مـجتـمعا حاضرا, فقـيـل: فتولـى فرعون فجمع كيده.
وقوله: ثُمّ ائْتُوا صَفّـا يقول: احضروا وجيئوا صفـا والصفّ ههنا مصدر, ولذلك وحد, ومعناه: ثم ائتوا صفوفـا, وللصفّ فـي كلام العرب موضع آخر, وهو قول العرب: أتـيت الصفّ الـيوم, يعنـي به الـمصلـى الذي يصلـى فـيه.
وقوله: وَقَدْ أفْلَـحَ الـيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَـى يقول: قد ظفر بحاجته الـيوم من علا علـى صاحبه فقهره, كما:
18259ـ حدثنا ابن حميد, قلا: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, قال: حُدثت عن وهب بن منبه, قال: جمع فرعون الناس لذلك الـجمع, ثم أمر السحرة فقال: ائْتُوا صَفّـا وَقَدْ أفْلَـحَ الـيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَـى أي قد أفلـح من أفلـج الـيوم علـى صاحبه