تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 315 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 315

314

فأجابه موسى، فـ 52- "قال علمها عند ربي" أن إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا. وعلى التفسير الأول يكون معنى "علمها عند ربي" أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها، ومعنى كونها في كتاب أنها مثبته في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: المعنى أن أعمالهم محفوطة عند الله يجازي بها، والتقدير: علم أعمالها عند ربي في كتاب. وقد اختلف في معنى "لا يضل ربي ولا ينسى" على أقوال: الأول أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين. وقد تم الكلام عند قوله "في كتاب" كذا قال الزجاج. قال ومعنى "لا يضل" لا يهلك من قوله " أإذا ضللنا في الأرض " "ولا ينسى" شيئاً من الأشياء، فقد نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني أن معنى لا يضل لا يخطئ. القول الثالث أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة. القول الرابع أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب، ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، حكي هذا عن الزجاج أيضاً. قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى. ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي. القول الخامس أن هاتين الجملتين صفة لكتاب، والمعنى: أن الكاتب غير ذاهب عن الله ولا ناس له.
53- " الذي جعل لكم الأرض مهدا " الموصول في محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان، ويجوز أن يكون خبر لمبتدإ محذوف، أو في محل النصب على المدح. قرأ الكوفيون "مهداً" على أنه مصدر لفعل مقدر: أي مهدها مهداً، أو على تقدير مضاف محذوف: أي ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش. وقرأ الباقون "مهاداً" واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قال لاتفاقهم على قراءة: "ألم نجعل الأرض مهاداً" قال النحاس: والجمع أولى من المصدر، لأن هذا الموضع ليس موضع المصدر إلا على حذف المضاف. قيل يجوز أن يكون مهاداً مفرداً كالفراش، ويجوز أن يكون جمعاً، ومعنى المهاد: الفراش فالمهاد جمع المهد: أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم " وسلك لكم فيها سبلا " السلك: إدخال الشيء في الشيء. والمعنى: أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم. وفي الآية الأخرى " الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون " ثم قال سبحانه ممتناً على عباده "وأنزل من السماء ماء" هو ماء المطر، قيل إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده هو "فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى" من كلام الله سبحانه، وقيل هو من الكلام المحكي عن موسى معطوف على أنزل، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة. ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكي عن واحد هو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه. والمعنى: فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجاً: أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة. وقوله من نبات صفة لأزواجاً، أو بيان له، وكذا شتى صفة أخرى له، أي متفرقة جمع شتيت. وقال الأخفش: التقدير أزواجاً شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى، فيجوز أن يكون شتى نعتاً لـ أزواجاً ويجوز أن يكون نعتاً للنبات، يقال أمر شت: أي متفرق، وشت الأمر شتاً وشتاتاً تفرق واشتت مثله، والتشتيت المتفرق. قال رؤبة: جاءت معاً وأطرقت شتيتاً
وجملة 54- "كلوا وارعوا" في محل نصب على الحال بتقدير القول: أي قائلين لهم ذلك، والأمر للإباحة: يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية: أي أسامها وسرحها يجيء لازماً ومتعدياً، والإشارة بقوله: " إن في ذلك لآيات لأولي النهى " إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات، والنهي العقول جمع نهية، وخص ذوي النهي لأنهم الذين ينتهون إلى رأيهم، وقيل لأنهم ينهون النفس عن القبائح، وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله: "فمن ربكما يا موسى".
والضمير في 55- "منها خلقناكم" وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقاً. قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه. وقيل المعنى: أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه "وفيها" أي في الأرض "نعيدكم" بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصبر من جنس الأرض، وجاء بفي دون إلى للدلالة على الاستقرار "ومنها" أي من الأرض "نخرجكم تارة أخرى" أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت، والتارة كالمرة.
56- "ولقد أريناه آياتنا كلها" أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها، والمراد بالآيات هي الآيات التسع المذكورة في قوله: "ولقد آتينا موسى تسع آيات" على أن الإضافة للعهد. وقيل المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأول أولى. وقيل المراد بالآيات حجج الله سبحانه الدالة على توحيده "فكذب وأبى" أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً".
وجملة 57- "قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات: أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير.
58- "فلنأتينك بسحر مثله" الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم: أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر "فاجعل بيننا وبينك موعداً" هو مصدر: أي وعداً، وقيل اسم مكان: أي اجعل لنا يوماً معلوماً، أو مكاناً معلوماً لا نخلفه. قال القشيري: والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال: "لا نخلفه" أي لا نخلف ذلك الوعد، والإخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه. قال الجوهري: الميعاد المواعدة والوقت الموضع، وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج "لا نخلفه" بالجزم على أنه جواب لقوله اجعل. وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعداً: أي لا نخلف ذلك الوعد "نحن ولا أنت" وفوض تعيين الموعد إلى موسى إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى، وانتصاب "مكاناً سوى" بفعل مقدر يدل عليه المصدر، أو على أنه بدل من موعد. قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة "سوى" بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السير لأنها اللغة العالية الفصيحة، والمراد مكاناً مستوياً، وقيل مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك. قال سيبويه: يقال سوى وسوى: أي عدل، يعني عدلاً بين المكانين. قال زهير: أرونا خطة لا ضيم فيها يسوى بيننا فيها السواء قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي: وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس غيلان والفزر والفزر سعد بن زيد مناة.
ثم واعده موسى بوقت معلوم فـ "قال موعدكم يوم الزينة" قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسدي: كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه، وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشوراء، وقال الضحاك: يوم السبت، وقيل يوم النيروز، وقيل يوم كسر الخليج. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص يوم الزينة بالنصب، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو: أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر موعدكم، وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى، لأن يوم الزينة يدل على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، أو على تقدير مضاف محذوف: أي موعدكم مكان يوم الزينة "وأن يحشر الناس ضحى" معطوف على يوم الزينة فيكون في محل رفع، أو على الزينة فيكون في محل جر، يعني ضحى ذلك اليوم، والمراد بالناس أهل مصر. والمعنى: يحشرون إلى العيد وقت الضحى، وينظرون في أمر موسى وفرعون. قال الفراء: المعنى إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد. قال: وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم. والضحى قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى، وهو حين تشرق الشمس، وخص الضحى لأنه أول النهار، فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع. وقرأ ابن مسعود والجحدري وأن يحشر على البناء للفاعل: أي وأن يحشر الله الناس ضحى. وروي عن الجحدري أنه قرأ وأن نحشر بالنون وقرأ بعض القراء بالتاء الفوقية: أي وأن تحشر أنت يا فرعون، وقرأ الباقون بالتحتية على البناء المفعول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إننا نخاف أن يفرط علينا" قال: يعجل "أو أن يطغى" قال: يعتدي. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: "أسمع وأرى" قال: أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به، فأوحي إليكما فتجاوبانه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول؟ قال: قل أهيا شراهيا. قال الأعشى: تفسير ذلك الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء. وجود السيوطي إسناده، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "على من كذب وتولى" قال: كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "أعطى كل شيء خلقه" قال: خلق لكل شيء زوجه "ثم هدى" قال: هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا يضل ربي" قال: لا يخطئ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "من نبات شتى" قال: مختلف. وفي قوله: " لأولي النهى " قال: لأولي التقى. وأخرج ابن المنذر عنه " لأولي النهى " قال: لأولي الحجا والعقل. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم". وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: " لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى"، بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" وفي حديث في السنن "أنه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: "منها خلقناكم"، ثم أخرى وقال: "وفيها نعيدكم"، ثم أخرى وقال: "ومنها نخرجكم تارة أخرى"". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "موعدكم يوم الزينة" قال: يوم عاشوراء. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه.
قوله: 60- "فتولى فرعون" أي انصرف من ذلك المقام ليهيء ما يحتاج إليه مما تواعدا عليه، وقيل معنى أعرض عن الحق، والأول أولى "فجمع كيده" أي جمع ما يكيد به من سحره وحيلته، والمراد أنه جمع السحرة، قيل كانوا اثنين وسبعين، وقيل أربعمائة، وقيل إثنا عشر ألفاً، وقيل أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفاً "ثم أتى" أي أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه.
وجملة 61- "قال لهم موسى" مستأنفة جواب سؤال مقدر "ويلكم لا تفتروا على الله كذباً" دعا عليهم بالويل، ونهاهم عن افتراء الكذب. قال الزجاج: هو منصوب بمحذوف، والتقدير ألزمهم الله ويلاً. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله: "يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا" "فيسحتكم بعذاب" السحت الاستئصال، يقال سحت وأسحت بمعنى، وأصله استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون إلا شعبة "فيسحتكم" بضم حرف المضارعة من أسحت، وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بفتحه من سحت، وهي لغة الحجاز وانتصابه على أنه جواب للنهي "وقد خاب من افترى" أي خسر وهلك، والمعنى: قد خسر من افترى على الله أي كذب كان.
62- "فتنازعوا أمرهم بينهم" أي السحرة لما سمعوا كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك "وأسروا النجوى" أي من موسى.وكانت نجواهم هي قولهم.
63- "إن هذان لساحران" وقيل إنهم تناجوا فيما بينهم فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر، وقيل الذي أسروه أنه إذا غلبهم اتبعوه قاله الفراء والزجاج، وقيل الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى ويلكم لا تفتروا على الله، قالوا: ما هذا بقول ساحر. والنجوى المناجاة يكون اسماً ومصدراً. قرأ أبو عمرو " إن هذان لساحران " بتشديد الحرف الداخل على الجملة وبالياء في اسم الإشارة على إعمال إن عملها المعروف، وهو نصب الاسم ورفع الخبر، ورويت هذه القراءة عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة، وبها قرأ الحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم من التابعين، وبها قرأ عاصم الجحدري وعيسى بن عمر كما حكاه النحاس، وهذه القراءة موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه إن هذان بتخفيف إن على أنها نافية، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وللإعراب، وقرأ ابن كثير مثل قراءتهم إلا أنه يشدد النون من هذان. وقرأ المدنيون والكوفيون وابن عامر "إن هذان" بتشديد إن وبالألف، فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر. وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه قراءة المدنيين والكوفيين وابن عامر، وقد استوفى ذكر ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحارث بن كعب، وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف ومنه قول الشاعر: فأطرق إطراق الشجاع ولويرى مساغاً لنا باه الشجاع لصمما وقول الآخر: تزود منا بين أذناه ضربة وقول الآخر: إن آباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها ومما يؤيد هذا تصريح سيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء إن هذه القراءة على لغة بني الحارث بن كعب، وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة، وحكى غيره أنها لغة خثعم، وقيل إن أن بمعنى نعم ها هنا كما حكاه الكسائي عن عاصم، وكذا حكاه سيبويه. قال النحاس: رأيت الزجاج والأخفش يذهبان إليه، فيكون التقدير: نعم هذان لساحران، ومنه قول الشاعر: ليت شعري هل للمحب شفاء من جوى حبهن إن اللقاء أي نعم اللقاء. قال الزجاج: والمعنى في الآية: أن هذا لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ وهو هما. وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني، وقيل إن الألف في هذا مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير، وقيل إن الهاء مقدرة: أي إنه هذان لساحران حكاه الزجاج عن قدماء النحويين، وكذا حكاه ابن الأنباري. وقال ابن كيسان: إنه لما كان يقال هذا بالألف في الرفع والنصب والجر على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فثبت الألف في الرفع والنصب والجر، فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة توجه تصح به، وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف "يريدان أن يخرجاكم من أرضكم" وهي أرض مصر "بسحرهما" الذي أظهراه "ويذهبا بطريقتكم المثلى" قال الكسائي: بطريقتكم بسنتكم، والمثلى نعت كقولك: امرأة كبرى، تقول العرب فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم. قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم، والمثلى تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، يقال فلان أمثل قومه: أي أفضلهم، وهم الأماثل. والمعنى: أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم، أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب.
64- "فأجمعوا كيدكم" الإجماع الإحكام، والعزم على الشيء قاله الفراء. تقول أجمعت على الخروج مثل أزمعت. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه، وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع. قال النحاس: وفيما حكى لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس "ثم ائتوا صفاً" أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم، وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى، فعلى التفسير الأول يكون انتصاب صفاً على الحال، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا الناس مصطفون، فيكون على هذا مصدراً في موضع الحال، ولذلك لم يجمع، وقرئ بكسر الهمزة بعدها ياء، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفاً "وقد أفلح اليوم من استعلى" أي من غلب، يقال استعلى عليه إذا غلبه، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، وقيل من قول فرعون لهم.