تفسير السعدي تفسير الصفحة 524 من المصحف


أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 ) .
( أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع: « أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون » أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين:
أما كونه سحرا، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر من جميع الوجوه، وأما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلة والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجلية.
ويحتمل أن الإشارة [ بقوله: ( أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) ] إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق المبين، والصراط المستقيم أي: هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر أم عدم بصيرة بكم، حتى اشتبه عليكم الأمر، وحقيقة الأمر أنه أوضح من كل شيء وأحق الحق، وأن حجة الله قامت عليهم .
( اصْلَوْهَا ) أي: ادخلوا النار على وجه تحيط بكم، وتستوعب جميع أبدانكم وتطلع على أفئدتكم.
( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ ) أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئا، ولا يتأسى بعضكم ببعض، ولا يخفف عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها وزالت شدتها.
وإنما فعل بهم ذلك، بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم، [ ولهذا قال ] ( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 20 ) .
لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين، ذكر نعيم المتقين، ليجمع بين الترغيب والترهيب، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء، فقال: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ ) لربهم، الذين اتقوا سخطه وعذابه، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
( فِي جَنَّاتِ ) أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة، والأنهار المتدفقة، والقصور المحدقة، والمنازل المزخرفة، ( وَنَعِيمٍ ) [ وهذا ] شامل لنعيم القلب والروح والبدن،
( فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ) أي: معجبين به، متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفه، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، ووقاهم عذاب الجحيم، فرزقهم المحبوب، ونجاهم من المرهوب، لما فعلوا ما أحبه الله، وجانبوا ما يسخطه ويأباه.
( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) أي: مما تشتهيه أنفسكم، من [ أصناف ] المآكل والمشارب اللذيذة، ( هَنِيئًا ) أي: متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور. ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة، وأقوالكم المستحسنة.
( مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) الاتكاء: هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار، والسرر: هي الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية.
ووصف الله السرر بأنها مصفوفة، ليدل ذلك على كثرتها، وحسن تنظيمها، واجتماع أهلها وسرورهم، بحسن معاشرتهم، ولطف كلام بعضهم لبعض فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، من المآكل والمشارب [ اللذيذة ] ، والمجالس الحسنة الأنيقة، لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور بدونهن فذكر الله أن لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافا وخلقا وأخلاقا، ولهذا قال: ( وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) وهن النساء اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها، ومن الأخلاق الفاضلة، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين، ويسلبن عقول العالمين، وتكاد الأفئدة أن تطيش شوقا إليهن، ورغبة في وصالهن، والعين: حسان الأعين مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 ) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ( 23 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ( 24 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 25 ) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 26 ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( 27 ) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ( 28 ) .
وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [ بهم ] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعا لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئا، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكما واحدا، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحدا إلا بذنب، ولهذا قال: ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور.
وقوله: ( وَأَمْدَدْنَاهُمْ ) أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم، ( بِفَاكِهَةٍ ) من العنب والرمان والتفاح، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون، ( وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم، من لحم الطير وغيرها.
( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا ) أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأس ( لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ) أي: ليس في الجنة كلام لغو، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم، وهو الذي فيه إثم ومعصية، وإذا انتفى الأمران، ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة، ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل على رضاه عنهم [ ومحبته لهم ] .
( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ ) أي: خدم شباب ( كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته، وكمال راحتهم.
( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) عن أمور الدنيا وأحوالها. ( قَالُوا ) في [ ذكر ] بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: ( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ ) أي: في دار الدنيا ( فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ) أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) بالهداية والتوفيق، ( وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) أي: العذاب الحار الشديد حره.
( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ) أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الأوقات، ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) فمن بره بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ( 29 ) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 ) .
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس، مسلمهم وكافرهم، لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، وأنه لا يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به فقال: ( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ ) أي: منه ولطفه، ( بِكَاهِنٍ ) أي: له رئي من الجن، يأتيه بأخبار بعض الغيوب، التي يضم إليها مائة كذبة، ( وَلا مَجْنُونٍ ) فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلا وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقا، وأجلهم وأكملهم،
وتارة ( يَقُولُونَ ) فيه: إنه ( شَاعِرٌ ) يقول الشعر، والذي جاء به شعر،
والله يقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ
( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) أي: ننتظر به الموت فسيبطل أمره، [ ونستريح منه ] .
( قُلْ ) لهم جوابا لهذا الكلام السخيف: ( تَرَبَّصُوا ) أي: انتظروا بي الموت،
( فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا.