تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 524 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 524

524- تفسير الصفحة رقم524 من المصحف
قوله تعالى: "أفسحر هذا" استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم: "أفسحر هذا" الذي ترون الآن بأعينكم "أم أنتم لا تبصرون" وقيل: "أم" بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. "اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا" أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. "سواء عليكم" أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ "سواء" خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: "سواء علينا أجزعنا أم صبرنا" [إبراهيم: 21]. "إنما تجزون ما كنتم تعملون".
الآية: 17 - 20 {إن المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين}
قوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونعيم" لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا "فاكهين" أي ذوي فاكهة كثيرة؛ يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر؛ أي ذو لبن وتمر؛ قال:
وغررتني وزعمت أنـ ـك لابنٌ بالصيف تامر
أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره: "فكهين" بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره؛ يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في "الدخان" القول في هذا. "بما آتاهم" أي أعطاهم "ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم" "كلوا واشربوا" أي يقال لهم ذلك. "هنيئا بما كنتم تعملون" الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه "هنيئا". وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم "هنيئا" فهو صفة في موضع المصدر. "هنيئا": أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل: "هنيئا" أي لا تموتون؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء.
قوله تعالى: "متكئين على سرر" سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. "مصفوفة" قال ابن الأعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. "وزوجناهم بحور عين" أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل: "وزوجناهم بحور عين" أي قرناهم بهن؛ من قول الله تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" [الصافات: 22] أي وقرناءهم. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين.
الآية: 21 - 24 {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين، وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون، يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم، ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون}
قوله تعالى: "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم" قرأ العامة "وأتبعتهم" بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو "وأتبعناهم" بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون؛ أعتبارا بقوله:" ألحقنا بهم" ليكون الكلام على نسق واحد. "ذريتهم" الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون "ذريتهم" على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون "ذريتهم" على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في "الناسخ والمنسوخ" له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه) ثم قرأ "والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان" الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان؛ قال المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: "بإيمان" في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير "بإيمان" من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: "بإيمان" حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء؛ فالأباء داخلون في اسم الذرية؛ كقوله تعالى: "وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون" [يس: 41]. وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به). وقالت خديجة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي: (هما في النار) فلما رأى الكراهية في وجهي قال: (لو رأيت مكانهما لأبغضتهما) قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: (في الجنة) ثم قال: (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار) ثم قرأ "والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان" الآية.
قوله تعالى: "وما ألتناهم من عملهم من شيء" أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: "والذين أمنوا". وقال ابن زيد: المعنى "وأتبعتهم ذريتهم بإيمان" ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل؛ فالهاء والميم على، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير "وما ألتناهم" بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة "آلتناهم" بالمد؛ قال ابن الأعرابي: الته يألته ألتا، وآلته يولته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ "الحجرات".
قوله تعالى: "كل امرئ بما كسب رهين" قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: "كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين" [المدثر: 38]. وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم.
قوله تعالى: "وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون" أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. "يتنازعون فيها كأسا" أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وقال امرؤ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وقد مضى هذا في "والصافات". "لا لغو فيها" أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو "ولا تأثيم" ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل: "لا لغو فيها" أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله! "ولا تأثيم" أي ولا كذب؛ قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو: "لا لغو فيها ولا تأثيم" بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في "البقرة" عند قوله تعالى: "ولا خلة ولا شفاعة" [البقرة: 254] والحمد لله.
قوله تعالى: "ويطوف عليهم غلمان لهم" أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب؛ ودليله: "يطاف عليهم بصحاف من ذهب" [الزخرف: 71]، "يطاف عليهم بكأس من معين" [الصافات: 45]. ثم قيل: هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي: لا يكبرون أبدا "كأنهم" في الحسن والبياض "لؤلؤ مكنون" في الصدف، والمكنون المصون. وقوله تعالى: "يطوف عليهم ولدان مخلدون" [الواقعة: 17]. قيل: هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك). وعن عبدالله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه). وعن الحسن أنهم قالوا: يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم؟ فقال: (ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب). قال الكسائي: كننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا؛ تقول: كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة ومكنة.
الآية: 25 - 28 {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم}
قوله تعالى: "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة "يتساءلون" أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة؟ "قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين" أي قال كل مسؤول منهم لسائله: "إنا كنا قبل" أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. "فمن الله علينا" بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. "ووقانا عذاب السموم" قال الحسن: "السموم" اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر؛ قال الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه
قوله تعالى: "إنا كنا من قبل ندعوه" أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل: "ندعوه" أي نعبده. "إنه هو البر الرحيم" وقرأ نافع والكسائي "أنه" بفتح الهمزة؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و"البر" اللطيف؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج.
الآية: 29 - 34 {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين، أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون، أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}
قوله تعالى: "فذكر" أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. "فما أنت بنعمة ربك" يعني برسالة ربك "بكاهن" تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. "ولا مجنون" وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى "فما أنت بنعمة ربك" القسم؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل؛ أي برأك الله من ذلك.
قوله تعالى: "أم يقولون شاعر" أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح؛ يريد سيبويه أن "أم" في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث؛ كما قال:
أتهجر غانية أم تلم
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال:
أم الحبل واه بها منجذم
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. "نتربص به ريب المنون" قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي:
هم منعوا حمى الوقبي بضرب يؤلف بين أشتات المنون
أي المنايا؛ يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: "ريب" في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور "ريب المنون" يعني حوادث الأمور؛ وقال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال مجاهد: "ريب المنون" حوادث الدهر، والمنون هو الدهر؛ قال أبو ذؤيب:
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضربه ريب المنون ودهر متبل خبل
قال الأصمعي: المنون والليل والنهار؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهر منون؛ لأنه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.
قوله تعالى: "قل تربصوا" أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. "فإني معكم من المتربصين" أي من المنتظرين بكم العذاب؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف.
قوله تعالى: "أم تأمرهم أحلامهم" أي عقولهم "بهذا" أي بالكذب عليك. "أم هم قوم طاغون" أي أم طغوا بغير عقول. وقيل: "أم" بمعنى بل؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: "أحلامهم"أي أذهانهم؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني! فقال: (مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" [الملك: 10]). وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده.
قوله تعالى: "أم يقولون تقوله" أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال:
ومنزلة في دار صدق وعبطة وما آقتال من حكم علي طبيب
فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. "بل لا يؤمنون" جحودا واستكبارا. "فليأتوا بحديث مثله" أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم "إن كانوا صادقين" في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري "فليأتوا بحديث مثله" بالإضافة. والهاء في "مثله" للنبي صلى الله عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن.