تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 524 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 524

523

ثم وبخهم سبحانه أو أمر ملائكته بتوبيخهم، فقال: 15- "أفسحر هذا" الذي ترون وتشاهدون كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة، وقدم الخبر هنا على المبتدأ لأنه الذي وقع الاستفهام عنه وتوجه التوبيخ إليه "أم أنتم لا تبصرون" أي أم أنتم عمي عن هذا كما كنتم عمياً عن الحق في الدنيا.
16- " اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا " أي إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أن ذلك ليس بسحر ولم يكن في أبصاركم خلل، فالآن ادخلوها وقاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا وافعلوا ما شئتم، فالأمران "سواء عليكم" في عدم النفع، قيل أيضاً تقول لهم الملائكة هذا القول، وسواء خبر مبتدأ محذوف: أي الأمران سواء، ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف: أي سواء عليكم الصبر وعدمه، وجملة "إنما تجزون ما كنتم تعملون" تعليل للاستواء، فإن الجزاء بالعمل إذا كان واقعاً حتماً كان الصبر وعدمه سواء.
17- "إن المتقين في جنات ونعيم" لما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفار زيادة في غمهم وحسرتهم، والتنوين "في جنات ونعيم" للتفخيم.
18- " فاكهين بما آتاهم ربهم " يقال رجل فاكه: أي ذو فاكهة، كما قيل لابن وتامر. والمعنى: أنهم ذوو فاكهة من فواكه الجنة، وقيل ذوو نعمة وتلذذ بما صاروا فيه مما أعطاهم الله عز وجل مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد تقدم بيان معنى هذا. قرأ الجمهور "فاكهين" بالألف والنصب على الحال. وقرأ خالد فاكهون بالرفع على أنه خبر بعد خبر. وقرأ ابن عباس فكهين بغير ألف، والفكه: طيب النفس كما تقدم في الدخان، ويقال للأشر والبطر، ولا يناسب التفسير به هنا " ووقاهم ربهم عذاب الجحيم " معطوف على آتاهم، أو على خبر إن، أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد.
19- "كلوا واشربوا هنيئاً" أي يقال لهم ذلك، والهنيء: ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه هناءً، والمعنى: كلوا طعاماً هنيئاً واشربوا شراباً هنيئاً، وقد تقدم تفسي هنيئاً في سورة النساء، وقيل معنى هنيئاً: أنكم لا تموتون.
20- "متكئين على سرر مصفوفة" انتصابه على الحال من فاعل كلوا، أو من مفعول آتاهم، أو من مفعول وقاهم، أو من المضير المستكن في الظرف، أو من الضمير في فاكهين. قرأ الجمهور "على سرر" بضم الراء الأولى. وقرأ أبو السماك بفتحها، والسرر جمع سرير. والمصفوفة المتصل بعضها ببعض حتى تصير صفاً "وزوجناهم بحور عين" أي قرناهم بها. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت بامرأة، وليس من كلام العرب زوجته بامرأة. قال وقول الله تعالى: "وزوجناهم بحور عين" أي قرناهم بهن. وقال الفراء: زوجته بامرأة لغة أزدشنوءة، وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الدخان. قرأ الجمهور "بحور عين" من غير إضافة. وقرأ عكرمة بإضافة الحور إلى العين. وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس "والطور" قال: جبل. وأخرج ابن مردويه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطور جبل من جبال الجنة" وكثير ضعيف جداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "في رق منشور" قال: في الكتاب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقول الساعة"، وفي الصحيحين وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: "ثم رفع إلي البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً عن البيت المعمو فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سموات تحت العرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبداً إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله ابن عمرو رفعه. قال: إن البيت المعمو لبحيال الكعبة لو سقط منه شيء لسقط عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه، وضعف إسناده السيوطي. وأخرج ابن راهويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله: "والسقف المرفوع" قال: السماء. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله: "والبحر المسجور" قال: بحر في السماء تحت العرش. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس. وأخرج ابن المنذر عنه قال: المسجور المرسل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "يوم تمور السماء موراً" قال: تحرك، وفي قوله: "يوم يدعون" قال: يدفعون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: يوم يدعون "إلى نار جهنم دعا" قال: يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "كلوا واشربوا هنيئاً" أي لا تموتون فيها، فعندها قالوا: " أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ".
لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص فقال: 21- " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " والموصول مبتدأ، وخبره ألحقنا بهم ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر: أي وأكرمنا الذين آمنوا، ويكون ألحقنا مفسراً لهذا الفعل المقدر. قرأ الجمهور "واتبعتهم" بإسناد الفعل إلى الذرية. وقرأ أبو عمرو "أتبعناهم" بإسناد الفعل إلى المتكلم، كقوله ألحقنا. وقرأ الجمهور "ذريتهم" بالإفراد. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بالجمع، إلا أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ: وأتبعناهم، ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع، والمشهور عنه كقراءة الجمهور. وقرأ الجمهور "ألحقنا بهم ذريتهم" بالإفراد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمور ويعقوب على الجمع، وجملة "واتبعتهم ذريتهم" معطوف على آمنوا أو معترضة، وبإيمان متعلق بالاتباع، ومعنى هذه الآية: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه وإن كانوا دونه في العمل لتقر عينه وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين، فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية وهم البالغون دون الصغار، فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم فبدليل آخر غير هذه الآية. وقيل إن الذرية تطلق على الكبار والصغار كما هو المعنى اللغوي، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم، ويكون قوله: بإيمان في محل نصب على الحال: أي بإيمان من الآباء. وقيل إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولاً: أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم. وقيل المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار فقط، وظاهر الآية العموم، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صح ذلك، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب "وما ألتناهم من عملهم من شيء" قرأ الجمهور بفتح اللام من "ألتنا" وقرأ ابن كثير بكسرها: أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئاً، فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا. وقيل المعنى: وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئاً لقصر أعمارهم، والأول أولى، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وآلاته في سورة الحجرات. وقرأ ابن هرمز آلتناهم بالمد، وهو لغة، قال في الصحاح: يقال ما آلته من عام، وأن كل إنسان مرتهن بعمله، فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه وإلا أهلكه. وقيل هو بمعنى راهن، والمعنى: كل امرئ بما كسب دائم ثابت. وقيل هذا خاص بالكفار لقوله: " كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين ".
ثم ذكر سبحانه ما أمدهم به من الخير فقال: 22- "وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون" أي زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة متنوعة، ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم ويستطيبونه.
23- "يتنازعون فيها كأساً" أي يتعاطون ويتناولون كأساً، والكأس إناء الخمر، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر أو غيره، فإذا فرغ لم يسم كأساً "لا لغو فيها ولا تأثيم" قال الزجاج: لا يجري بينهم ما يلغى ولا ما فيهم إثم كما يجري بين من يشرب الخمر في الدنيا، والتأثيم تفعيل من الإثم، والضمير في فيها راجع إلى الكأس، وقيل لا لغو فيها: أي في الجنة ولا يجري فيها ما فيه إثم والأول أولى. قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم فيلغوا كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم. وقال الضحاك: لا تأثيم: أي لا كذب. قرأ الجمهور " لا لغو فيها ولا تأثيم " بالرفع والتنوين فيهما. وقرأ ابن كثير وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين. قال قتادة: اللغو الباطل. وقال مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. وقال سعيد بن المسيب: لا رفث فيها. وقال ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. والجملة في محل نصب على الحال صفة لكأساً.
24- "ويطوف عليهم غلمان لهم" أي يطوف عليهم بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك مماليك لهم، وقيل أولادهم "كأنهم" في الحسن والبهاء "لؤلؤ مكنون" أي مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي. قال الكسائي: كننت الشيء: سترته وصنته من الشمس، وأكننته: جعلته في الكن، ومنه كننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة.
25- "وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" أي يسأل بعضهم بعضاً في الجنة عن حاله، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم، وما كانوا فيه من الكد والنكد بطلب المعاش وتحصيل ما لا بد منه من الرزق. وقيل يقول بعضهم لبعض: بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة؟ وقيل إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور. والأول أولى لدلالة السياق على أنهم قد صاروا الجنة.
وجملة: 26- "قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل؟ فقيل: قالوا إنا كنا قبل: أي قبل الآخرة، وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله أو كنا خائفين من عصيان الله.
27- "فمن الله علينا" بالمغفرة والرحمة أو بالتوفيق لطاعته "ووقانا عذاب السموم" يعني عذاب جهنم، والسموم من أسماء جهنم كذا قال الحسن ومقاتل. وقال الكلبي وأبو عبيدة: هو عذاب النار وقال الزجاج: سموم جهنم ما يوجد من حرها. قال أبو عبيدة: السموم بالنهار، وقد يكون بالليل، والحرور بالليل، وقد يكون بالنهار، وقد يستعمل السموم في لفح البرد، وفي لفح الشمس والحر أكثر، ومنه قول الشاعر: اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه وقيل سميت الريح سموماً لأنها تدخل المسام.
28- "إنا كنا من قبل ندعوه" أي نوحد الله ونعبده: أو نسأله أن يمن علينا بالمغفرة والرحمة " إنه هو البر الرحيم " قرأ الجمهور بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ نافع والكسائي بفتحها: أي لأنه، والبر كثير الإحسان، وقيل اللطيف، والرحيم كثير الرحمة لعباده.
29- "فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون" أي اثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير والباء متعلقة بمحذوف هو الحال: أي ما أنت ملتبساً بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوة بكاهن ولا مجنون، وقيل متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام: أي ما أنت حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا محنون، وقيل الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية، والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك كما تقول ما أنا بمعسر بحمد الله. وقيل الباء للقسم متوسطة بين اسم ما وخبرها، والتقدير: ما أنت ونعمة الله بكاهن ولا مجنون، والكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي: أي ليس ما تقوله كهانو، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغع. والمقصود من الآية رد ما كان يقوله المشركون: إنه كاهن أو مجنون.
30- "أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون" أم هي المنقطعة، وقد تقدم الخلاف هل هي مقدرة ببل والهمزة، أو ببل وحدها. قال الخليل: هي هنا للاستفهام. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال النحاس: يريد سيبويه أن أم في كلام العرب للخروج من حديث إلى حديث، ونتربص في محل رفع صفة لشاعر، وريب المنون: صرف الدهر، والمعنى: ننتظر به حوادث الأيام فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، والمنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى المنية. قال الأخفش: المعنى نتربص إلى ريب المنون، فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيداً وقصدت إلى زيد، ومن هذا قول الشاعر: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت خليلها وقول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع قال الأصمعي: المنون راحد لا جمع له. قال الفراء: يكون واحداً وجمعاً. وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له.
ثم أمره سبحانه أن يجيب عنهم، فقال: 31- "قل تربصوا فإني معكم من المتربصين" أي انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المتربصين لموتكم أو هلاككم. قرأ الجمهور نتربص بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين. قرأ زيد بن علي على البناء للمفعول.