سورة الطور | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 524 من المصحف
** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتّكِئِينَ عَلَىَ سُرُرٍ مّصْفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال {إن المتقين في جنات ونعيم} وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال {فاكهين بما آتاهم ربهم} أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك {ووقاهم ربهم عذاب الجحيم} أي وقد نجاهم من عذاب النار, وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} كقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً. وقوله تعالى: {متكئين على سرر مصفوفة} قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان, حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله, يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه». وحدثنا أبي, أخبرنا هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: بلغنا أن الرجل ليتكىء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه, وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم, فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك, فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً, ومعنى {مصفوفه} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {على سرر متقابلين} {وزوجناهم بحور عين} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حساناً من الحور العين, وقال مجاهد {وزوجناهم} أنكحناهم بحور عين, وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته ههنا.
** وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لّهُمْ كَأَنّهُمْ لُؤْلُؤٌ مّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوَاْ إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ * إِنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ
يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه, أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة, وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الاَباء بالأبناء عندهم في منازلهم, فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل, ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك, ولهذا قال: {ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} قال الثوري عن عمر بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه, ثم قرأ {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به, وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به, ورواه البزار عن سهل بن بحر عن الحسن بن حماد الوراق, عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعاً, فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد البيروتي, أخبرني محمد بن شعيب, أخبرني شيبان, أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان, فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم, ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً. وقال الحافظ الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان, حدثنا شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده, فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك, فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به} وقرأ ابن عباس {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الاَية.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية يقول: والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة, وأولادهم الصغار تلحق بهم, وهذا راجع إلى التفسير الأول, فإن ذلك مفسر أصرح من هذا, وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد, وهو اختيار ابن جرير وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما في النار» فلما رأى الكراهية في وجهها قال: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت: يا رسول الله فولدي منك ؟ قال: «في الجنة» قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة, وإن المشركين وأولادهم في النار» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الاَية, هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الاَباء وأما فضله على الاَباء ببركة دعاء الأبناء فقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» إسناده صحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له».
وقوله تعالى: {كل امرىء بما كسب رهين} لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الاَباء من غير عمل يقتضي ذلك, أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد فقال تعالى: {كل امرىء بما كسب رهين} أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس, سواء كان أباً أو ابناً كما قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين} وقوله: {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} أي وألحقناهم بفواكة ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى. وقوله: {يتنازعون فيها كأس} أي يتعاطون فيها كأساً أي من الخمر, قاله الضحاك {لا لغو فيها ولا تأثيم} أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا, قال ابن عباس: اللغو الباطل والتأثيم الكذب, وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون. وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الاَخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها, كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية, وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً, وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال: {بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} وقال: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} وقال ههنا {يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم} وقوله تعالى: {ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة, كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم, كما قال تعالى: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين} وقوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا, وهذا كما يتحدث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم {قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف {إنا كنا من قبل ندعوه} أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا {إنه هو البر الرحيم}.
وقد ورد في هذا المقام حديث رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال: حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا سعيد بن دينار, حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان, فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان, فيتكىء هذا ويتكىء هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا, فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عز وجل فغفر لنا» ثم قال البزار: لا نعرفه يروى إلا بهذا الإسناد. قلت: وسعيد بن دينار الدمشقي ؟ قال أبو حاتم: هو مجهول وشيخه الربيع بن صبيح, وقد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه وهو رجل صالح ثقة في نفسه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الاَية {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} فقالت: اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش في الصلاة ؟ قال: نعم.
** فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبّصُواْ فَإِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده, وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه, ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش, والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء {ولا مجنون} وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ؟} أي قوارع الدهر, والمنون الموت, يقولون ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه, قال الله تعالى: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أي انتظروا فإني منتظر معكم, وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والاَخرة. قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم, فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ؟}.
ثم قال تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم بهذ} أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور {أم هم قوم طاغون} أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون, فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك . وقوله تعالى: {أم يقولون تقوله ؟} أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن, قال الله تعالى: {بل لا يؤمنون} أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه, فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن, فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله, ولا بعشر سور من مثله, ولا بسورة من مثله.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 524
524 : تفسير الصفحة رقم 524 من القرآن الكريم** إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتّكِئِينَ عَلَىَ سُرُرٍ مّصْفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال {إن المتقين في جنات ونعيم} وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال {فاكهين بما آتاهم ربهم} أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك {ووقاهم ربهم عذاب الجحيم} أي وقد نجاهم من عذاب النار, وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} كقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً. وقوله تعالى: {متكئين على سرر مصفوفة} قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان, حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله, يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه». وحدثنا أبي, أخبرنا هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: بلغنا أن الرجل ليتكىء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه, وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم, فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك, فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً, ومعنى {مصفوفه} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {على سرر متقابلين} {وزوجناهم بحور عين} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حساناً من الحور العين, وقال مجاهد {وزوجناهم} أنكحناهم بحور عين, وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته ههنا.
** وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَيْءٍ كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لّهُمْ كَأَنّهُمْ لُؤْلُؤٌ مّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوَاْ إِنّا كُنّا قَبْلُ فِيَ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنّ اللّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السّمُومِ * إِنّا كُنّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنّهُ هُوَ الْبَرّ الرّحِيمُ
يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه, أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة, وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الاَباء بالأبناء عندهم في منازلهم, فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل, ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك, ولهذا قال: {ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} قال الثوري عن عمر بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه, ثم قرأ {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به, وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به, ورواه البزار عن سهل بن بحر عن الحسن بن حماد الوراق, عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعاً, فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد البيروتي, أخبرني محمد بن شعيب, أخبرني شيبان, أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} قال: هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان, فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم, ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً. وقال الحافظ الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان, حدثنا شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده, فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك, فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به} وقرأ ابن عباس {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الاَية.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاَية يقول: والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة, وأولادهم الصغار تلحق بهم, وهذا راجع إلى التفسير الأول, فإن ذلك مفسر أصرح من هذا, وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد, وهو اختيار ابن جرير وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما في النار» فلما رأى الكراهية في وجهها قال: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت: يا رسول الله فولدي منك ؟ قال: «في الجنة» قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة, وإن المشركين وأولادهم في النار» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الاَية, هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الاَباء وأما فضله على الاَباء ببركة دعاء الأبناء فقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» إسناده صحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له».
وقوله تعالى: {كل امرىء بما كسب رهين} لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الاَباء من غير عمل يقتضي ذلك, أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد فقال تعالى: {كل امرىء بما كسب رهين} أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس, سواء كان أباً أو ابناً كما قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين} وقوله: {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} أي وألحقناهم بفواكة ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى. وقوله: {يتنازعون فيها كأس} أي يتعاطون فيها كأساً أي من الخمر, قاله الضحاك {لا لغو فيها ولا تأثيم} أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا, قال ابن عباس: اللغو الباطل والتأثيم الكذب, وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون. وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الاَخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها, كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية, وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً, وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال: {بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} وقال: {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} وقال ههنا {يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم} وقوله تعالى: {ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة, كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم, كما قال تعالى: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين} وقوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا, وهذا كما يتحدث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم {قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف {إنا كنا من قبل ندعوه} أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا {إنه هو البر الرحيم}.
وقد ورد في هذا المقام حديث رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال: حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا سعيد بن دينار, حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان, فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان, فيتكىء هذا ويتكىء هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا, فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عز وجل فغفر لنا» ثم قال البزار: لا نعرفه يروى إلا بهذا الإسناد. قلت: وسعيد بن دينار الدمشقي ؟ قال أبو حاتم: هو مجهول وشيخه الربيع بن صبيح, وقد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه وهو رجل صالح ثقة في نفسه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الاَية {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} فقالت: اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش في الصلاة ؟ قال: نعم.
** فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبّصُواْ فَإِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده, وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه, ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال: {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش, والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء {ولا مجنون} وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ؟} أي قوارع الدهر, والمنون الموت, يقولون ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه, قال الله تعالى: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أي انتظروا فإني منتظر معكم, وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والاَخرة. قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم: احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم, فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ؟}.
ثم قال تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم بهذ} أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور {أم هم قوم طاغون} أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون, فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك . وقوله تعالى: {أم يقولون تقوله ؟} أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن, قال الله تعالى: {بل لا يؤمنون} أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه, فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن, فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله, ولا بعشر سور من مثله, ولا بسورة من مثله.
الصفحة رقم 524 من المصحف تحميل و استماع mp3