تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 131 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 131

131 : تفسير الصفحة رقم 131 من القرآن الكريم

** وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النّارِ فَقَالُواْ يَلَيْتَنَا نُرَدّ وَلاَ نُكَذّبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوَاْ إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـَذَا بِالْحَقّ قَالُواْ بَلَىَ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
يذكر تعالى حال الكفار, إذا وقفوا يوم القيامة على النار, وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال, ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال, فعند ذلك, قالوا {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا, ليعملوا عملاً صالحاً, ولا يكذبوا بآيات ربهم, ويكونوا من المؤمنين, قال الله تعالى: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة, وإن أنكروها في الدنيا أو في الاَخرة, كما قال قبله بيسير {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم} ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم, من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا, وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه, كقوله مخبراً عن موسى, أنه قال لفرعون {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} الاَية, وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلو} ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين, الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر, ويكون هذا إخباراً عما يكون يوم القيامة, من كلام طائفة من الكفار, ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية, والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب, فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية, وهي العنكبوت, فقال {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول المنافقين في الدار الاَخرة, حين يعاينون العذاب, فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق, والله أعلم, وأما معنى الإضراب, في قوله {بل)بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان, بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه, جزاء على ما كانوا عليه من الكفر, فسألوا الرجعة إلى الدنيا, ليتخلصوا مما شاهدوا من النار, ولهذا قال {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} أي في طلبهم الرجعة, رغبة ومحبة في الإيمان, ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه, من الكفر والمخالفة {وإنهم لكاذبون} أي في قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا, ونكون من المؤمنين, وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا, وما نحن بمبعوثين, أي لعادوا لما نهوا عنه, ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها, ولهذا قال وما نحن بمبعوثين ثم قال {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} أي أوقفوا بين يديه قال {أليس هذا بالحق ؟} أي أليس هذا المعاد بحق, وليس بباطل كما كنتم تظنون, {قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي بما كنتم تكذبون به, فذوقوا اليوم مسه {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}.

** قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ حَتّىَ إِذَا جَآءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَحَسْرَتَنَا عَلَىَ مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىَ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه, وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة, وعن ندامته على ما فرط من العمل, وما أسلف من قبيح الفعل, ولهذا قال {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيه} وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة, وعلى الأعمال وعلى الدار الاَخرة, أي في أمرها, وقوله {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون} أي يحملون, وقال قتادة يعملون, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عمرو بن قيس, عن أبي مرزوق, قال: يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره, كأقبح صورة رأيتها, وأنتنه ريحاً, فيقول من أنت ؟ فيقول أوَ مَا تعرفني, فيقول: لا والله, إلا أن الله قبح وجهك, وأنتن ريحك, فيقول: أنا عملك الخبيث, هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه, فطالما ركبتني في الدنيا هلم أركبك, فهو قوله {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} الاَية, وقال أسباط عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يدخل قبره, إلا جاءه رجل قبيح الوجه, أسود اللون, منتن الريح, وعليه ثياب دنسة, حتى يدخل معه قبره, فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك ؟ قال: كذلك كان عملك قبيحاً, قال: ما أنتن ريحك ؟ قال: كذلك كان عملك منتناً, قال: ما أدنس ثيابك ؟ قال: فيقول: إن عملك كان دنساً, قال له: من أنت ؟ قال: عملك, قال: فيكون معه في قبره, فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات, وأنت اليوم تحملني, قال: فيركب على ظهره, فيسوقه حتى يدخله النار, فذلك قوله {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}. وقوله {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} أي إنما غالبها كذلك {وللدار الاَخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}.

** قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىَ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّىَ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نّبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرْضِ أَوْ سُلّماً فِي السّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنّمَا يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم, في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك, وحزنك وتأسفك عليهم, كقوله {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} كما قال تعالى في الاَية الأخرى {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسف} وقوله {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} أي ولكنهم يعاندون الحق, ويدفعونه بصدورهم, كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب, عن علي, قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك, ولكن نكذب ما جئت به, فأنزل الله {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة, حدثنا بشر بن المبشر الواسطي, عن سلام بن مسكين, عن أبي يزيد المدني, أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه, فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابى ؟ فقال: والله إني لأعلم إنه لنبي, ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعاً ؟ وتلا أبو يزيد {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون, وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل, حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل, هو وأبو سفيان صخر بن حرب, والأخنس بن شريق, ولا يشعر أحد منهم بالاَخر, فاستمعوها إلى الصباح, فلما هجم الصبح تفرقوا, فجمعتهم الطريق, فقال كل منهم للاَخر: ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء به, ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم, لئلا يفتتنوا بمجيئهم, فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم, ظناً أن صاحبيه لا يجيئان, لما سبق من العهود, فلما أصبحوا جمعتهم الطريق, فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا, فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضاً, فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا, فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه, ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته, فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد, قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها, وأعرف ما يراد بها, وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها, قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به, ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل, فدخل عليه بيته, فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف, أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا, وأعطوا فأعطينا, حتى إذا تجاثينا على الركب, وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه, قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} لما كان يوم بدر, قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته, فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم, وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته, قفوا حتى ألقى أبا الحكم, فإن غلب محمد رجعتم سالمين, وإن غلب محمد, فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً ـ فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبيّ ـ فالتقى الأخنس وأبو جهل, فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب, فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمداً لصادق, وما كذب محمد قط, ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة, فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرن} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له, فيمن كذبه من قومه, وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل, ووعد له بالنصر كما نصروا, وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة, بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ, ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الاَخرة, ولهذا قال {ولا مبدل لكلمات الله} أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والاَخرة لعباده المؤمنين, كما قال {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} وقال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} وقوله {ولقد جاءك من نبأ المرسلين} أي من خبرهم, كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم, فلك فيهم أسوة وبهم قدوة. ثم قال تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم} أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء} قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: النفق السرب, فتذهب فيه فتأتيهم بآية, أو تجعل لك سلماً في السماء, فتصعد فيه فتأتيهم بآية, أفضل مما آتيتهم به فافعل, وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما. وقوله {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} كقوله تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميع} الاَية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعم الناس, ويتابعوه على الهدى, فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول, وقوله تعالى {إنما يستجيب الذين يسمعون} أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه, كقوله {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين}. وقوله {والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} يعني بذلك الكفار, لأنهم موتى القلوب, فشبههم الله بأموات الأجساد, فقال {والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم.