تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 132 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 132

132 : تفسير الصفحة رقم 132 من القرآن الكريم

** وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يُنَزّلٍ آيَةً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمّ وَبُكْمٌ فِي الظّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين, أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه, أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون, ومما يتعنتون كقولهم {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوع} الاَيات {قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي هو تعالى قادر على ذلك, ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك, لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا, لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة, كما قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالاَيات إلا تخويف} وقال تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين}. وقوله {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة: الطير أمة, والإنس أمة, والجن أمة, وقال السدي {إلا أمم أمثالكم} أي خلق أمثالكم.
وقوله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أي الجميع علمهم عند الله, ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره, سواء كان برياً أو بحرياً, كقوله {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها, وحاصر لحركاتها وسكناتها, وقال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} وقد قال الحافظ أبو يعلى, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد, حدثني محمد بن عيسى بن كيسان, حدثنا محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله, قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها, فسأل عنه فلم يخبر بشيء, فاغتم لذلك, فأرسل راكباً إلى كذا, وآخر إلى الشام, وآخر إلى العراق, يسأل هل رؤي من الجراد شيء أم لا ؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد, فألقاها بين يديه, فلما رآها كبر ثلاثاً, ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «خلق الله عز وجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه». وقوله {ثم إلى ربهم يحشرون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله {ثم إلى ربهم يحشرون} قال: حشرها الموت, وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل, عن سعيد عن مسروق, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: موت البهائم حشرها, وكذا رواه العوفي عنه, قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والضحاك مثله: (والقول الثاني) إن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة, لقوله {وإذا الوحوش حشرت} وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سليمان, عن منذر الثوري, عن أشياخ لهم, عن أبي ذر, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان, فقال «يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟» قال: لا, قال «لكن الله يدري وسيقضي بينهما» ورواه عبد الرزاق, عن معمر, عن الأعمش, عمن ذكره, عن أبي ذر, قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ انتطحت عنزان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون فيم انتطحتا ؟» قالوا: لا ندري, قال «لكن الله يدري وسيقضي بينهما» رواه ابن جرير, ثم رواه من طريق منذر الثوري, عن أبي ذر, فذكره, وزاد: قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء, إلا ذكر لنا منه علماً, وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثني عباس بن محمد, وأبو يحيى البزار, قالا: حدثنا حجاج بن نصير, حدثنا شعبة, عن العوام بن مراجم من بني قيس بن ثعلبة, عن أبي عثمان النهدي, عن عثمان رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة, في قوله {إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة, البهائم والدواب والطير وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ, أن يأخذ للجماء من القرناء, ثم يقول كوني تراباً, فلذلك يقول الكافر {يا ليتني كنت تراب} وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور.
وقوله {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} أي مثلهم في جهلهم, وقلة علمهم, وعدم فهمهم. كمثل أصم, وهو الذي لا يسمع, أبكم وهو الذي لا يتكلم, وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر, فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق, أو يخرج مما هو فيه, كقوله {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون} وكما قال تعالى: {أو كظلمات في بحر لجّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} ولهذا قال {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء.

** قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضّرّآءِ لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ * فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرّعُواْ وَلَـَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّىَ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوَاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
يخبر تعالى أنه الفعّال لما يريد, المتصرف في خلقه بما يشاء, وأنه لا معقب لحكمه, ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه, بل هو وحده لا شريك له, الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء, ولهذا قال {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} أي أتاكم هذا أو هذا {أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} أي لا تدعون غيره لعلمكم أَنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه, ولهذا قال {إن كنتم صادقين} أي في اتخاذكم آلهة معه {بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون} أي في وقت الضرورة, لا تدعون أحداً سواه, وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم, كقوله {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} الاَية, وقوله {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء} يعني الفقر والضيق في العيش, {والضراء} وهي الأمراض والأسقام والاَلام, {لعلهم يتضرعون} أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون, قال الله تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعو} أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك, تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا, ولكن {قست قلوبهم} أي ما رقت ولا خشعت {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} أي من الشرك والمعاندة والمعاصي, {فلما نسوا ما ذكروا به} أي أعرضوا عنه وتناسوه, وجعلوه وراء ظهورهم, {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون, وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم, عياذاً بالله من مكره, ولهذا قال {حتى إذا فرحوا بما أوتو} أي من الأموال والأولاد والأرزاق, {أخذناهم بغتة} أي على غفلة, {فإذا هم مبلسون} أي آيسون من كل خير, قال الوالبي عن ابن عباس: المبلس الاَيس, وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به, فلا رأي له, ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له, فلا رأي له, ثم قرأ {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} قال: مكر بالقوم ورب الكعبة, أعطوا حاجتهم ثم أخذوا, رواه ابن أبي حاتم, وقال قتادة: بغت القوم أمر الله, وما أخذ الله قوماً قط, إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم, فلا تغتروا بالله, فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون, رواه ابن أبي حاتم أيضاً.
وقال مالك عن الزهري {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} قال: رخاء الدنيا ويسرها, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين ـ يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري ـ عن حرملة بن عمران, التجيبي! عن عقبة بن مسلم, عن عقبة بن عامر, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة, عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا عراك بن خالد بن يزيد, حدثني أبي عن إبراهيم بن أبي عبلة, عن عبادة بن الصامت, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف, وإذا أراد الله بقوم اقتطاعاً, فتح لهم ـ أو فتح عليهم ـ باب خيانة, {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} كما قال {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} ورواه أحمد وغيره.