تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 214 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 214

214 : تفسير الصفحة رقم 214 من القرآن الكريم

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ
سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ
وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {45}
يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة ( ويوم يحشرهم ) الآية كقوله ( كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) وكقوله ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) وقال تعالى ( يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ) وقال تعالى ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة ) الآيتين وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ) وقوله ( يتعارفون بينهم ) أي يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ) الآية وقال تعالى ( ولا يسأل حميم حميما ) الآيات وقوله ( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) كقوله تعالى ( ويل للمكذبين ) لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ {46} وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ {47}
يقول تعالى مخاطبا لرسوله ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم ( أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ) أي مصيرهم ومنقلبهم والله شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني 3055 حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن أسيد عن النبي قال عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها فقال رجل يا رسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق فقال صوروا لي في الطين حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه ورواه 3054 عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد به نحوه وقوله ( ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم ) قال مجاهد يعني يوم القيامة ( قضي بينهم بالقسط ) الآية كقوله تعالى ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) الآية فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضى لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول الله أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين
وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
{48} قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {49}
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ {50} أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ {51} ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ
هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ {52}
يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ) أي كائنة لامحالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا ولهذا أرشد تعالى رسوله إلى جوابهم فقال ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ) الآية أي لا أقول إلا ماعلمني ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن ( لكل أمة أجل ) أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم ( فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) كقوله ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ) الآية ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة فقال ( قل أرأيتم أن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ( أي ليلا أو نهارا ( ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ) يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا ( ربنا أبصرنا وسمعنا ) الآية وقال تعالى ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) ( ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد ) أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتا وتقريعا كقوله ( يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون )
وَيَسْتَنبِئُونَكَ
أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ {53}
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ
النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ {54}
يقول تعالى ويستخبرونك ( أحق هو ) أي المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا ( قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) أي ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم ف ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ) وفي التغابن ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ) ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط ) أي بالحق ( وهم لا يظلمون )