تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 272 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 272

272 : تفسير الصفحة رقم 272 من القرآن الكريم

** وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ
قال الضحاك: عن ابن عباس: لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً, أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً, فأنزل {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} الاَية, وقال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} يعني أهل الكتب الماضية أبشراً كانت الرسل إليهم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً, قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} ليسوا من أهل السماء كما قلتم, وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب, وقاله مجاهد والأعمش, وقول عبد الرحمن بن زيد: الذكر القرآن, واستشهد بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} صحيح, لكن ليس هو المراد ههنا, لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه, وكذا قول أبي جعفر الباقر: نحن أهل الذكر, ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر, صحيح فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة. وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي الحسن والحسين, ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين, وعلي بن عبد الله بن عباس, وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين وجعفر ابنه, وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم, وعرف لكل ذي حق حقه ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين, والغرض أن هذه الاَية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بشراً كما هو بشر, كما قال تعالى: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً ؟} وقال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} وقال تعالى: {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين} وقال: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} وقال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشراً إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشراً أو ملائكة , ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم {بالبينات} أي بالحجج والدلائل {والزبر} وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, والزبر جمع زبور, تقول العرب: زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} وقال {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} ثم قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر} يعني القرآن {لتبين للناس ما نزل إليهم} أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله وحرصك عليه واتباعك له, ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم, فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل {ولعلهم يتفكرون} أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.

** أَفَأَمِنَ الّذِينَ مَكَرُواْ السّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ فَإِنّ رَبّكُمْ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ
ليخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها, ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها, مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض أو يأتيهم العذاب {من حيث لا يشعرون}, أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم, كقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير.} وقوله: {أو يأخذهم في تقلبهم} أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية, قال قتادة والسدي: تقلبهم أي أسفارهم, وقال مجاهد والضحاك وقتادة {في تقلبهم} في الليل والنهار كقوله {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون}.
وقوله: {فما هم بمعجزين} أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه. وقوله: {أو يأخذهم على تخوف} أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم, فإنه يكون أبلغ وأشد, فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد, ولهذا قال العوفي عن ابن عباس: {أو يأخذهم على تخوف} يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك, وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم. ثم قال تعالى: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة, كما ثبت في الصحيحين «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله, إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم» وفيهما «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وقال تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير}.

** أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشّمَآئِلِ سُجّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِن دَآبّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء, ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها, ومكلفوها من الإنس والجن, والملائكة, فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال, أي بكرة وعشياً فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز وجل, وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم, وقوله {وهم داخرون} أي صاغرون. وقال مجاهد أيضاً: سجود كل شيء فيؤه , وذكر الجبال, قال: سجودها فيؤها. وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته, ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} كما قال: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والاَصال}. وقوله: {والملائكة وهم لا يستكبرون} أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته {يخافون ربهم من فوقهم} أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله {ويفعلون ما يؤمرون} أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره, وترك زواجره.

** وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتّخِذُواْ إِلـَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنّمَا هُوَ إِلـَهٌ وَاحِدٌ فَإيّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي الْسّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتّقُونَ * وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمّ إِذَا كَشَفَ الضّرّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو, وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له, فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه {وله الدين واصب} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد: أي دائماً, وعن ابن عباس أيضا: أي واجباً. وقال مجاهد: أي خالصاً له, أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض, كقوله: {أفغير دين الله يبغون * وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} هذا على قول ابن عباس وعكرمة, فيكون من باب الخبر, وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب, أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئاً وأخلصوا لي الطاعة, كقوله تعالى: {ألا لله الدين الخالص} ثم أخبر أنه مالك النفع والضر, وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم, وإحسانه إليهم {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به, كقوله تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفور} وقال ههنا: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم} قيل: اللام ههنا لام العاقبة. وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم, الكاشف عنهم النقم, ثم توعدهم قائلاً {فتمتعو} أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلاً {فسوف تعلمون} أي عاقبة ذلك.