تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 277 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 277

277 : تفسير الصفحة رقم 277 من القرآن الكريم

** وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} يعني أمتك, أي اذكر ذلك اليوم وهوله, وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع, وهذه الاَية شبيهة بالاَية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء, فلما وصل إلى قوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيد} فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبك» فقال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
وقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. وقال مجاهد: كل حلال وكل حرام, وقول ابن مسعود أعم وأشمل, فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي, وكل حلال وحرام, وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم {وهدى} أي للقلوب {ورحمة وبشرى للمسلمين}. وقال الأوزاعي: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} أي: بالسنة, ووجه اقتران قوله: {ونزلنا عليك الكتاب} مع قوله: {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} أن المراد ـ والله أعلم ـ إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم القيامة {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب}, وقال تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال, وهو متجه حسن.

** إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل, وهو القسط والموازنه, ويندب إلى الإحسان, كقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}, وقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله}, وقال: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} إلى غير ذلك من الاَيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إن الله يأمر بالعدل} قال: شهادة أن لا إله إلا الله, وقال سفيان بن عيينة, العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً, والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته, والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: {وإيتاء ذي القربى} أي يأمر بصلة الأرحام, كما قال: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذير}. وقوله: {وينهى عن الفحشاء والمنكر} فالفواحش المحرمات, والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها, ولهذ قال في الموضع الاَخر: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وأما البغي فهو العدوان على الناس, وقد جاء في الحديث «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الاَخرة من البغي وقطيعة الرحم». وقوله: {يعظكم} أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر {لعلكم تذكرون} وقال الشعبي عن شتير بن شكل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الاَية, رواه ابن جرير, وقال سعيد عن قتادة قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الاَية ليس من خلق حسن, كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به, وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم, إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها. ( قلت) ولهذا جاء في الحديث «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها».
وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة: حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي, حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم, حدثنا الحسن بن داود المنكدري, حدثنا عمر بن علي المقدمي عن علي بن عبد الله بن عمير, عن أبيه, قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأيته, فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه, قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه, فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي, وهو يسألك من أنت, وما أنت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله, وأما ما أنا ؟ فأنا عبد الله ورسوله» قال: ثم تلا عليهم هذه الاَية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الاَية, قالوا: اردد علينا هذا القول, فردده عليهم حتى حفظوه, فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه, فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطاً في مضر ـ أي شريفاً ـ وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها, فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق, وينهى عن ملائمها, فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا أذناباً, وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون, فكشر إلى رسول الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تجلس ؟} فقال: بلى, قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله, فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء, فنظر ساعة إلى السماء, فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض, فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره, فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له, وابن مظعون ينظر, فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له, شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة, فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء, فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى, فقال: يامحمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة, فقال: «وما رأيتني فعلت ؟» قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء, ثم وضعته حيث وضعته على يمينك, فتحرفت إليه وتركتني, فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك, قال: «وفطنت لذلك ؟» فقال عثمان: نعم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس» قال: رسول الله ؟ قال «نعم», قال: فما قال لك ؟ قال: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الاَية, قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم , إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل, ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصراً. حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك, قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا هريم عن ليث عن شهر بن حوشب, عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الاَية بهذا الموضع من هذه السورة {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الاَية, وهذا إسناد لا بأس به, ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين, والله أعلم.

** وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثاً تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ إِنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
هذا مما يأمر الله تعالى به, وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة, ولهذا قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده} ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} الاَية, وبين قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم} أي لا تتركوها بلا كفارة, وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني» لا تعارض بين هذا كله ولا بين الاَية المذكورة ههنا, وهي قوله: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده} لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع, ولهذا قال مجاهد في قوله {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده} يعني الحلف, أي حلف الجاهلية. ويؤيد ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعد بن إبراهيم عن أبيه, عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام, وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة» وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه, فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا, فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك, والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي, حدثنا عبد الله بن موسى, أخبرنا أبو ليلى عن فريدة في قوله: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم, كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام, فقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده} لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد, ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان, وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله, ثم ينكث بيعته, فلا يخلعن أحد منكم يداً ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر, فيكون صيلم بيني وبينه» المرفوع منه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه, عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به, فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة».
وقوله: {إن الله يعلم ما تفعلون} تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها. وقوله {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاث} قال عبد الله بن كثير والسدي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده, وهذا القول أرجح وأظهر سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا . وقوله: {أنكاث} يحتمل أن يكون اسم مصدر, {نقضت غزلها من بعد قوة أنكاث} أي أنقاضاً, ويحتمل أن يكون بدلاً عن خبر كان أي لا تكونوا أنكاثاً جمع نكث من ناكث, ولهذا قال بعده: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} أي خديعة ومكراً {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم, فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم, فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى, إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه, فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا ـ وللهالحمد ـ في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد, فسار معاوية إليهم في آخر الأجل حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم, وهم غارون لا يشعرون, فقال له عمرو بن عبسة: الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها» فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش, قال ابن عباس: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي أكثر, وقال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز, فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز, فنهوا عن ذلك وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه. وقوله: {إنما يبلوكم الله به} قال سعيد بن جبير: يعني بالكثرة, رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.