تفسير الطبري تفسير الصفحة 277 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 277
278
276
 الآية : 88
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: الذين جحدوا يا مـحمد نبوّتك وكذّبوك فـيـما جئتهم به من عند ربك، وصَدّوا عن الإيـمان بـالله وبرسوله ومن أراده، زدناهم عذابـا يوم القـيامة فـي جهنـم فوق العذاب الذي هم فـيه قبل أن يزادوه. وقـيـل: تلك الزيادة التـي وعدهم الله أن يزيدهموها عقارب وحيات. ذكر من قال ذلك:
16492ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله: زِدْناهُمْ عَذَابـا فَوْقَ العَذَابِ قال: عقارب لها أنـياب كالنـخـل.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية وابن عيـينة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله: زِدْناهُمْ عَذَابـا فَوْقَ العَذَابِ قال: زِيدوا عقارب لها أنـياب كالنـخـل الطوال.
حدثنا إبراهيـم بن يعقوب الـجوزجانـي، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، مثله.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن سلـيـمان، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، نـحوه.
16493ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن السديّ، عن مرّة، عن عبد الله، قال: زِدْناهُمْ عَذَابـا فَوْقَ العَذَابِ قال: أفـاعِيَ.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيـل، عن السديّ، عن مرّة عن عبد الله، قال: أفـاعيَ فـي النار.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مرّة، عن عبد الله، مثله.
16494ـ حدثنا مـجاهد بن موسى والفضل بن الصبـاح، قالا: حدثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن مـجاهد، عن عبـيد بن عمير، قال: إن لـجهنـم جِبـابـا فـيها حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم، يستغيث أهل النار إلـى تلك الـجبِـاب أو الساحل، فتثب إلـيهم فتأخذ بشِفـاههم وشفـارهم إلـى أقدامهم، فـيستغيثون منها إلـى النار، فـيقولون: النارَ النارَ فتتبعهم حتـى تـجد حرّها فترجع، قال: وهي فـي أسراب.
16495ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي حَيـي بن عبد الله، عن أبـي عبد الرحمن الـحبلـي عن عبد الله بن عمرو، قال: إن لـجهنـم سواحل فـيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت.
وقوله: بِـمَا كانُوا يُفْسِدُونَ يقول: زدناهم ذلك العذاب علـى ما بهم من العذاب بـما كانوا يفسدون، بـما كانوا فـي الدنـيا يعصُون الله ويأمرون عبـاده بـمعصيته، فذلك كان إفسادهم، اللهمّ إنا نسألك العافـية يا مالك الدنـيا والاَخرة البـاقـية.

الآية : 89
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ }.
يقول تعالـى ذكره: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِـي كُلّ أُمّةٍ شَهِيدا عَلَـيْهِمْ مِنْ أنْفُسِهِمْ يقول: نسأل نبـيهم الذي بعثناه إلـيهم للدعاء إلـى طاعتنا. وقال: مِنْ أنُفُسِهِمْ لأنه تعالـى ذكره كان يبعث إلـى أمـم أنبـياءها منها: ماذا أجابوكم، وما ردّوا علـيكم؟ وَجِئْنا بِكَ شَهِيدا عَلـى هُؤلاءِ يقول لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وجئنا بك يا مـحمد شاهدا علـى قومك وأمتك الذين أرسلتك إلـيهم بـما أجابوك وماذا عملوا فـيـما أرسلتك به إلـيهم. وقوله: وَنَزّلْنا عَلَـيْكَ الكِتابَ تِبْـيانا لِكُلّ شَيْءٍ يقول: نزل علـيك يا مـحمد هذا القرآن بـيانا لكلّ ما بـالناس إلـيه الـحاجة من معرفة الـحلال والـحرام والثواب والعقاب. وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً لـمن صدّق به، وعمل بـما فـيه من حدود الله وأمره ونهيه، فأحل حلاله وحرّم حرامه. وبُشْرَى للـمسْلـمِينَ يقول: وبشارة لـمن أطاع الله وخضع له بـالتوحيد وأذعن له بـالطاعة، يبشره بجزيـل ثوابه فـي الاَخرة وعظيـم كرامته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16496ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير، عن ابن عيـينة، قال: حدثنا أبـان بن تغلب، عن الـحكم، عن مـجاهد: تِبْـيانا لِكُلّ شَيْءٍ قال: مـما أحلّ وحرّم.
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن أبـان بن تغلب، عن مـجاهد، فـي قوله: تِبْـيانا لِكُلّ شَيْءٍ مـما أحلّ لهم وحرّم علـيهم.
16497ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن مـجاهد، قوله: تِبْـيانا لِكُلّ شَيْءٍ قال: ما أمر به، وما نَهَى عنه.
16498ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: وَنَزّلْنا عَلَـيْكَ الكِتابَ تِبْـيانا لِكُلّ شَيْءٍ قال: ما أمِروا به، ونهوا عنه.
16499ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن أشعث، عن رجل، قال: قال ابن مسعود: أنزل فـي هذا القرآن كل علـم وكلّ شيء قد بـين لنا فـي القرآن. ثم تلا هذه الاَية.

الآية : 90
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: إن الله يأمر فـي هذا الكتاب الذي أنزله إلـيك يا مـحمد بـالعدل، وهو الإنصاف ومن الإنصاف: الإقرار بـمن أنعم علـينا بنعمته، والشكر له علـى إفضاله، وتولـي الـحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل ولـم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستـحقّ الـحمد علـيها، كان جهلاً بنا حمدها وعبـادتها، وهي لا تنعِم فتشكر ولا تنفع فتعبد، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك قال من قال: العدل فـي هذا الـموضع شهادة أن لا إله إلا الله. ذكر من قال ذلك:
16500ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: إنّ اللّهَ يَأْمُرُ بـالعَدْلِ والإحْسانِ قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقوله: والإحْسَانِ فإن الإحسان الذي أمر به تعالـى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته: الصبر لله علـى طاعته فـيـما أمر ونهى، فـي الشدّة والرخاء والـمَكْرَه والـمَنْشَط، وذلك هو أداء فرائضه. كما:
16501ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: والإحْسَانِ يقول: أداء الفرائض.
وقوله: وَإيتاءِ ذِي القُرْبى يقول: وإعطاء ذي القربى الـحقّ الذي أوجبه الله علـيك بسبب القرابة والرحم. كما:
16502ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ، قالا: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: وإيتاءِ ذِي القُرْبىيقول: الأرحام.
وقوله: وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ قال: الفحشاء فـي هذا الـموضع: الزنا. ذكر من قال ذلك:
16503ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ يقول: الزنا.
وقد بـيّنا معنى الفحشاء بشواهده فـيـما مضى قبل.
وقوله: والبَغْيِ قـيـل: عنِـيَ بـالبغي فـي هذا الـموضع: الكبر والظلـم. ذكر من قال ذلك:
16504ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: والبَغْيِ يقول: الكبر والظلـم.
وأصل البغي: التعدّي ومـجاوزة القدر والـحدّ من كلّ شيء. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى قبل.
وقوله: يَعظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول: يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنـيبوا إلـى أمره ونهيه، وتعرفوا الـحقّ لأهله. كما:
16505ـ حدثنـي الـمثنى وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: يَعِظُكُمْ يقول: يوصيكم، لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ.
وقد ذُكر عن ابن عيـينة أنه كان يقول فـي تأويـل ذلك: إن معنى العدل فـي هذا الـموضع استواء السريرة والعلانـية من كلّ عامل لله عملاً، وإن معنى الإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانـيته، وإن الفحشاء والـمنكر أن تكون علانـيته أحسن من سريرته.
وذُكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول فـي هذه الاَية، ما:
16506ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت منصور بن النعمان، عن عامر، عن شُتَـير بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية فـي القرآن فـي سورة النـحل: إنّ اللّهَ يَأْمُرُ بـالعَدْلِ والإحْسانِ وَإيتاءِ ذِي القُرْبَى... إلـى آخر الاَية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الشعبـي، عن شُتَـيْر بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية فـي القرآن لـخير أو لشرّ، آية فـي سورة النـحل: إنّ اللّهَ يَأْمُرُ بـالعَدْلِ والإحْسانِ.... الاَية.
16507ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنّ اللّهَ يَأْمُرُ بـالعَدْلِ والإحْسانِ وَإيتاءِ ذِي القُرْبَى... الاَية، إنه لـيس من خـلق حسن كان أهل الـجاهلـية يعملون به ويستـحسنونه إلا أمر الله به، ولـيس من خُـلق سيّىء كانوا يتعايرونه بـينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فـيه. وإنـما نهى عن سفـاسف الأخلاق ومَذامهّا.


الآية : 91
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: وأوفوا بـميثاق الله إذا واثقتـموه، وعقده إذا عاقدتـموه، فأوجبتـم به علـى أنفسكم حقّا لـمن عاقدتـموه به وواثقتـموه علـيه. وَلا تَنقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها يقول: ولا تـخالفوا الأمر الذي تعاقدتـم فـيه الأيـمان، يعنـي بعد ما شددتـم الأيـمان علـى أنفسكم، فتـحنثوا فـي أيـمانكم وتكذبوا فـيها وتنقضوها بعد إبرامها، يقال منه: وكّد فلان يـمينه يوكّدها توكيدا: إذا شددها وهي لغة أهل الـحجاز، وأما أهل نـجد، فإنهم يقولون: أكّدتها أؤكدها تأكيدا. وقوله: وَقَدْ جَعَلْتُـمُ اللّهَ عَلَـيْكُمْ كَفِـيلاً يقول: وقد جعلتـم الله بـالوفـاء بـما تعاقدتـم علـيه علـى أنفسكم راعيا يرعى الـموفـى منكم بعهد الله الذي عاهد علـى الوفـاء به والناقض.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف بـينهم فـيـمن عُنِـيَ بهذه الاَية وفـيـما أنزلت، فقال بعضهم: عُنِـي بها الذين بـايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علـى الإسلام، وفـيهم أنزلت. ذكر من قال ذلك:
16508ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو لـيـلـى، عن بريدة، قوله: وأوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُـمْ قال: أنزلت هذه الاَية فـي بـيعة النبـيّ صلى الله عليه وسلم، كان من أسلـم بـايع علـى الإسلام، فقالوا: وأوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إذَا عاهَدْتُـمْ هذه البَـيعة التـي بـايعتـم علـى الإسلام، وَلا تَنْقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها البـيعة، فلا يحملكم قلة مـحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة الـمشركين أن تنقضوا البـيعة التـي بـايعتـم علـى الإسلام، وإن كان فـيهم قلة والـمشركين فـيهم كثرة.
وقال آخرون: نزلت فـي الـحِلْف الذي كان أهل الشرك تـحالفوا فـي الـجاهلـية، فأمرهم الله عزّ وجلّ فـي الإسلام أن يوفّوا به ولا ينقضوه. ذكر من قال ذلك:
16509ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله تعالـى: وَلا تَنْقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها قال: تغلـيظها فـي الـحلف.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.
16510ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلا تَنْقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها يقول: بعد تشديدها وتغلـيظها.
16511ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء قوم كانوا حلفـاء لقوم تـحالفوا وأعطى بعضهم العهد، فجاءهم قوم، فقالوا: نـحن أكثر وأعزّ وأمنع، فـانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلـينا ففعلوا، فذلك قول الله تعالـى: وَلا تَنْقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُـمُ اللّهَ عَلَـيْكُمْ كَفِـيلاً أن تكون أمة هي أربى من أمة، هي أرَبى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك، نقضتـم العهد فـيـما بـينكم وبـين هؤلاء، فكان هذا فـي هذا.
16512ـ حدثنـي ابن البرَقـيّ، قال: حدثنا ابن أبـي مَريـم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: سألت يحيى بن سعيد، عن قول الله: وَلا تَنْقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها قال: العهود.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله تعالـى أمر فـي هذه الاَية عبـاده بـالوفـاء بعهوده التـي يجعلونها علـى أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيـمان بعد توكيدها علـى أنفسهم لاَخرين بعقود تكون بـينهم بحقّ مـما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نزلت فـي الذين بـايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بـيعتهم حذرا من قلة عدد الـمسلـمين وكثرة عدد الـمشركين، وأن تكون نزلت فـي الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفـائهم لقلة عددهم فـي آخرين لكثرة عددهم، وجائز أن تكون فـي غير ذلك. ولا خبر تَثْبُت به الـحجة أنها نزلت فـي شيء من ذلك دون شيء، ولا دلالة فـي كتاب ولا حجة عقل أيّ ذلك عُنِـيَ بها، ولا قول فـي ذلك أولـى بـالـحقّ مـما قلنا لدلالة ظاهره علـيه، وأن الاَية كانت قد نزلت لسبب من الأسبـاب، ويكون الـحكم بها عامّا فـي كلّ ما كان بـمعنى السبب الذي نزلت فـيه.
16513ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَقَدْ جَعَلْتُـمُ اللّهَ عَلَـيْكُمْ كَفِـيلاً قال: وكيلاً.
وقوله: إنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما تَفْعَلُونَ يقول تعالـى ذكره: إن الله أيها الناس يعلـم ما تفعلون فـي العهود التـي تعاهدون الله من الوفـاء بها والأحلاف والأيـمان التـي تؤكدونها علـى أنفسكم، أتبرّون فـيها أم تنقضونها وغير ذلك من أفعالكم، مـحصٍ ذلك كله علـيكم، وهو مسائلكم عنها وعما عملتـم فـيها، يقول: فـاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتـم فـيها أمره ونهيه، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قِبَل لكم به من ألـم عقابه.
الآية : 92
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثاً تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ إِنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }.
يقول تعالـى ذكره ناهيا عبـاده عن نقض الأيـمان بعد توكيدها، وآمرا بوفـاء العهود، ومـمثلاً ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس فـي نقضكم أيـمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بـالوفـاء بذلك العهود والـمواثـيق كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ يعنـي: من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربـية يقول: القوّة: ما غُزِل علـى طاقة واحدة ولـم يثن. وقـيـل: إن التـي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بـمكة. ذكر من قال ذلك:
16514ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد الله بن كثـير: كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ قال: خرقاء كانت بـمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه.
16515ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن الزبـير، عن ابن عيـينة، عن صدقة، عن السديّ: وَلا تَكُونُوا كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ أنْكاثا تَتّـخِذُونَ أيـمَانَكُمْ دَخَلاً بَـيْنَكُمْ قال: هي خَرْقَاءُ بـمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته.
وقال آخرون: إنـما هذا مثل ضربه الله لـمن نقض العهد، فشبهه بـامرأة تفعل هذا الفعل. وقالوا فـي معنى نقضت غزلها من بعد قوّة، نـحوا مـما قلنا. ذكر من قال ذلك:
16516ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَلا تَكُونُوا كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ أنْكاثا فلو سمعتـم بـامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتـم: ما أحمق هذه وهذا مثل ضربه الله لـمن نكث عهده.
16517ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَلا تَكُونُوا كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ قال: غزلها: حبلها تنقضه بعد إبرامها إياه ولا تنتفع به بعد.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ قال: نقضت حبلها من بعد إبرام قوّة.
حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.
16518ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: وَلا تَكُونُوا كالّتِـي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ أنْكاثا قال: هذا مثل ضربه الله لـمن نقض العهد الذي يعطيه، ضرب الله هذا له مثلاً بـمثل التـي غزلت ثم نقضت غزلها، فقد أعطاهم ثم رجع، فنكث العهد الذي أعطاهم.
وقوله: أنكاثا يعنـي: أنقاضا، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث، واحدها: نِكْث حبلاً كان ذلك أو غزلاً، يقال منه: نَكَث فلان هذا الـحبل فهو ينكُثُه نَكْثا، والـحبل منتكِثٌ: إذا انتقضت قُواه. وإنـما عُنـي به فـي هذا الـموضع نكث العهد والعقد. وقوله: تَتّـخِذُونَ أيـمَانَكُمْ دَخَلاً بَـيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ يقول تعالـى ذكره: تـجعلون أيـمانكم التـي تـحلفون بها علـى أنكم موفون بـالعهد لـمن عاقدتـموه دَخَلاً بَـيْنَكُمْ يقول: خديعة وغرورا لـيطمئنوا إلـيكم وأنتـم مضمرون لهم الغدر وترك الوفـاء بـالعهد والنّقلة عنهم إلـى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددا منهم. والدّخَـل فـي كلام العرب: كلّ أمر لـم يكن صحيحا، يقال منه: أنا أعلـم دَخَـلَ فلان ودُخْـلُلَهُ وداخِـلةَ أمره ودُخْـلَتَهُ ودَخِيـلَتَهُ.
وأما قوله: أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ فإن قوله أرَبى: أفعل من الربـا، يقال: هذا أربى من هذا وأربأ منه، إذا كان أكثر منه ومنه قول الشاعر:
وأسْمَرَ خَطّيّ كأنّ كُعُوبَهُنَوى القسْبِ قد أرْبَى ذرَاعا علـى العَشْرِ
وإنـما يقال: أربى فلان من هذا وذلك للزيادة التـي يريدها علـى غريـمه علـى رأس ماله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
16519ـ حدثنـي الـمثنى، وعلـيّ بن داود، قالا: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ يقول: أكثر.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ يقول: ناس أكثر من ناس.
16520ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ قال: كانوا يحالفون الـحلفـاء، فـيجدون أكثر منهم وأعزّ، فـينقضون حِلْف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنُهوا عن ذلك.
حدثنا ابن الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد....
وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
16521ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: تَتّـخِذُونَ أيـمَانَكُمْ دَخَلاً بَـيْنَكُمْ يقول: خيانة وغدرا بـينكم. أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم.
16522ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا أبو ثور، عن معمر، عن قتادة: دَخَلاً بَـيْنَكُمْ قال: خيانة بـينكم.
16523ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: تَتّـخِذُونَ أيـمَانَكُمْ دَخَلاً بَـيْنَكُمْ يغرّ بها، يعطيه العهد يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزلّ قدمه وهو فـي مأمن، ثم يعود يريد الغدر، قال: فأوّل بدو هذا قوم كانوا حلفـاء لقوم تـحالفوا وأعطى بعضهم بعضا العهد، فجاءهم قوم قالوا: نـحن أكثر وأعزّ وأمنع، فـانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلـينا ففعلوا، وذلك قول الله تعالـى: وَلا تَنْقُضُوا الأيـمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُـمُ اللّهَ عَلَـيْكُمْ كَفِـيلاً أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ هي أربى: أكثر من أجل أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقضتـم العهد فـيـما بـينكم وبـين هؤلاء، فكان هذا فـي هذا، وكان الأمر الاَخر فـي الذي يعاهده فـينزله من حِصْنه ثم ينكث علـيه، الاَية الأولـى فـي هؤلاء القوم وهي مبدؤه، والأخرى فـي هذا.
16524ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: أنْ تَكُونَ أُمّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمّةٍ يقول: أكثر، يقول: فعلـيكم بوفـاء العهد.
وقوله: إنّـمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ يقول تعالـى ذكره: إنـما يختبركم الله بأمره إياكم بـالوفـاء بعهد الله إذا عاهدتـم، لـيتبـين الـمطيع منكم الـمنتهي إلـى أمره ونهيه من العاصي الـمخالف أمره ونهيه. وَلَـيُبِـينَنّ لَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ ما كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ يقول تعالـى ذكره: ولـيبـينن لكم أيها الناس ربكم يوم القـيامة إذا وردتـم علـيه بـمـجازاة كلّ فريق منكم علـى عمله فـي الدنـيا، الـمـحسن منكم بإحسانه والـمسيء بإساءته، ما كُنْتُـمْ فـيه تَـخْتَلِفُونَ والذي كانوا فـيه يختلفون فـي الدنـيا أن الـمؤمن بـالله كان يقرّ بوحدانـية الله ونبوّة نبـيه، ويصدق بـما ابتعث به أنبـياءه، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم فـي الدنـيا الذي وعد الله تعالـى ذكره عبـاده أن يبـينه لهم عند ورودهم علـيه بـما وصفنا من البـيان.
الآية : 93
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلـَكِن يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
يقول تعالـى ذكره: ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفـية من عنده، فصرتـم جميعا جماعة واحدة وأهل ملة واحدة لا تـختلفون ولا تفترقون ولكنه تعالـى ذكره خالف بـينكم فجعلكم أهل ملل شتـى، بأن وفّق هؤلاء للإِيـمان به والعمل بطاعته فكانوا مؤمنـين، وخذل هؤلاء فحَرَمَهم توفـيقه فكانوا كافرين، ولـيسألنكم الله جميعا يوم القـيامة عما كنتـم تعملون فـي الدنـيا فـيـما أمركم ونهاكم، ثم لـيَجازينكم جزاء الـمطيع منكم بطاعته والعاصي له بـمعصيته