تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 277 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 277

276

88- "الذين كفروا" في أنفسهم "وصدوا" غيرهم "عن سبيل الله" أي عن طريق الحق، وهي طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر، وقيل المراد بالصد عن سبيل الله: الصد عن المسجد الحرام، والأولى العموم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" أي زادهم الله عذاباً لأجل الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم، وقيل المعنى: زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم أي أشد منه، وقيل إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك.
89- "ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم" أي نبياً يشهد عليهم "من أنفسهم" من جنسهم، إتماماً للحجة وقطعاً للمعذرة، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد "وجئنا بك" يا محمد "شهيداً على هؤلاء" أي تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم، وقيل على أمتك، وقد تقدم مثل هذا في البقرة والنساء "ونزلنا عليك الكتاب" أي القرآن، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال بتقدير قد "تبياناً لكل شيء" أي بياناً له، والتاء للمبالغة، ونظيره من المصادر التلقاء، ولم يأت غيرهما، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، ومعنى كونه تبياناً لكل شيء أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني أوتيت القرآن ومثله معه" و "هدىً" للعباد "ورحمة" لهم "وبشرى للمسلمين" خاصة دون غيرهم، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم، لأنهم المنتفعون بذلك.
ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك فقال: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان". وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان، فقيل: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض، وقيل العدل الفرض، والإحسان النافلة. وقيل العدل استواء العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وقيل العدل الإنصاف، والإحسان التفضل. والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فمعنى أمره سبحانه بالعدل أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط وهو الغلو المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين، وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين "والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وهذا هو معنى الإحسان شرعاً "وإيتاء ذي القربى" أي إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم، وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم، وهو من باب عطف الخاص على العام إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان، وقيل من باب عطف المندوب على الواجب، ومثل هذه الآية قوله: "وآت ذا القربى حقه" وإنما خص ذوي القربى لأن حقهم آكد، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته وقطيعتها من قطيعته "وينهى عن الفحشاء" هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل، وقيل هي الزنا، وقيل البخل "والمنكر" ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها وقيل هو الشرك "و" أما "البغي" فقيل هو الكبر، وقيل الظلم، وقيل الحقد وقيل التعدي، وحقيقته تجاوز الحد فيشمل هذه المذكورة ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر، وإنما خص بالذكر اهتماماً به لشدة ضرره ووبال عاقبته، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه: "إنما بغيكم على أنفسكم" وهذه الآية هي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله: "يعظكم لعلكم تذكرون" أي يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه، فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير، لعلكم تذكرون إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "ويوم نبعث من كل أمة شهيداً" قال: شهيدها نبيها على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله: "وجئنا بك شهيداً على هؤلاء" قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فألقوا إليهم القول" قال: حدثوهم. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج "وألقوا إلى الله يومئذ السلم" قال: استسلموا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وهناد بن السري وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن مسعود في قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: "زدناهم عذاباً فوق العذاب"، فقال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم" وأخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب" قال: خمسة أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار. وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار: ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار" فلذلك قوله: "زدناهم عذاباً فوق العذاب". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، ثم قرأ "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن الضريس في فضائل القرآن ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الآية". وفي إسناده شهر بن حوشب. وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده لا بأس به. وقد أخرجه مطولاً أحمد والبخاري في الأدب وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس، وحسن ابن كثير إسناده. وأخرج الباوردي وابن السكن وابن منده وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب قال: إني أراه يأمره بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً، وكونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه آخراً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إن الله يأمر بالعدل" قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء لفرائض "وإيتاء ذي القربى" قال: إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم "وينهى عن الفحشاء" قال: الزنا "والمنكر" قال الشرك "والبغي" قال: الكبر والظلم "يعظكم" قال: يوصيكم "لعلكم تذكرون"، وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب ومحمد بن نصر في الصلاة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال: أعظم آية في كتاب الله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " وأشد آية في كتاب الله رجاء "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" الآية. وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" إلى آخرها ثم قال: إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعه. وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذلك في كتابه إذ يقول: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" فالعدل والإنصاف، والإحسان التفضل، فما بقي بعد هذا؟
خص سبحانه من جملة المأمورات التي تضمنها قوله: "إن الله يأمر بالعدل" الوفاء بالعهد فقال: 91- "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم" وظاهره العموم في كل عهد يقع من الإنسان من غير فرق بين عهد البيعة وغيره، وخص هذا العهد المذكور في هذه الآية بعض المفسرين بالعهد الكائن في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وهو خلاف ما يفيده العهد المضاف إلى اسم الله سبحانه من العموم الشامل لجميع عهود الله، ولو فرض أن السبب خاص بعهد من العهود لم يكن ذلك موجباً لقصره على السبب، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفسره بعضهم باليمين، وهو مدفوع بذكر الوفاء بالأيمان بعده حيث قال سبحانه: "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها" أي بعد تشديدها وتغليظها وتوثيقها، وليس المراد اختصاص النهي عن النقض بالأيمان المؤكدة، لا بغيرها مما لا تأكيد فيه، فإن تحريم النقض يتناول الجميع، ولكن في نقض اليمين المؤكدة من الإثم فوق الإثم الذي في نقض ما لم يوكد منها، يقال وكد وأكد توكيداً وتأكيداً، وهما لغتان. وقال الزجاج: الأصل الواو والهمزة بدل منها، وهذا العموم مخصوص بما ثبت في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" حتى بالغ في ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: "والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وهذه الألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ويخص أيضاً من هذا العموم يمين اللغو لقوله سبحانه: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" ويمكن أن يكون التقييد بالتوكيد هنا لإخراج أيمان اللغو، وقد تقدم بسط الكلام على الأيمان في البقرة "وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً" أي شهيداً، وقيل حافظاً، وقيل ضامناً، وقيل رقيباً لأن الكفيل يراعي حال المكفول به، وقيل إن توكيد اليمين هو حلف الإنسان على الشيء الواحد مراراً. وحكى القرطبي عن ابن عمر أن التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة عليه "إن الله يعلم ما تفعلون" فيجازيكم بحسب ذلك، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وفيه ترغيب وترهيب.
ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال: 92- "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها" أي لا تكونوا فيما تصنعون من النقض بعد التوكيد كالتي نقضت غزلها: أي ما غزلته "من بعد قوة" أي من بعد إبراهم الغزل وإحكامه، وهو متعلق بنقضت "أنكاثاً" جمع نكث بكسر النون ما ينكث فتله. قال الزجاج: انتصب أنكاثاً على المصدر، لأن معنى نقضت نكثت، ورد بأن أنكاثاً ليس بمصدر، وإنما هو جمع كما ذكرنا. وقال الواحدي: هو منصوب على أنه مفعول ثان كما تقول كسرته أقطاعاً وأجزاء: أي جعلته أقطاعاً وأجزاءً، ويحتمل أن يكون حالاً. قال ابن قتيبة: هذه الآية متعلقة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً، وجملة "تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم" في محل نصب على الحال. قال الجوهري: والدخل المكر والخديعة، وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل. وقيل الدخل ما أدخل في الشيء على فساده. وقال الزجاج غشاً وغلاً "أن تكون أمة هي أربى من أمة" أي بأن تكون جماعة هي أربى من جماعة: أي أكثر عدداً منها وأوفر مالاً. يقال ربا الشيء يربو إذا كثر. قال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم وقد عزرتموهم بالأيمان. قيل وقد كانت قريش إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم، وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وسلم "إنما يبلوكم الله به" أي يختبركم بكونكم أكثر وأوفر لينظر هل تتمسكون بحبل الوفاء أم تنقضون اغتراراً بالكثرة؟ فالضمير في "به" راجع إلى مضمون جملة: أن تكون أمة هي أربى من أمة: أي إنما يبلوكم الله بتلك الكثرة ليعلم ما تصنعون، أو إنما يبلوكم الله بما يأمركم وينهاكم "وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون" فيوضح الحق والمحقين ويرفع درجاتهم، ويبين الباطل والمبطلين فينزل بهم من العذاب ما يستحقونه، وفي هذا إنذار وتحذير من مخالفة الحق والركون إلى الباطل، أو يبين لكم ما كنتم تختلفون فيه من البعث والجنة والنار.
ثم بين سبحانه أنه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء أو على الإيمان فقال: 93- "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة" متفقة على الحق "ولكن" بحكم الإلهية "يضل من يشاء" بخذلانه إياهم عدلاً منه فيهم "ويهدي من يشاء" بتوفيقه إياهم فضلاً منه عليهم "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" ولهذا قال: "ولتسألن عما كنتم تعملون" من الأعمال في الدنيا، واللام في "وليبينن لكم"، وفي "ولتسألن" هما الموطئتان للقسم.