تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 278 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 278

278 : تفسير الصفحة رقم 278 من القرآن الكريم

** وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلـَكِن يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْأَلُنّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتّخِذُوَاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسّوَءَ بِمَا صَدَدتّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوَاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول الله تعالى: {ولو شاء الله لجعلكم} أيها الناس {أمة واحدة} كقوله تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميع} أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}, وهكذا قال ههنا: {ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء} ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير. ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم بعد ثبوتها, مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها, وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله, لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين, فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام, ولهذا قال {وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم}.
ثم قال تعالى: {ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليل} أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا) وزينتها, فإنها قليلة, ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له, أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده, ولهذا قال: {إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد} أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه {وما عند الله باق} أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له, فإنه دائم لا يحول ولا يزول {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} قسم من الرب تعالى مؤكد باللام, أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم, أي ويتجاوز عن سيئها.

** مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى, من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله, وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا, وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الاَخرة, والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة, وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها هي السعادة. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة. وقال الضحاك: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا, وقال الضحاك أيضاً: هي العمل بالطاعة والانشراح بها, والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثني شرحبيل بن أبي شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم, ورزق كفافاً, وقنعه الله بما آتاه}, ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به. وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانىء عن أبي علي الجنبي, عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قد أفلح من هدي للإسلام, وكان عيشه كفافاً وقنع به». وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا همام عن يحيى, عن قتادة, عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الاَخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الاَخرة, لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً», انفر بإخراجه مسلم.

** فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم, وهذا أمر ندب ليس بواجب, حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير, ولله الحمد والمنة. والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارىء قراءته, ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر, ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة, وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة, واحتجا بهذه الاَية, ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضاً ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والصحيح الأول لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة, والله أعلم.
وقوله: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه, وقال آخرون: معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون كقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين}, {إنما سلطانه على الذين يتلونه} قال مجاهد: يطيعونه, وقال آخرون: اتخذوه ولياً من دون الله {والذين هم به مشركون} أي أشركوا في عبادة الله تعالى. أي أشركوه في عبادة الله, ويحتمل أن تكون الباء سببة, أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى. وقال آخرون: معناه أنه شركهم في الأموال والأولاد.

** وَإِذَا بَدّلْنَآ آيَةً مّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رّبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم, وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة, وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنما أنت مفتر} أي كذاب, وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد, وقال مجاهد: {بدلنا آية مكان آية} أي رفعناها وأثبتنا غيرها, وقال قتادة: هو كقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسه} الاَية, فقال تعالى مجيباً لهم {قل نزله روح القدس} أي جبريل {من ربك بالحق} أي بالصدق والعدل {ليثبت الذين آمنو} فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً, وتخبت له قلوبهم {وهدى وبشرى للمسلمين} أي وجعله هاديا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.