تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 408 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 408

408 : تفسير الصفحة رقم 408 من القرآن الكريم

** وَإِذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ دَعَوْاْ رَبّهُمْ مّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَآ أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى مخبراً عن الناس أنهم في حال الإضطرار يدعون الله وحده لا شريك له, وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} هي لام العاقبة عند بعضهم, ولام التعليل عند آخرين, ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك, ثم توعدهم بقوله {فسوف تعلمون} قال بعضهم والله لو توعدني حارس درب لخفت منه, فكيف والمتوعد ههنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون ؟ ثم قال منكراً على المشركين فيما اختلقوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان {أم أنزلنا عليهم سلطان} أي حجة {فهو يتكلم} أي ينطق {بما كانوا به يشركون} وهذا استفهام إنكار, أي لم يكن لهم شيء من ذلك.
ثم قال تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها, وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقطنون} هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله ووفقه, فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر. وقال {ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} أي يفرح في نفسه ويفخر على غيره, وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية. قال الله تعالى: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات} أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء. كما ثبت في الصحيح« عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له». وقوله تعالى: {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله, فيوسع على قوم ويضيق على آخرين {إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون}.

** فَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لّلّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ
يقول تعالى آمراً بإعطاء {ذي القربى حقه} أي من البر والصلة, {والمسكين} وهو الذي لا شيء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته, {وابن السبيل} وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره, {ذلك خير للذين يريدون وجه الله} أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى, {وأولئك هم المفلحون} أي في الدنيا والاَخرة. ثم قال تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} أي من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم, فهذا لا ثواب له عند الله, بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب والشعبي, وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه, إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, قاله الضحاك, واستدل بقوله: {ولا تمنن تستكثر} أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه.
وقال ابن عباس: الربا رباءان: فربا لا يصح, يعني ربا البيع ؟ وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها, وأضعافها, ثم تلا هذه الاَية {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} وإنما الثواب عند الله في الزكاة, ولهذا قال تعالى: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء. كما جاء في الصحيح «وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها, كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد».
وقوله عز وجل: { الله الذي خلقكم ثم رزقكم} أي هو الخالق الرزاق, يخرج الإنسان من بطن أمه عرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوة, ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن سلام أبي شرحبيل عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئاً فأعناه, فقال «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما, فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة, ثم يرزقه الله عز وجل».
وقوله تعالى: {ثم يميتكم} أي بعد هذه الحياة, {ثم يحييكم} أي يوم القيامة. وقوله تعالى: {هل من شركائكم} أي الذين تعبدونهم من دون الله {من يفعل من ذلكم من شيء ؟} أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك, بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة, ثم يبعث الخلائق يوم القيامة, ولهذا قال بعد هذا كله {سبحانه وتعالى عما يشركون} أي تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعز عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد, بل هو الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

** ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّشْرِكِينَ
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي وغيرهم: المراد بالبر ههنا الفيافي, وبالبحر الأمصار والقرى. وفي رواية عن ابن عباس وعكرمة: البحر الأمصار, والقرى ما كان منهما على جانب نهر. وقال آخرون بل المراد بالبر هو البر المعروف, وبالبحر هو البحر المعروف. وقال زيد بن رفيع {ظهر الفساد} يعني انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط, وعن البحر تعمى دوابه, رواه ابن أبي حاتم, وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن سفيان عن حميد بن قيس الأعرج عن مجاهد {ظهر الفساد في البر والبحر} قال: فساد البر قتل ابن آدم, وفساد البحر أخذ السفينة غصباً.
وقال عطاء الخراساني: المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى, وبالبحر جزائره. والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون, ويؤيده ما قاله محمد بن إسحاق في السيرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة, وكتب إليه ببحره, يعني ببلده, ومعنى قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي . وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض, لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة, ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود «لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلهامن أن يمطروا أربعين صباحاً» والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس أو أكثرهم أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات, وإذا تركت المعاصي كان سبباً في حصول البركات من السماء والأرض. ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية, وهو تركها, فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف, فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج, قيل للأرض: أخرجي بركتك, فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها, ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس, وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير. ولهذا ثبت في الصحيح أن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد والحسين قالا: حدثنا عوف عن أبي قحذم قال: وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد, صرة فيها حب, يعني من بر, أمثال النوى عليه مكتوب: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل, وروى مالك عن زيد بن أسلم أن المراد بالفساد ههنا الشرك, وفيه نظر. وقوله تعالى: {ليذيقهم بعض الذي عملو} الاَية, أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه لهم ومجازاة على صنيعهم {لعلهم يرجعون} أي عن المعاصي, كما قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل} أي من قبلكم {كان أكثرهم مشركين} أي فانظروا ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.