تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 408 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 408

407

33- "وإذا مس الناس ضر" أي قحط وشدة "دعوا ربهم" أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به "منيبين إليه" أي راجعين إليه ملتجئين به لا يعولون على غيره، وقيل مقبلين عليه بكل قلوبهم "ثم إذا أذاقهم منه رحمة" بإجابة دعائهم ورفع تلك الشدائد عنهم "إذا فريق منهم بربهم يشركون" إذا هي الفجائية وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب: أي فاجأ فريق منهم الإشراك وهم الذين دعوه فخلصهم مما كانوا فيه. وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم وما صاروا عليه من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم.
واللام في 34- "ليكفروا بما آتيناهم" هي لام كي، وقيل لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد، وقيل هي لام العاقبة. ثم خاطب سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال: "فتمتعوا فسوف تعلمون" ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم. قرأ الجمهور "فتمتعوا" على الخطاب. وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول، وفي مصحف ابن مسعود فليتمتعوا.
35- "أم أنزلنا عليهم سلطاناً" أم هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار والسلطان الحجة الظاهرة "فهو يتكلم" أي يدل كما في قوله: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" قال الفراء: إن العرب تؤنث السلطان، يقولون: قضت به عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة، وقيل المراد بالسلطان هنا الملك "بما كانوا به يشركون" أي ينطق بإشراكهم بالله سبحانه، ويجوز أن تكون الباء سببية: أي بالأمر الذي بسببه يشركون.
36- "وإذا أذقنا الناس رحمة" أي خصباً ونعمة وسعة وعافية "فرحوا بها" فرح بطر وأشر، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" ثم قال سبحانه: " وإن تصبهم سيئة " شدة على أي صفة "بما قدمت أيديهم" أي بسبب ذنوبهم "إذا هم يقنطون" القنوط الإياس من الرحمة، كذا قال الجمهور. وقال الحسن: القنوط ترك فرائض الله سبحانه. قرأ الجمهور "يقنطون" بضم النون، وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها "يقنطون".
37- " أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء " من عباده ويوسع له "ويقدر" أي يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له وفي التضييق على من ضيق عليه "إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون" فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع وغريب الخلق. وقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك. لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فأنزل الله " هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء " الآية. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال هي في الآلهة، وفيه يقول: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "لا تبديل لخلق الله" قال: دين الله "ذلك الدين القيم" قال: القضاء القيم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن الأسود بن سريع "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين، فانتهى القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين، قال: وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها". وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً". رواه أحمد عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر. وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد: "ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال في خطبته حاكياً عن الله سبحانه: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" الحديث.
لما بين سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه فقال: 38- "فآت ذا القربى حقه" والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته، أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب، فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغوب فيها، والمراد الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر "والمسكين وابن السبيل" أي وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه. ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول. وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل هي منسوخة بآية المواريث. وقيل محكمة وللقريب في مال قريبه الغني حق واجب، وبه قال مجاهد وقتادة. قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاج. قال مقاتل: حق المسكين أن يتصدق عليه، وحق ابن السبيل الضيافة. وقيل المراد بالقربى النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: والأول أصح، فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله: " فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء القربى للندب "ذلك خير للذين يريدون وجه الله" أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرب إلى الله سبحانه "وأولئك هم المفلحون" أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره.
39- "وما آتيتم من ربا" قرأ الجمهور "آتيتم" بالمد بمعنى أعطيتم، وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم، وأجمعوا على القراءة بالمد في قوله "وما آتيتم من زكاة" وأصل الربا الزيادة، وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المد، لأن معناها ما فعلتم على وجه الإعطاء، كما تقول: أتيت خطأً وأتيت صواباً، والمعنى في الآية: ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض " ليربو في أموال الناس " أي ليزيد ويزكوا في أموالهم "فلا يربو عند الله" أي لا يبارك الله فيه. قال السدي: الربا في هذا الموضع الهدية يهيدها الرجل لأخيه يطلب المكافأة، لأن ذلك لا يربو عند الله لا يؤجر عليه صاحبه ولا إثم عليه، وهكذا قال قتادة والضحاك. قال الواحدي: وهذا قول جماعة المفسرين. قال الزجاج: يعني دفع الإنسان الشيء ليعوض أكثر منه وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه، لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه. وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم به الإنسان أحداً لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة لا يربو عند الله. وقيل هذا كان حراماً على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لقوله سبحانه: "ولا تمنن تستكثر" ومعناها: أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضاً عنه. وقيل إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية: وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه. قال عكرمة: الربا ربوان: فربا حلال، وربا حرام. فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه: يعني كما في هذه الآية. وقيل إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرم، فمعنى لا يربو عند الله على هذا القول لا يحكم به، بل هو للمأخوذ منه. قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك، مثل هبة الفقير للغني، وهبة الخادم للمخدوم، وهبة الرجل لأميره، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي الآخر. قرأ الجمهور "ليربو" بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا. وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة بمعنى لتكونوا ذوي زيادات. وقرأ أبو مالك لتربوها ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله ولا يثيب عليه لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه خالصاً له "وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله" أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله "فأولئك هم المضعفون" المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الفراء: هو نحو قولهم: مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان، أو عطاش، أو ضعيفة. وقرأ أبي المضعفون بفتح العين اسم مفعول.
40- "الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء" عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين، وأنه الخالق الرزاق المميت المحيي، ثم قال على جهة الاستفهام "هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء" ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، فتقوم عليهم الحجة، ثم نزه سبحانه نفسه فقال: "سبحانه وتعالى عما يشركون" أي نزهوه تنزيهاً، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك، وقوله: من شركائكم خبر مقدم ومن للتبعيض، والمبتدأ هو الموصول: أعني من يفعل، ومن ذلكم متعلق بمحذوف لأنه حال من شيء المذكور بعده، ومن في من شيء مزيدة للتوكيد، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة، ويجعلون لهم نصيباً من أموالهم.
41- "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" بين سبحانه أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم. واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور، فقيل هو القحط وعدم النبات، ونقصان الرزق، وكثرة الخوف ونحو ذلك. وقال مجاهد وعكرمة: فساد البر قتل ابن آدم أخاه: يعني قتل قابيل لهابيل، وفي البحر الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. وليت شعري أي دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب، فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، والتعريف في الفساد يدل على الجنس، فيعم كل فساد واقع في حيزي البر والبحر. وقال السدي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد. ويمكن أن يقال إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه. وقيل الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش، وقيل الفساد قطع السبل والظلم، وقيل غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه. والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار. والبر والبحر هما المعروفان المشهوران، وقيل البر الفيافي، والبحر القرى التي على ماء قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار البحار. قال مجاهد: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر. والأول أولى. ويكون معنى البر مدن البر، ومعنى البحر مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها، والباء في بما كسبت للسببية، وما إما موصولة أو مصدرية " ليذيقهم بعض الذي عملوا " اللام متعلقة بظهر، وهي لام العلة: أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء عملهم "لعلهم يرجعون" عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله.