تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 459 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 459

459 : تفسير الصفحة رقم 459 من القرآن الكريم

** خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ يُكَوّرُ اللّيْـلَ عَلَى النّهَـارِ وَيُكَوّرُ النّـهَارَ عَلَى اللّيْلِ وَسَخّـرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُـلّ يَجْرِي لأجَـلٍ مّسَـمّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفّارُ * خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُصْرَفُونَ
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض وما بين ذلك من الأشياء وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يقلب ليله ونهاره {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} أي سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منهما يطلب الاَخر طلباً حثيثاً كقوله تبارك وتعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيث} هذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله عز وجل: {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ثم ينقضي يوم القيامة {ألا هو العزيز الغفار} أي مع عزته وعظمته وكبريائه وهو غفار لمن عصاه ثم تاب أو أناب إليه.
وقوله جلت عظمته: {خلقكم من نفس واحدة} أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام {ثم جعل منها زوجه} وهي حواء عليها السلام كقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجا وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} وقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} أي خلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام, ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين وقوله عز وجل: {يخلقكم في بطون أمهاتكم} أي قدركم في بطون أمهاتكم {خلقاً من بعد خلق} يكون أحدكم أولاً نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
وقوله جل وعلا: {في ظلمات ثلاث} يعني في ظلمة الرحم وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو مالك والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد. وقوله جل جلاله: {ذلكم الله ربكم} أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك {لا إله إلا هو} أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له {فأنى تصرفون} أي فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يذهب بعقولكم ؟)

** إِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ مّرْجِعُكُـمْ فَيُنَبّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ ضُرّ دَعَا رَبّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمّ إِذَا خَوّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوَ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلّهِ أَندَاداً لّيُضِلّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنّكَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن نفسه تبارك وتعالى أنه الغني عما سواه من المخلوقات كما قال موسى عليه الصلاة والسلام {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} وفي صحيح مسلم «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً». وقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} أي لا يحبه ولا يأمر به {وإن تشكروا يرضه لكم} أي يحبه لكم ويزدكم من فضله {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل نفس عن نفس شيئاً بل كل مطالب بأمر نفسه {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور} أي فلا تخفى عليه خافية.
وقوله عز وجل: {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه} أي عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفور} ولهذا قال تبارك وتعالى: {ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} أي في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع كما قال جل جلاله: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مر كأن لم يدعناإلى ضر مسه}.
وقوله تعالى: {وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله} أي في حال العافية يشرك بالله ويجعل له أنداداً {قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} أي قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه تمتع بكفرك قليلاً وهو تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله تعالى: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} وقوله تعالى: {نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}.

** أَمّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ
يقول عز وجل أمّنْ هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً, لا يستوون عند الله كما قال تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} وقال تبارك وتعالى ههنا: {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائم} أي في حال سجوده وفي حال قيامه ولهذا استدل بهذه الاَية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة وليس هو القيام وحده كما ذهب إليه آخرون. وقال الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: القانت المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن والسدي وابن زيد: آناء الليل جوف الليل. وقال الثوري عن منصور بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء, وقال الحسن وقتادة آناء الليل أوله وأوسطه وآخره. وقوله تعالى: {يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} أي في حال عبادته خائف راج ولا بد في العبادة من هذا وهذا وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ولهذا قال تعالى: {يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له: «كيف تجدك ؟» فقال: أرجو وأخاف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه». رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان به وقال الترمذي غريب, وقد رواه بعضهم عن ثابت عن أنس عن النبي مرسلاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شيبة عن عبيدة النميري حدثنا أبو خلف بن عبد الله بن عيسى الخراز حدثنا يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة كما روى ذلك أبو عبيدة عنه رضي الله تعالى عنه, وقال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود بهيقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

وقال الإمام أحمد: كتب إليّ الربيع بن نافع حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع كلاهما عن الهيثم بن حميد به. وقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله {إنما يتذكر أولو الألباب} أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل, والله أعلم.

** قُلْ يَعِبَادِ الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ رَبّكُمْ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـَذِهِ الدّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةٌ إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لّهُ الدّينَ * وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوّلَ الْمُسْلِمِينَ
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم, وقوله: {وأرض الله واسعة} قال مجاهد: فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان, وقال شريك عن منصور عن عطاء في قوله تبارك وتعالى: {وأرض الله واسعة} قال: إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا ثم قرأ {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيه} وقوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال الأوزاعي ليس يوزن لهم ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفاً, وقال ابن جريج بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط, ولكن يزادون على ذلك, وقال السدي {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} يعني في الجنة. وقوله: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} قال السدي يعني من أمته صلى الله عليه وسلم.