سورة الطور | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 525 من المصحف
** أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مّغْرَمٍ مّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء ؟ أم هم الخالقون} أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم, أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً, قال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان قال: حدثني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الاَية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك ؟ أم هم المصيطرون ؟} كاد قلبي أن يطير, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به. وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى, وكان إذ ذاك مشركاً, فكان سماعه هذه الاَية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك. ثم قال تعالى: {أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون} أي أهم خلقوا السموات والأرض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله, وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له, ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك {أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ؟} أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن {أم هم المصيطرون} أي المحاسبون للخلائق, ليس الأمر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
وقوله تعالى: {أم لهم سلم يستمعون فيه} أي مرقاة إلى الملأ الأعلى {فليأت مستمعهم بسلطان مبين} أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال, أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شيء وليس لهم دليل, ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثاً, واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث, بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم, هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال: {أم له البنات ولكم البنون} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد {أم تسألهم أجراً ؟} أي أجرة إبلاغك إياهم رسالة الله, أي لست تسألهم على ذلك شيئاً {فهم من مغرم مثقلون} أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله {أم يريدون كيداً. فالذين كفروا هم المكيدون} يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه, فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين كفروا هم المكيدون {أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون} وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله, ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال: {سبحان الله عما يشركون}.
** وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النّجُومِ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس {وإن يروا كسفاً من السماء ساقط} أي عليهم يعذبون به لما صدقوا, ولما أيقنوا بل يقولون: هذا سحاب مركوم, أي متراكم, وهذا كقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}. وقال الله تعالى {فذرهم} أي دعهم يا محمد {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} وذلك يوم القيامة {يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئ} أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا, لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً {ولا هم ينصرون}. ثم قال تعالى: {وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك} أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} ولهذا قال تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم, بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه, عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير, لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه» وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ قال الله تعالى: يا عبدي كم أعاقبك وأنت لا تدري ؟ وقوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعينن} أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال الضحاك: أي إلى الصلاة. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك, وتعالى جدك, ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما, وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول: هذا في ابتداء الصلاة, ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء {وسبح بحمد ربك حين تقوم} أي من نومك من فراشك, واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القوم بما رواه الإمام أحمد, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا الأوزعي, حدثنا عمير بن هانىء, حدثني جنادة بن أبي أمية. حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال, رب اغفر لي ـ أو قال ثم دعا ـ استجيب له, فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن مسلم به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال: من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي, حدثنا محمد بن شعيب, أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيراً, وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له, وقد قال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري, عن أبي عثمان الفقير, أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك, قال معمر: وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس وهذا مرسل, وقد وردت مسندة من طرق يقوي بعضها بعضاً بذلك, فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه, فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك, إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك» رواه الترمذي, وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج, وقال الترمذي: حسن صحيح, وأخرجه الحاكم في مستدركه, وقال إسناده على شرط مسلم, إلا أن البخاري علله, قلت: علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم, ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج, على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ورواه أبو داود, واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم, عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره: إذا أراد أن يقوم من المجلس «سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك». فقال رجل: يا رسول الله, إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى, قال: «كفارة لما يكون في المجلس» وقد روي مرسلاً عن أبي العالية, فالله أعلم.
وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء, وروي مرسلاً أيضاً فالله أعلم, وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه, ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر, إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم: سبحانك اللهم وبحمدك, لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه, ومن رواية جبير بن مطعم, ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد أفردت لذلك جزءاً على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله, وما يتعلق به ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود}. وقوله تعالى: {وإدبار النجوم} قد تقدم في حديث ابن عباس, أنهما الركعتان اللتان قبيل صلاة الفجر, فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعاً «لا تدعوها وإن طردتكم الخيل» يعني ركعتي الفجر, رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب أحمد القول بوجوبهما, وهو ضعيف لحديث «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرها قال: «لا إلا أن تطوع» وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر, وفي لفظ لمسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
آخر تفسير سورة الطور ولله الحمد والمنة.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 525
525 : تفسير الصفحة رقم 525 من القرآن الكريم** أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ * أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مّغْرَمٍ مّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ
هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء ؟ أم هم الخالقون} أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم, أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً, قال البخاري: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان قال: حدثني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الاَية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك ؟ أم هم المصيطرون ؟} كاد قلبي أن يطير, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به. وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى, وكان إذ ذاك مشركاً, فكان سماعه هذه الاَية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك. ثم قال تعالى: {أم خلقوا السموات والأرض ؟ بل لا يوقنون} أي أهم خلقوا السموات والأرض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله, وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له, ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك {أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ؟} أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن {أم هم المصيطرون} أي المحاسبون للخلائق, ليس الأمر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
وقوله تعالى: {أم لهم سلم يستمعون فيه} أي مرقاة إلى الملأ الأعلى {فليأت مستمعهم بسلطان مبين} أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال, أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شيء وليس لهم دليل, ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثاً, واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث, بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم, هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال: {أم له البنات ولكم البنون} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد {أم تسألهم أجراً ؟} أي أجرة إبلاغك إياهم رسالة الله, أي لست تسألهم على ذلك شيئاً {فهم من مغرم مثقلون} أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله {أم يريدون كيداً. فالذين كفروا هم المكيدون} يقول تعالى: أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه, فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين كفروا هم المكيدون {أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون} وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله, ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال: {سبحان الله عما يشركون}.
** وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النّجُومِ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس {وإن يروا كسفاً من السماء ساقط} أي عليهم يعذبون به لما صدقوا, ولما أيقنوا بل يقولون: هذا سحاب مركوم, أي متراكم, وهذا كقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}. وقال الله تعالى {فذرهم} أي دعهم يا محمد {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} وذلك يوم القيامة {يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئ} أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا, لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً {ولا هم ينصرون}. ثم قال تعالى: {وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك} أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} ولهذا قال تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم, بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه, عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير, لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه» وفي الأثر الإلهي: كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ قال الله تعالى: يا عبدي كم أعاقبك وأنت لا تدري ؟ وقوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعينن} أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال الضحاك: أي إلى الصلاة. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك, وتعالى جدك, ولا إله غيرك.
وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما, وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول: هذا في ابتداء الصلاة, ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء {وسبح بحمد ربك حين تقوم} أي من نومك من فراشك, واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القوم بما رواه الإمام أحمد, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا الأوزعي, حدثنا عمير بن هانىء, حدثني جنادة بن أبي أمية. حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارّ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال, رب اغفر لي ـ أو قال ثم دعا ـ استجيب له, فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن مسلم به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال: من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي, حدثنا محمد بن شعيب, أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيراً, وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له, وقد قال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري, عن أبي عثمان الفقير, أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك, قال معمر: وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس وهذا مرسل, وقد وردت مسندة من طرق يقوي بعضها بعضاً بذلك, فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه, فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك, إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك» رواه الترمذي, وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج, وقال الترمذي: حسن صحيح, وأخرجه الحاكم في مستدركه, وقال إسناده على شرط مسلم, إلا أن البخاري علله, قلت: علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم, ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج, على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ورواه أبو داود, واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم, عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره: إذا أراد أن يقوم من المجلس «سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك». فقال رجل: يا رسول الله, إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى, قال: «كفارة لما يكون في المجلس» وقد روي مرسلاً عن أبي العالية, فالله أعلم.
وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء, وروي مرسلاً أيضاً فالله أعلم, وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه, ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر, إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم: سبحانك اللهم وبحمدك, لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه, ومن رواية جبير بن مطعم, ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد أفردت لذلك جزءاً على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله, وما يتعلق به ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمود}. وقوله تعالى: {وإدبار النجوم} قد تقدم في حديث ابن عباس, أنهما الركعتان اللتان قبيل صلاة الفجر, فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعاً «لا تدعوها وإن طردتكم الخيل» يعني ركعتي الفجر, رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب أحمد القول بوجوبهما, وهو ضعيف لحديث «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرها قال: «لا إلا أن تطوع» وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر, وفي لفظ لمسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».
آخر تفسير سورة الطور ولله الحمد والمنة.
الصفحة رقم 525 من المصحف تحميل و استماع mp3