سورة الطور | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 525 من المصحف
32- "أم تأمرهم أحلامهم بهذا" أي بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، أن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء، والمجنون: هو ذاهب العقل فضلاً عن أن يكون له فطنة وذكاء. قال الواحدي: قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل "أم هم قوم طاغون" أي بل أطغوا وجاوزوا الحد في العناد، فقالوا ما قالوا، وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام كما هو مدلول أم المنقطعة تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدمها، وأكثر جرأة وعناداً.
33- "أم يقولون تقوله" أي اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله، والتقول لا يستعمل إلا في الكذب في الغالب، وإن كان أصله تكلف القول، ومنه اقتال عليه، ويقال اقتال عليه: بمعنى تحكم عليه ومنه قول الشاعر: ومنزلة في دار صدق وغبطة وما اقتال في حكم علي طبيب ثم أضرب سبحانه عن قوله: "تقوله" وانتقل إلى ما هو أشد شناعة عليهم فقال: "بل لا يؤمنون" أي سبب صدور هذه الأقوال المتناقضة عنهم كونهم كفاراً لا يؤمنون بالله ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال: 34- "فليأتوا بحديث مثله" أي مثل القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه "إن كانوا صادقين" فيما زعموا من قولهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوله وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربي، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر. وقد أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر به عينه. ثم قرأ "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم" الآية". وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم"" الآية. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذين آمنوا" الآية" وإسناده هكذا. قال عبد الله بن أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب قال: "سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هما في النار، فلما رأى الكراهة في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما، قالت: يا رسول الله فولدي منك. قال: في الجنة، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ "والذين آمنوا"" الآية. وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يزيد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب من أين لي هذا، فيقول باستغفار ولدك لك" وإسناده صحيح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس "وما ألتناهم" قال: ما نقصناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "لا لغو فيها" يقول: باطل "ولا تأثيم" يقول كذب. وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحدهما: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا". وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنه هو البر" قال: اللطيف. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عنه أن قريشاً لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ريب المنون" قال: الموت.
قوله: 35- "أم خلقوا من غير شيء" أم هذه هي المنقطعة كما تقدم فيما قبلها، وكما سيأتي فيما بعدها: أي بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة من غير خالق لهم. قال الزجاج: أي أخلقوا باطلاً لغير شيء لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون، وجعل من بمعنى اللام. قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثاً وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون. وقيل المعنى: أم خلقوا من غير أب ولا أم، فهم كالجماد لا يفهمون ولا تقوم عليهم حجة "أم هم الخالقون" أي بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرون أن الله خالقهم، وإذا أقروا لزمتهم الحجة.
36- "أم خلقوا السموات والأرض" وهم لا يدعون ذلك فلزمتهم الحجة، ولهذا أضرب عن هذا وقال "بل لا يوقنون" أي ليسوا على يقين من الأمر، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده.
37- "أم عندهم خزائن ربك" أي خزائن أرزاق العباد، وقيل: مفاتيح الرحمة. قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا؟ وكذا قال عكرمة: وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق "أم هم المصيطرون" أي المسلطون الجبارون. قال في الصحاح: المسيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر. وقال أبو عبيدة: سطرت علي: اتخذتني خولا لك. قرأ الجمهور "المصيطرون" بالصاد الخالصة، وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام بالسين الخالصة، ورويت هذه القراءة عن حفص، وقرأ خلاد بصاد مشمة زايا.
38- "أم لهم سلم يستمعون فيه" أي بل أيقولون إن لهم سلماً منصوباً إلى السماء يصعدون به ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحي إليهم ويصلون به إلى علم الغيب كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. وقوله فيه صفة لسلم، وهي للظرفية على بابها، وقيل هي بمعنى على: أي يستمعون عليه كقوله: "ولأصلبنكم في جذوع النخل" قاله الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: المعنى: أنهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقيل هي في محل نصب على الحال: أي صاعدين فيه "فليأت مستمعهم" إن ادعى ذلك "بسلطان مبين" أي بحجة واضحة ظاهرة.
39- "أم له البنات ولكم البنون" أي بل أتقولون لله البنات ولكم النون، سفه سبحانه أحلامهم، وضلل عقولهم ووبخهم: أي أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصنفين، ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما، وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد.
ثم رجع سبحانه إلى هطاب رسوله صلى الله عليه سلم فقال: 40- "أم تسألهم أجراً" أي بل أتسألهم أجراً يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة "فهم من مغرم مثقلون" أي من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون: أي مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل. قال قتادة: يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجراً فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام.
41- " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " أي بل أيدعون أن عندهم علم الغيب ، وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب . قال قتادة هذا جواب لقولهم : " نتربص به ريب المنون " يقول الله : أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون . قال ابن قتيبة : معنى يكتبون يحكمون بما يقولون .
42- "أم يريدون كيداً" أي مكراً برسول الله صلى الله عليه وسلم فيهلكونه بذلك المكر "فالذين كفروا هم المكيدون" أي الممكور بهم المجزيون بكيدهم، فضرر كيدهم يعود عليهم " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " وقد قتلهم الله في يوم بدر وأذلهم في غير موطن، ومكر سبحانه بهم "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".
43- "أم لهم إله غير الله" أي بل يدعون أن لهم إلهاً غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم. ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال: "سبحان الله عما يشركون" أي عن شركهم به، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له.
ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم، فقال: 44- "وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم" الكسف جمع كسفة: وهي القطعة من الشيء، وانتصاب ساقطاً على الحال، أو على أنه المفعول الثاني، والمركوم: المجعول بعضه عن بعض. والمعنى: أنهم إن يروا كسفاً من السماء ساقطاً عليهم لعذابهم لم ينتهوا عن كفرهم بل يقولون هو سحاب متراكم بعضه على بعض، وقد تقدم اختلاف القراء في كسفا. قال الأخفش: من قرأ "كسفاً"، يعني بكسر الكاف وسكون السين جعله واحداً، ومن قرأ "كسفاً"، يعني بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعاً.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم، فقال: 45- "فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون" أي أتركهم وخل عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم، أو يوم قتلهم ببدر، أو يوم القيامة. قرأ الجمهور "يلاقوا" وقرأ أبو حيوة يلقوا وقرأ الجمهور: "يصعقون" على البناء للفاعل: وقرأ ابن عامر وعاصم على البناء للمفعول، والصعقة: الهلاك على ما تقدم بيانه.
46- "يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً" هو بدل من يومهم: أي لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا "ولا هم ينصرون" أي ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة.
47- "وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك" أي لهؤلاء الذي ظلموا أنفسه بالكفر والمعاصي عذاباً في الدنيا دون عذاب يوم القيامة: أي قبله، وهو قتلهم يوم بدر. وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد. وقال مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين، وقيل عذاب القبر، وقيل المراد بالعذاب هو القحط، وبالعذاب الذي يأتي بعده هو قتلهم يوم بدر "ولكن أكثرهم لا يعلمون" ما يصيرون إليه من عذاب الله وما أعده لهم في الدنيا والآخرة.
48- "واصبر لحكم ربك" إلى أن يقع لهم العذاب وعدناهم به "فإنك بأعيننا" أي بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا فلا تبال بهم. قال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك فلا يصلون إليه "وسبح بحمد ربك حين تقوم" أي نزه ربك عما لا يليق به متلبساً بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك. قال عطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحانه الله وبحمده، أو سبحانك الله وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع بن أنس: حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحانه الله بكرة وأصيلاً، وفيه نظر لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام، ويكون التسبيح بعد التكبير، وهذا غير معنى الآية، فالأول أولى. وقيل المعنى: صل لله حين تقوم من منامك، وبه قال أبو الجوزاء وحسان بن عطية. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وهي صلاة الفجر.
49- "ومن الليل فسبحه" أمره الله سبحانه أن يسبحه في بعض الليل، قال مقاتل: أي صل المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر "وإدبار النجوم" أي وقت إدبارها من آخر الليل، وقيل صلاة الفجر، واختاره ابن جرير، وقيل هو التسبيح في إدبار الصلوات، قرأ الجمهور "إدبار" بكسر الهمزة على أنه مصدر، وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميفع ويعقوب والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع: أي أعقاب النجوم وأدبارها: إذا غربت، ودبر الأمر: آخره، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة ق؟. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أم هم المصيطرون" قال: المسلطون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أم هم المنزلون. وأخرجا عنه أيضاً "عذاباً دون ذلك" قال: عذاب القبر قبل يوم القيامة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بآخرة إذا قام من المجلس يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل: يا رسول الله: إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى، قال: كفارة لما يكون في المجلس". وأخرجه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الترمذي وابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك". قال الترمذي. حسن صحيح. وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وسبح بحمد ربك حين تقوم" قال: حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ومن الليل فسبحه" قال: الركعتان قبل صلاة الصبح. وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس "وإدبار النجوم" قال: ركعتي الفجر.
فتح القدير - صفحة القرآن رقم 525
52432- "أم تأمرهم أحلامهم بهذا" أي بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، أن الكاهن هو المفرط في الفطنة والذكاء، والمجنون: هو ذاهب العقل فضلاً عن أن يكون له فطنة وذكاء. قال الواحدي: قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل "أم هم قوم طاغون" أي بل أطغوا وجاوزوا الحد في العناد، فقالوا ما قالوا، وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام كما هو مدلول أم المنقطعة تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدمها، وأكثر جرأة وعناداً.
33- "أم يقولون تقوله" أي اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله، والتقول لا يستعمل إلا في الكذب في الغالب، وإن كان أصله تكلف القول، ومنه اقتال عليه، ويقال اقتال عليه: بمعنى تحكم عليه ومنه قول الشاعر: ومنزلة في دار صدق وغبطة وما اقتال في حكم علي طبيب ثم أضرب سبحانه عن قوله: "تقوله" وانتقل إلى ما هو أشد شناعة عليهم فقال: "بل لا يؤمنون" أي سبب صدور هذه الأقوال المتناقضة عنهم كونهم كفاراً لا يؤمنون بالله ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم تحداهم سبحانه وألزمهم الحجة فقال: 34- "فليأتوا بحديث مثله" أي مثل القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه "إن كانوا صادقين" فيما زعموا من قولهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوله وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربي، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر. وقد أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر به عينه. ثم قرأ "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم" الآية". وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم"" الآية. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذين آمنوا" الآية" وإسناده هكذا. قال عبد الله بن أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب قال: "سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هما في النار، فلما رأى الكراهة في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما، قالت: يا رسول الله فولدي منك. قال: في الجنة، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ "والذين آمنوا"" الآية. وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا يزيد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب من أين لي هذا، فيقول باستغفار ولدك لك" وإسناده صحيح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن عباس "وما ألتناهم" قال: ما نقصناهم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه "لا لغو فيها" يقول: باطل "ولا تأثيم" يقول كذب. وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا في الدنيا، فيقول أحدهما: يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا، فدعونا الله فغفر لنا". وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إنه هو البر" قال: اللطيف. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عنه أن قريشاً لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم احبسوه في وثاق، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "ريب المنون" قال: الموت.
قوله: 35- "أم خلقوا من غير شيء" أم هذه هي المنقطعة كما تقدم فيما قبلها، وكما سيأتي فيما بعدها: أي بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة والصنعة العجيبة من غير خالق لهم. قال الزجاج: أي أخلقوا باطلاً لغير شيء لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون، وجعل من بمعنى اللام. قال ابن كيسان: أم خلقوا عبثاً وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون. وقيل المعنى: أم خلقوا من غير أب ولا أم، فهم كالجماد لا يفهمون ولا تقوم عليهم حجة "أم هم الخالقون" أي بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرون أن الله خالقهم، وإذا أقروا لزمتهم الحجة.
36- "أم خلقوا السموات والأرض" وهم لا يدعون ذلك فلزمتهم الحجة، ولهذا أضرب عن هذا وقال "بل لا يوقنون" أي ليسوا على يقين من الأمر، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده.
37- "أم عندهم خزائن ربك" أي خزائن أرزاق العباد، وقيل: مفاتيح الرحمة. قال مقاتل: يقول: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا؟ وكذا قال عكرمة: وقال الكلبي: خزائن المطر والرزق "أم هم المصيطرون" أي المسلطون الجبارون. قال في الصحاح: المسيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر. وقال أبو عبيدة: سطرت علي: اتخذتني خولا لك. قرأ الجمهور "المصيطرون" بالصاد الخالصة، وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام بالسين الخالصة، ورويت هذه القراءة عن حفص، وقرأ خلاد بصاد مشمة زايا.
38- "أم لهم سلم يستمعون فيه" أي بل أيقولون إن لهم سلماً منصوباً إلى السماء يصعدون به ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحي إليهم ويصلون به إلى علم الغيب كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. وقوله فيه صفة لسلم، وهي للظرفية على بابها، وقيل هي بمعنى على: أي يستمعون عليه كقوله: "ولأصلبنكم في جذوع النخل" قاله الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: المعنى: أنهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وقيل هي في محل نصب على الحال: أي صاعدين فيه "فليأت مستمعهم" إن ادعى ذلك "بسلطان مبين" أي بحجة واضحة ظاهرة.
39- "أم له البنات ولكم البنون" أي بل أتقولون لله البنات ولكم النون، سفه سبحانه أحلامهم، وضلل عقولهم ووبخهم: أي أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصنفين، ويجعلون لأنفسهم البنين وهم أعلاهما، وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه فهو بمحل سافل في الفهم والعقل، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد.
ثم رجع سبحانه إلى هطاب رسوله صلى الله عليه سلم فقال: 40- "أم تسألهم أجراً" أي بل أتسألهم أجراً يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة "فهم من مغرم مثقلون" أي من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون: أي مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل. قال قتادة: يقول: هل سألت هؤلاء القوم أجراً فجهدهم فلا يستطيعون الإسلام.
41- " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " أي بل أيدعون أن عندهم علم الغيب ، وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب . قال قتادة هذا جواب لقولهم : " نتربص به ريب المنون " يقول الله : أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون . قال ابن قتيبة : معنى يكتبون يحكمون بما يقولون .
42- "أم يريدون كيداً" أي مكراً برسول الله صلى الله عليه وسلم فيهلكونه بذلك المكر "فالذين كفروا هم المكيدون" أي الممكور بهم المجزيون بكيدهم، فضرر كيدهم يعود عليهم " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " وقد قتلهم الله في يوم بدر وأذلهم في غير موطن، ومكر سبحانه بهم "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".
43- "أم لهم إله غير الله" أي بل يدعون أن لهم إلهاً غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم. ثم نزه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال: "سبحان الله عما يشركون" أي عن شركهم به، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له.
ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم، فقال: 44- "وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم" الكسف جمع كسفة: وهي القطعة من الشيء، وانتصاب ساقطاً على الحال، أو على أنه المفعول الثاني، والمركوم: المجعول بعضه عن بعض. والمعنى: أنهم إن يروا كسفاً من السماء ساقطاً عليهم لعذابهم لم ينتهوا عن كفرهم بل يقولون هو سحاب متراكم بعضه على بعض، وقد تقدم اختلاف القراء في كسفا. قال الأخفش: من قرأ "كسفاً"، يعني بكسر الكاف وسكون السين جعله واحداً، ومن قرأ "كسفاً"، يعني بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعاً.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم، فقال: 45- "فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون" أي أتركهم وخل عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم، أو يوم قتلهم ببدر، أو يوم القيامة. قرأ الجمهور "يلاقوا" وقرأ أبو حيوة يلقوا وقرأ الجمهور: "يصعقون" على البناء للفاعل: وقرأ ابن عامر وعاصم على البناء للمفعول، والصعقة: الهلاك على ما تقدم بيانه.
46- "يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً" هو بدل من يومهم: أي لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا "ولا هم ينصرون" أي ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع، بل هو واقع بهم لا محالة.
47- "وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك" أي لهؤلاء الذي ظلموا أنفسه بالكفر والمعاصي عذاباً في الدنيا دون عذاب يوم القيامة: أي قبله، وهو قتلهم يوم بدر. وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد. وقال مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين، وقيل عذاب القبر، وقيل المراد بالعذاب هو القحط، وبالعذاب الذي يأتي بعده هو قتلهم يوم بدر "ولكن أكثرهم لا يعلمون" ما يصيرون إليه من عذاب الله وما أعده لهم في الدنيا والآخرة.
48- "واصبر لحكم ربك" إلى أن يقع لهم العذاب وعدناهم به "فإنك بأعيننا" أي بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا فلا تبال بهم. قال الزجاج: إنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك فلا يصلون إليه "وسبح بحمد ربك حين تقوم" أي نزه ربك عما لا يليق به متلبساً بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك. قال عطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحانه الله وبحمده، أو سبحانك الله وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع بن أنس: حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحانه الله بكرة وأصيلاً، وفيه نظر لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام، ويكون التسبيح بعد التكبير، وهذا غير معنى الآية، فالأول أولى. وقيل المعنى: صل لله حين تقوم من منامك، وبه قال أبو الجوزاء وحسان بن عطية. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وهي صلاة الفجر.
49- "ومن الليل فسبحه" أمره الله سبحانه أن يسبحه في بعض الليل، قال مقاتل: أي صل المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر "وإدبار النجوم" أي وقت إدبارها من آخر الليل، وقيل صلاة الفجر، واختاره ابن جرير، وقيل هو التسبيح في إدبار الصلوات، قرأ الجمهور "إدبار" بكسر الهمزة على أنه مصدر، وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميفع ويعقوب والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع: أي أعقاب النجوم وأدبارها: إذا غربت، ودبر الأمر: آخره، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة ق؟. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أم هم المصيطرون" قال: المسلطون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أم هم المنزلون. وأخرجا عنه أيضاً "عذاباً دون ذلك" قال: عذاب القبر قبل يوم القيامة. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بآخرة إذا قام من المجلس يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل: يا رسول الله: إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى، قال: كفارة لما يكون في المجلس". وأخرجه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الترمذي وابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك". قال الترمذي. حسن صحيح. وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وسبح بحمد ربك حين تقوم" قال: حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "ومن الليل فسبحه" قال: الركعتان قبل صلاة الصبح. وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس "وإدبار النجوم" قال: ركعتي الفجر.
الصفحة رقم 525 من المصحف تحميل و استماع mp3