تفسير الطبري تفسير الصفحة 525 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 525
526
524
 الآية : 32-34
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }.
يقول تعالى ذكره: أتأمر هؤلاء المشركين أحلامهم بأن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: هو شاعر, وأن ما جاء به شعر أمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يقول جلّ ثناؤه: ما تأمرهم بذلك أحلامهم وعقولهم «بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» قد طَغَوا على ربهم, فتجاوزوا ما أذن لهم وأمرهم به من الإيمان إلى الكفر به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25057ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أمْ تَأْمُرُهُمْ أحْلامُهُمْ بِهَذَا قال: كانوا يعدّون في الجاهلية أهل الأحلام, فقال الله: أم تأمرهم أحلامهم بهذا أن يعبدوا أصناما بُكما. صما, ويتركوا عبادة الله, فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم, ولم تكن عقولهم في دينهم, لم تنفعهم أحلامهم. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة, يتأوّل قوله: أمْ تَأْمُرُوهُمْ أحْلامُهُمْ: بل تأمرهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله أمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أيضا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25058ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, في قوله: أمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ قال: بل هم قوم طاغون.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد أمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ قال: بل هم قوم طاغون.
وقوله: أمْ يَقُولُونَ تَقَوّلَهُ يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: تقوّل محمد هذا القرآن وتخلّقه.
وقوله: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ يقول جلّ ثناؤه: كذبوا فيما قالوا من ذلك, بل لا يؤمنون فيصدّقوا بالحقّ الذي جاءهم من عند ربهم.
وقوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ يقول: جلّ ثناؤه: فليأت قائلو ذلك له من المشركين بقرآن مثله, فإنهم من أهل لسان محمد صلى الله عليه وسلم, ولن يتعذّر عليهم أن يأتوا من ذلك بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم إن كانوا صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوّله وتخلّقه.
الآية : 35-36
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ }.
يقول تعالى ذكره: أخلق هؤلاء المشركون من غير شيء, أي من غير آباء ولا أمّهات, فهم كالجماد, لا يعقلون ولا يفهمون لله حجة, ولا يعتبرون له بعبرة, ولا يتعظون بموعظة. وقد قيل: إن معنى ذلك: أم خلقوا لغير شيء, كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء, بمعنى: لغير شيء.
وقوله: أمْ هُمُ الخالِقُونَ يقول: أم هم الخالقون هذا الخلق, فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله, ولا ينتهون عما نهاهم عنه, لأن للخالق الأمر والنهي أمْ خَلَقُوا السّمَوَاتِ والأرْضَ يقول: أخلقوا السموات والأرض فيكونوا هم الخالقين, وإنما معنى ذلك: لم يخلقوا السموات والأرض, بَلْ لا يُوقِنُونَ يقول: لم يتركوا أن يأتمروا لأمر ربهم, وينتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى, لأنهم خلقوا السموات والأرض, فكانوا بذلك أربابا, ولكنهم فعلوا, لأنهم لا يوقنون بوعيد الله وما أعدّ لأهل الكفر به من العذاب في الاَخرة.
الآية : 37-38
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ }.
يقول تعالى ذكره: أعند هؤلاء المكذّبين بآيات الله خزائن ربك يا محمد, فهم لاستغنائهم بذلك عن آيات ربهم معرضون, أم هم المسيطرون. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معناه: أم هم المسلّطون. ذكر من قال ذلك:
25059ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: أمْ هُمْ المُسَيْطِرُونَ يقول: المسلّطون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم هم المُنْزِلُونَ. ذكر من قال ذلك:
25060ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ قال: يقول أم هم المنزلون.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم هم الأرباب, وممن قال ذلك معمر بن المثنى, قال: يقال: سيطرتَ عليّ: أي اتخذتني خولاً لك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أم هم الجبّارون المتسلطون المستكبرون على الله, وذلك أن المسيطر في كلام العرب الجبار المتسلط, ومنه قول الله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ يقول: لست عليهم بجبار مسلط.
وقوله: أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يقول: أم لهم سلم يرتقون فيه إلى السماء يستمعون عليه الوحي, فيدّعون أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حقّ, فهم بذلك متمسكون بما هم عليه.
وقوله: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يقول: فإن كانوا يدّعون ذلك فليأت من يزعم أنه استمع ذلك, فسمعه بسلطان مبين, يعني بحجة تبين أنها حقّ, كما أتى محمد صلى الله عليه وسلم بها على حقيقة قوله, وصدقه فيما جاءهم به من عند الله. والسّلّم في كلام العرب: السبب والمرقاة ومنه قول ابن مقبل:
لا تُحْرِزِ المَرْءَ أَحْجاءُ الْبِلادِ وَلاتُبْنَى لَهُ في السّمَواتِ السّلالِيمُ
ومنه قوله: جعلت فلانا سَلّما لحاجتي: إذا جعلته سببا لها.
الآية : 39-41
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مّن مّغْرَمٍ مّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ }.
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قريش: ألربكم أيها القوم البنات ولكم البنون؟ ذلك إذن قسمة ضيزى, وقوله: أمْ تَسألُهُمْ أجْرا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أتسأل هؤلاء المشركين الذين أرسلناك إليهم يا محمد على ما تدعوعهم إليه من توحيد الله وطاعته ثوابا وعوضا من أموالهم, فهم من ثِقل ما حملتهم من الغرم لا يقدرون على إجابتك إلى ما تدعوهم إليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25061ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: أمْ تَسأَلُهُمْ أجْرا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ يقول: هل سألتَ هؤلاء القوم أجرا يُجْهدهم, فلا يستطيعون الإسلام.
25062ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وَهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: أمْ تَسأَلُهُمْ أجْرا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ قال: يقول: أسألتهم على هذا أجرا, فأثقلهم الذي يُبْتَغَى أخذَه منهم.
وقوله: أمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ يقول تعالى ذكره: أم عندهم علم الغيب, فهم يكتبون ذلك للناس, فينبئونهم بما شاؤوا, ويخبرونهم بما أرادوا.
الآية : 42-43
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ }.
يقول تعالى ذكره: بل يريد هؤلاء المشركون يا محمد بك, وبدين الله كيدا فالّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ يقول: فهم المكيدون الممكورُ بهم دونك, فثق بالله, وامض لما أمرك به.
وقوله: أمْ لَهُمْ إلَهٌ غَيرُ اللّهِ: يقول جلّ ثناؤه: أمْ لَهُم معبود يستحق عليهم العبادةُ غير الله, فيجوز لهم عبادته, يقول: ليس لهم إله غير الله الذي له العبادة من جميع خلقه سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول: تنزيها لله عن شركهم وعبادتهم معه غيرَه.
الآية : 44-45
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ }.
يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء المشركون قِطْعا من السماء ساقطا, والكِسْف: جمع كِسْفة, مثل التمر جمع تمرة, والسّدْر جمع سِدْرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
25063ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: كِسْفا يقول: قِطْعا.
25064ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَإنْ يَرْوا كِسْفا يقول: وإن يروا قِطْعا مِنَ السّماءِ ساقِطا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ يقول جلّ ثناؤه: يقولوا لذلك الكِسْف من السماء الساقط: هذا سحاب مركوم, يعني بقوله مركوم: بعضه على بعض.
وإنما عنى بذلك جلّ ثناؤه المشركين من قريش الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاَيات, فقالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تُفَجّرَ لنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعا... إلى قوله: عَلَيْنا كِسْفا, فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن ير هؤلاء المشركون ما سألوا من الاَيات, فعاينوا كِسَفا من السماء ساقطا, لم ينتقلوا عما هم عليه من التكذيب, ولقالوا. إنما هذا سحاب بعضه فوق بعض, لأن الله قد حتم عليهم أنهم لا يؤمنون. كما:
25065ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة يقولوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ يقول: لا يصدّقوا بحديث, ولا يؤمنوا بآية.
25066ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنْ يَرَوْا كِسْفا مِنَ السّماءِ ساقِطا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ قال: حين سألوا الكِسْف قالوا: أسقط علينا كِسْفا من السماء إن كنت من الصادقين قال: يقول: لو أنا فعلنا لقالوا: سحاب مركوم.
وقوله: فَذَرْهُمْ حتى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فدع يا محمد هؤلاء المشركين حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يهلكون, وذلك عند النفخة الأولى.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: فِيهِ يُصْعَقُونَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم بفتح الياء من «يَصْعَقُونَ», وقرأه عاصم يُصْعَقُونَ بضم الياء, والفتح أعجب القراءتين إلينا, لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما, وإن كانت الأخرى جائزة, وذلك أن العرب تقول: صعق الرجل وصُعِق, وسَعد وسُعد. وقد بيّنا معنى الصّعْق بشواهده, وما قال فيه أهل التأويل فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
الآية : 46-47
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شيْئَا يوم القيامة, حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون, ثم بين عن ذلك اليوم أيّ يوم هو, فقال: يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا, يعني: مَكرهم أنه لا يدفع عنهم عن عذاب الله شيئا, فاليوم الثاني ترجمة عن الأوّل.
وقوله: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يقول: ولا هم ينصرهم ناصر, فيستقيد لهم ممن عذّبهم وعاقبهم.
وقوله: وَإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابا دُونَ ذلكَ اختلف أهل التأويل في العذاب الذي توعّد الله به هؤلاء الظلمة من دون يوم الصعقة, فقال بعضهم: هو عذاب القبر. ذكر من قال ذلك:
25067ـ حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري, قال: أخبرنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء عَذَابا دُونَ ذَلِكَ قال: عذاب القبر.
25068ـ حدثني عليّ, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: وَإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابا دُونَ ذلكَ يقول: عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة.
حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, أن ابن عباس كان يقول: إنكم لتجدون عذاب القبر في كتاب الله وَإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابا دُونَ ذلكَ.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, أن ابن عباس كان يقول: إن عذاب القبر في القرآن. ثم تلا وَإنّ لِلّذِينَ ظَلمُوا عَذَابا دُونَ ذلكَ.
وقال آخرون: عنى بذلك الجوع. ذكر من قال ذلك:
25069ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: حدثنا الحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: عَذَابا دُونَ ذلكَ قال: الجوع.
وقال آخرون: عنى بذلك: المصائب التي تصيبهم في الدنيا من ذهاب الأموال والأولاد. ذكر من قال ذلك:
25070ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابا دُونَ ذَلكَ قال: دون الاَخرة في هذه الدنيا يعذّبهم به من ذهاب الأموال والأولاد, قال: فهي للمؤمنين أجر وثواب عند الله, عدا مصائبهم ومصائب هؤلاء, عجلهم الله إياها في الدنيا, وقرأ فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ... إلى آخر الاَية.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون, وذلك يوم القيامة, فعذاب القبر دون يوم القيامة, لأنه في البرزخ, والجوع الذي أصاب كفار قريش, والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة, ولم يخصص الله نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عمّ فقال وَإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابا دُونَ ذَلِكَ فكلّ ذلك لهم عذاب, وذلك لهم دون يوم القيامة, فتأويل الكلام: وإن للذين كفروا بالله عذابا من الله دون يوم القيامة وَلِكنّ أكْثرَهُمْ لا يَعْلمُونَ بأنهم ذائقو ذلك العذاب.
الآية : 48-49
القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النّجُومِ }.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ يا محمد الذي حكم به عليك, وامض لأمره ونهيه, وبلّغ رسالاته فإنّكَ بأَعْيُنِنا يقول جلّ ثناؤه: فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملك, ونحن نحوطك ونحفظك, فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.
وقوله: وَسَبّحْ بِحمْدِ رَبّكَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: إذا قمت من نومك فقل: سبحان اللّهِ وبحمده. ذكر من قال ذلك:
25071ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, في قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ قال: من كل منامة, يقول حين يريد أن يقوم: سبحانَك وبحمدك.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا مهران, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عوف بن مالك وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قال: سبحان الله وبحمده.
25072ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ قال: إذا قام لصلاة من ليل أو نهار. وقرأ يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ قال: من نوم, ذكره عن أبيه.
وقال بعضهم: بل معنى ذلك: إذا قمت إلى الصلاة المفروضة فقل: سبحانك اللهمّ وبحمدك. ذكر من قال ذلك:
25073ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا ابن المبارك, عن جُوَيبر, عن الضحاك. وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تقومُ قال: إذا قام إلى الصلاة قال: سبحانك اللهمّ وبحمدك, وتبارك اسمك ولا إله غيرك.
25074ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ إلى الصلاة المفروضة.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وصلّ بحمد ربك حين تقوم من مَنامك, وذلك نوم القائلة, وإنما عنى صلاة الظهر.
وإنما قلت: هذا القول أولى القولين بالصواب, لأن الجميع مجمعون على أنه غير واجب أن يقال في الصلاة: سبحانك وبحمدك, وما رُوي عن الضحاك عند القيام إلى الصلاة, فلو كان القول كما قاله الضحاك لكان فرضا أن يُقال لأن قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ أمر من الله تعالى بالتسبيح, وفي إجماع الجميع على أن ذلك غير واجب الدليل الواضح على أن القول في ذلك غير الذي قاله الضحاك.
فإن قال قائل: ولعله أُريد به الندب والإرشاد. قيل: لا دلالة في الاَية على ذلك, ولم تقم حجة بأن ذلك معنيّ به ما قاله الضحاك, فيجعل إجماع الجميع على أن التسبيح عند القيام إلى الصلاة مما خير المسلمون فيه دليلاً لنا على أنه أُريد به الندب والإرشاد.
وإنما قلنا: عُنِي به القيام من نوم القائلة, لأنه لا صلاة تجب فرضا بعد وقت من أوقات نوم الناس المعروف إلا بعد نوم الليل, وذلك صلاة الفجر, أو بعد نوم القائلة, وذلك صلاة الظهر فلما أمر بعد قوله: وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ بالتسبيح بعد إدبار النجوم, وذلك ركعتا الفجر بعد قيام الناس من نومها ليلاً, عُلِم أن الأمر بالتسبيح بعد القيام من النوم هو أمر بالصلاة التي تجب بعد قيام من نوم القائلة على ما ذكرنا دون القيام من نوم الليل.
وقوله: وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ يقول: ومن الليل فعظّم ربك يا محمد بالصلاة والعبادة, وذلك صلاة المغرب والعشاء. وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:
25075ـ حدثني به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ قال: ومن الليل صلاة العشاء وَإدْبارَ النّجُومِ يعني حين تدبر النجوم للأفول عند إقبال النهار. وقيل: عُنِي بذلك ركعتا الفجر. ذكر بعض من قال ذلك:
25076ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: فَسَبّحْهُ وَإدْبارَ النّجُومِ قال: هما السجدتان قبل صلاة الغداة.
25077ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإدْبارَ النّجُومِ كنا نحدّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر. قال: وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لهما أحبّ إليّ من حُمْر النّعَم.
25078ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن زرارة بن أوفي, عن سعيد بن هشام عن عائشة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ركعتي الفجر «هُمَا خَيرٌ مِنَ الدّنيْا جَمِيعا».
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَإدْبارَ النّجُومِ قال: ركعتان قبل صلاة الصبح.
25079ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ وحماد بن مسعدة قالا: حدثنا حميد, عن الحسن, عن علي, في قوله: وَإدْبارَ النّجُومِ قال: الركعتان قبل صلاة الصبح.
25080ـ حدثنا ابن حُمَيد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, قال: قال عليّ رضي الله عنه إدْبارَ النّجُومِ الركعتان قبل الفجر.
وقال آخرون: عنى بالتسبح إدْبارَ النّجُومِ: صلاة الصبح الفريضة. ذكر من قال ذلك:
25081ـ حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: وَإدْبارَ النّجُومِ قال: صلاة الغداة.
25082ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: وَإدْبارَ النّجُومِ قال: صلاة الصبح.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني بها: الصلاة المكتوبة صلاة الفجر, وذلك أن الله أمر فقال: وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإدْبارَ النّجُومِ والركعتان قبل الفريضة غير واجبتين, ولم تقم حجة يجب التسليم لها, أن قوله فسبحه على الندب, وقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أمر الله على الفرض حتى تقوم حجة بأنه مراد به الندب, أو غير الفرض بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

نهاية تفسير الإمام الطبرى لسورة الطور