تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 564 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 564

564 : تفسير الصفحة رقم 564 من القرآن الكريم

** قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللّهُ وَمَن مّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرّحْمَـَنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مّعِينٍ
يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه {أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} أي خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال, فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلن} أي آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم وعليه توكلنا في جميع أمورنا كما قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} ولهذا قال تعالى: {فستعلمون من هو في ضلال مبين} أي منا ومنكم ولمن تكون العاقبة في الدنيا والاَخرة.
ثم قال تعالى إظهاراً للرحمة في خلقه: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غور} أي ذاهباً في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد ولا السواعد الشداد, والغائر عكس النابع ولهذا قال تعالى: {فمن يأتيكم بماء معين} أي نابع سائح جار على وجه الأرض, أي لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة, فلله الحمد والمنة. آخر تفسير سورة الملك ولله الحمد والمنة.

سورة القلم
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة وأن قوله تعالى: {ن} كقوله {ص}. {ق} ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور, وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته ههنا, وقيل: المراد بقول {ن} حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط, وهو حامل للأرضين السبع كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى, حدثنا سفيان هو الثوري, حدثنا سليمان هو الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. قال: وماذا أكتب ؟ قال: اكتب القدر, فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة, ثم خلق النون ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النون, فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال فإنها لتفخر على الأرض, وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن أبي معاوية عن الأعمش به, وهكذا رواه شعبة ومحمد بن فضيل ووكيع عن الأعمش به.
وزاد شعبة في روايته ثم قرأ {ن والقلم وما يسطرون} وقد رواه شريك عن الأعمش عن أبي ظبيان أو مجاهد عن ابن عباس فذكر نحوه, ورواه معمر عن الأعمش أن ابن عباس قال: فذكره ثم قرأ {ن والقلم وما يسطرون} ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق ربي عز وجل القلم ثم قال له: اكتب, فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة, ثم خلق النون فوق الماء ثم كبس الأرض عليه. وقد روى الطبراني ذلك مرفوعاً, فقال: حدثنا أبو حبيب زيد بن المهدي المروزي, حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني, حدثنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم والحوت فقال للقلم: اكتب. قال: ما أكتب ؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ {ن والقلم وما يسطرون} فالنون الحوت, والقلم القلم.
(حديث آخر) في ذلك رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له: اكتب, قال: وما أكتب ؟ قال: اكتب ما يكون ـ أو ما هو كائن ـ من عمل أو رزق أو أثر أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة, فذلك قوله: {ن والقلم وما يسطرون} ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت».
وقال ابن أبي نجيح: إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال: كان يقال النون الحوت العظيم الذي تحت الأرض السابعة, وقد ذكر البغوي وجماعة من المفسرين أن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض, وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن, والله أعلم. ومن العجيب أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا حميد عن أنس أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, فأتاه فسأله عن أشياء قال إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي, قال: ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه ؟ وما بال الولد ينزع إلى أمه ؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفاً» قال ابن سلام: فذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب, وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت, وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد, وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت» ورواه البخاري من طرق عن حميد ورواه مسلم أيضاً, وله من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا, وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان أن حبراً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل, فكان منها أن قال: فما تحفتهم, يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة, قال: «زيادة كبد الحوت» قال: فما غذاؤهم على أثرها ؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال: فما شرابهم عليه ؟ قال «من عين فيها تسمى سلسبيلاً» وقيل: المراد بقوله: {ن} لوح من نور.
قال ابن جرير: حدثنا الحسن بن شبيب المكتب, حدثنا محمد بن زياد الجزري عن فرات بن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ن والقلم وما يسطرون} لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة, وهذا مرسل غريب, وقال ابن جريج: أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام, وقيل المراد بقوله: {ن} دواة, والقلم القلم. قال ابن جرير: حدثنا عبد الأعلى, حدثنا أبو ثور عن معمر عن الحسن وقتادة في قوله {ن} قالا هي الدواة, وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جداً فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن خالد, حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله النون وهي الدواة».
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا يعقوب, حدثنا أخي عيسى بن عبد الله حدثنا ثابت الثمالي عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهي الدواة, وخلق القلم: فقال اكتب. قال: وما أكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول به بر أو فجور أو رزق مقسوم حلال أو حرام, ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف, ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزاناً فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم, فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم, فتقول لهم الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً, فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال: فقال ابن عباس: ألستم قوماً عرباً تسمعون الحفظة يقولون {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل.
وقوله تعالى: {والقلم} الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} فهو قسم منه تعالى وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم, ولهذا قال: {وما يسطرون} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني وما يكتبون. وقال أبو الضحى عن ابن عباس: وما يسطرون أي وما يعملون وقال السدي: وما يسطرون يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد, وقال آخرون: بل المراد ههنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق, قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف عام.
وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا: حدثنا أبو داود الطيالسي, حدثنا عبد الواحد بن سليم السلمي عن عطاء, هو ابن أبي رباح, حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دعاني أبي, حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب, قال يا رب وما أكتب ؟ قال اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه به, وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي به, وقال حسن صحيح غريب.
ورواه أبو داود في كتاب السنة من سننه عن جعفر بن مسافر عن يحيى بن حسان عن ابن رباح عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة, واسمه حبيش بن شريح الحبشي الشامي, عن عبادة فذكره. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي, حدثنا علي بن الحسن بن شقيق, أنبأنا عبد الله بن المبارك, حدثنا رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم بن أبي بزة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء» غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: والقلم, يعني الذي كتب به الذكر. وقوله تعالى: {وما يسطرون} أي يكتبون كما تقدم.
وقوله: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أي لست ولله الحمد بمجنون كما يقوله الجهلة من قومك, المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين, فنسبوك فيه إلى الجنون, {وإن لك لأجراً غير ممنون} أي بل إن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على أذاهم, ومعنى غير ممنون أي غير مقطوع كقوله {عطاء غير مجذوذ} {فلهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع عنهم. وقال مجاهد: غير ممنون أي غير محسوب وهو يرجع إلى ما قلناه.
وقوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} قال العوفي عن ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم وهو)الإسلام, وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والسدي والربيع بن أنس, وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال عطية: لعلى أدب عظيم. وقال معمر عن قتادة: سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن تقول كما هو في القرآن. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ القرآن ؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت أخبريني يا أم المؤمنين عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أتقرأ القرآن ؟ فقلت: نعم فقالت: كان خلقه القرآن. هذا مختصر من حديث طويل, وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث قتادة بطوله, وسيأتي في سورة المزمل إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا يونس عن الحسن قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود, حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من بني سواد قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن ؟ {وإنك لعلى خلق عظيم} قال: قلت حدثيني عن ذاك. قالت: صنعت له طعاماً وصنعت له حفصة طعاماً, فقلت لجاريتي اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبل فاطرحي الطعام, قالت فجاءت بالطعام قالت فألقت الجارية فوقعت القصعة فانكسرت وكان نطع, قالت فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «اقتصوا ـ أو اقتصي شك أسود ـ ظرفاً مكان ظرفك» قالت: فما قال شيئاً.
وقال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس, حدثنا أبي, حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها: أخبريني بخلق النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت كان خلقه القرآن أما تقرأ {وإنك لعلى خلق عظيم} ؟ وقد روى أبو داود والنسائي من حديث الحسن نحوه. وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, وهكذا رواه أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي, ورواه النسائي في التفسير عن إسحاق بن منصور عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح به.
ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً تطبعه وترك طبعه الجبلي, فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه, هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم, وكل خلق جميل كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط, ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته ؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور, حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسن الناس خلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير والأحاديث في هذا كثيرة ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له قط, ولا ضرب امرأة, ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله, ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثماً, فإذا كان إثماً كان أبعد الناس من الإثم, ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عز وجل وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان, عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» تفرد به.
وقوله تعالى: {فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال منك ومنهم, وهذا كقوله تعالى: {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر} وكقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الاَية ستعلم ويعلمون يوم القيامة, وقال العوفي عن ابن عباس: بأيكم المفتون أي المجنون, وكذا قال مجاهد وغيره, وقال قتادة وغيره: بأيكم المفتون أي أولى بالشيطان, ومعنى المفتون ظاهر أي الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه, وإنما دخلت الباء في قوله بأيكم لتدل على تضمين الفعل في قوله {فستبصر ويبصرون} وتقديره فستعلم ويعلمون أو فستخبر ويخبرون بأيكم المفتون, والله أعلم. ثم قال تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} أي هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي, ويعلم الحزب الضال عن الحق.

** فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ * وَدّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مّهِينٍ * هَمّازٍ مّشّآءِ بِنَمِيمٍ * مّنّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
يقول تعالى كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم {فلا تطع المكذبين * ودوا لوتدهن فيدهنون} قال ابن عباس: لو ترخص لهم فيرخصون. وقال مجاهد {ودوا لو تدهن} تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق. ثم قال تعالى: {ولاتطع كل حلاف مهين} وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترىء بها على أسماء الله تعالى واستعمالها في كل وقت في غير محلها, قال ابن عباس: المهين الكاذب, وقال مجاهد: هو الضعيف القلب, قال الحسن: كل حلاف مكابر مهين ضعيف.
وقوله تعالى: {هماز} قال ابن عباس وقتادة: يعني الاغتياب {مشاء بنميم} يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة, وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستتر من البول, وأما الاَخر فكان يمشي بالنميمة» الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام أن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات» رواه الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن إبراهيم به, وحدثنا عبد الرزاق, حدثنا الثوري عن منصور عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات» يعني نماماً, وحدثني يحيى بن سعيد القطان, حدثنا أبو سعيد الأحول عن الأعمش, حدثني إبراهيم منذ نحو ستين سنة عن همام بن الحارث قال: مر رجل على حذيفة, فقيل إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول, أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قتات» وقال أحمد: حدثنا هشام, حدثنا مهدي عن واصل الأحدب عن أبي وائل قال: بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة نمام».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن ابن خثيم عن شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخياركم ؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل» ثم قال: «ألا أخبركم بشراركم المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت» ورواه ابن ماجه عن سويد بن سعيد عن يحيى بن مسلم عن ابن خثيم به وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم «خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله, وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت».
وقوله تعالى: {مناع للخير معتد أثيم} أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير {معتد} في تناول ما أحل الله له يتجاوز فيها الحد المشروع {أثيم} أي يتناول المحرمات, وقوله تعالى: {عتل بعد ذلك زنيم} أما العتل فهو الفظ الغليظ الصحيح الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره, ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» وقال وكيع «كل جواظ جعظري مستكبر» أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن سعيد بن خالد به. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا موسى بن علي قال: سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار «كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع» تفرد به أحمد.
قال أهل اللغة: الجعظري الفظ الغليظ. والجواظ الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم فقال: «هو الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب, الظلوم للناس رحيب الجوف» وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة الجواظ الجعظري العتل الزنيم» وقد أرسله أيضاً غير واحد من التابعين: وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا ابن ثور عن معمر عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه. وأرحب جوفه وأعطاه من الدنيا مقضماً فكان للناس ظلوماً قال فذلك العتل الزنيم» وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين ونص عليه غير واحد من السلف, منهم مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم أن العتل هو المصحح الخلق الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك, وأما الزنيم فقال البخاري: حدثنا محمود حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن عباس {عتل بعد ذلك زنيم} قال: رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة, ومعنى هذا أنه كان مشهوراً بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها, وإنما الزنيم في لغة العرب هو الدعي في القوم, قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة, وقال: ومنه قول حسان بن ثابت, يعني يذم بعض كفار قريش:
وأنت زنيم نيط في آل هاشمكما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقال آخر:
زنيم ليس يعرف من أبوهبغي الأم ذو حسب لئيم
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمار بن خالد الواسطي, حدثنا أسباط عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {زنيم} قال: الدعي الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس:
زنيم تداعاه الرجال زيادةكما زيد في عرض الأديم الأكارع
وقال العوفي عن ابن عباس: الزنيم الدعي, ويقال: الزنيم رجل كانت به زنمة يعرف بها, ويقال: هو الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة, وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسود بن عبد يغوث الزهري وليس به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه زعم أن الزنيم الملحق النسب, وقال ابن أبي حاتم: حدثني يونس حدثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في هذه الاَية {عتل بعد ذلك زنيم} قال سعيد: هو الملصق بالقوم ليس منهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عقبة بن خالد عن عامر بن قدامة قال: سئل عكرمة عن الزنيم قال: هو ولد الزنا.
وقال الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى: {عتل بعد ذلك زنيم} قال: يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء, والزنماء من الشياه التي في عنقها هنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري عن جابر عن الحسن عن سعيد بن جبير قال: الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها والزنيم الملصق. رواه ابن جرير, وروي أيضاً من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الزنيم: نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم. قال وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها قال: وقال آخرون كان دعياً.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس عن أبيه عن أصحاب التفسير قالوا: هو الذي تكون له زنمة مثل زنمة الشاة, وقال الضحاك: كانت له زنمة في أصل أذنه ويقال: هو اللئيم الملصق في النسب, وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو المريب الذي يعرف بالشر, وقال مجاهد: الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة, وقال أبو رزين: الزنيم علامة الكفر, وقال عكرمة: الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها. والأقوال في هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس وغالباً يكون دعياً ولد زنا, فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره كما جاء في الحديث «لا يدخل الجنة ولد زنا» وفي الحديث الاَخر «ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه».
وقوله تعالى: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} يقول تعالى: هذه مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنه, وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً * وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهوداً * ومهدت له تمهيداً * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لاَياتنا عنيداً * سأرهقه صعوداً * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر}.
وقال تعالى ههنا: {سنسمه على الخرطوم} قال ابن جرير: سنبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم كما لا تخفى عليهم السمة على الخراطيم, وهكذا قال قتادة: {سنسمه على الخرطوم} شين لا يفارقه آخر ما عليه, وفي رواية عنه. سيما على أنفه, وكذا قال السدي وقال العوفي عن ابن عباس {سنسمه على الخرطوم} يقاتل يوم بدر فيخطم بالسيف في القتال.
وقال آخرون {سنسمه} سمة أهل النار يعني نسود وجهه يوم القيامة وعبر عن الوجه بالخرطوم. حكى ذلك كله أبو جعفر بن جرير, ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والاَخرة وهو متجه.
وقد قال ابن أبي حاتم في سورة {عم يتساءلون} حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني خالد بن سعيد عن عبد الملك بن عبد الله, عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد يكتب مؤمناً أحقاباً ثم أحقاباً ثم يموت والله عليه ساخط, وإن العبد يكتب كافراً أحقاباً ثم أحقاباً ثم يموت والله عليه راض, ومن مات همازاً لمازاً ملقباً للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين».