تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 84 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 84

84 : تفسير الصفحة رقم 84 من القرآن الكريم

** الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
يقول تعالى: {الرجال قوامون على النساء} أي الرجل قيم على المرأة, أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت, {بما فضل الله بعضهم على بعض} أي لأن الرجال أفضل من النساء, والرجل خير من المرأة, ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال, وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه, وكذا منصب القضاء وغير ذلك, {وبما أنفقوا من أموالهم} أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, فالرجل أفضل من المرأة في نفسه, وله الفضل عليها والإفضال, فناسب أن يكون قيما عليها, كما قال الله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} الاَية, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {الرجال قوامون على النساء} يعني أمراء, عليها أن تطيعه فيما أمرها به من طاعته, وطاعته أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله, وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك. وقال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القصاص», فأنزل الله عز وجل {الرجال قوامون على النساء} الاَية, فرجعت بغير قصاص, ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه, وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي, أورد ذلك كله ابن جرير, وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال: حدثنا أحمد بن علي النسائي, حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي, حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد, قال: حدثنا أبي عن جدي, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي, قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له, فقالت: يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس له ذلك» فأنزل الله تعالى {الرجال قوامون على النساء} أي في الأدب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أردت أمراً وأراد الله غيره». وقال الشعبي في هذه الاَية {الرجال قوامون على النساء بمافضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} قال: الصداق الذي أعطاها, ألا ترى أنه لو قذفها لا عنها, ولو قذفته جلدت. وقوله تعالى, {فالصالحات} أي من النساء {قانتات} قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن {حافظات للغيب} وقال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وقوله {بما حفظ الله} أي المحفوظ من حفظه الله. قال ابن جرير حدثني المثني, حدثنا أبو صالح, حدثنا أبو معشر, حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك, وإذا أمرتها أطاعتك, وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك» قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {الرجال قوامون على النساء} إلى آخرها, ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن حبيب, عن أبي داود الطيالسي, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب, عن سعيد المقبري به, مثله سواء. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن عُبيد الله بن أبي جعفر: أن ابن قارظ أخبره أن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحفظت فرجها, وأطاعت زوجها, قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت» تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف. وقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن} أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن, والنشوز هو الارتفاع, فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها, التاركة لأمره, المعرضة عنه, المبغضة له, فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه, فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد, لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها», وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح», ورواه مسلم, ولفظه «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح», ولهذا قال تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن}. وقوله {واهجروهن في المضاجع} قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: الهجر هو أن لا يجامعها, ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره, وكذا قال غير واحد. وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية: ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها. وقال علي بن أبي طلحة أيضاً عن ابن عباس: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع, ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها, وذلك عليها شديد. وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة: الهجر هو أن لا يضاجعها. وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد, عن أبي حُرة الرقاشي, عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع» قال حماد: يعني النكاح. وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه ؟ قال «أن تطعمها إذا طعمت, وتكسوها إذا اكتسيت, ولا تضرب الوجه, ولا تقبح, ولا تهجر إلا في البيت». وقوله: {واضربوهن}, أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران, فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبرح, كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع «واتقوا الله في النساء, فإنهن عندكم عوان, ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه, فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح, ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وكذا قال ابن عباس وغير واحد: ضرباً غير مبرح, قال الحسن البصري: يعني غير مؤثرو قال الفقهاء: هو أن لا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيئاً, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يهجرها في المضجع, فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح, ولا تكسر لها عظماً, فإن أقبلت وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية. وقال سفيان بن عيينة عن الزهري, عن عبد الله بن عبد الله بن عمر, عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذئرت النساء على أزواجهن, فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن, فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود يعني أبا داود الطيالسي, حدثنا أبو عوانة عن داود الأودي, عن عبد الرحمن السلمي, عن الأشعث بن قيس, قال: ضفت عمر رضي الله عنه, فتناول امرأته فضربها, فقال: يا أشعث, احفظ عني ثلاثاً حفظتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته, ولا تنم إلا على وتر, ونسي الثالثة, وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أبي عوانة, عن داود الأودي به. وقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيل} أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها, فلا سبيل له عليها بعد ذلك, وليس له ضربها ولا هجرانها. وقوله {إن الله كان علياً كبير} تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب, فإن الله العلي الكبير وليهن, وهو ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.

** وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
ذكر الحال الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة. ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور)من الزوجين, فقال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهله} وقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين, أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم, فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما, بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق, وتشوف الشارع إلى التوفيق, ولهذا قال تعالى: {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهم} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله عز وجل أن يبثعوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل,. ورجلاً مثله من أهل المرأة, فينظران أيهما المسيء, فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة, وإن كانت المرأة هي المسيئة, قصروها على زوجها ومنعوها النفقة, فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا, فأمرهما جائز, فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الاَخر, ثم مات أحدهما, فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس, عن عكرمة بن خالد, عن ابن عباس, قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين, قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما, وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا, وقال: أنبأنا ابن جريج, حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ؟ فقالت: تصير إلي وأنفق عليك, فكان إذا دخل عليها قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟, فقال: على يسارك في النار إذا دخلت, فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك, فضحك, فأرسل ابن عباس ومعاوية, فقال ابن عباس, لأفرقن بينهما, فقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف, فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا, وقال عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: شهدت علياً وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس , فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكماً, فقال علي للحكمين: أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما, فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي, وقال الزوج: أما الفرقة فلا, فقال علي: كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك, رواه ابن أبي حاتم, ورواه ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب, عن ابن سيرين, عن عبيدة, عن علي مثله, ورواه من وجه آخر عن ابن سيرين, عن عبيدة عن علي به, وقد أجمع جمهور العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة حتى قال إبراهيم النخعي: إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا, وهو رواية عن مالك, وقال الحسن البصري: الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة, وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم, وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود, ومأخذهم قوله تعالى: {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهم} ولم يذكر التفريق, وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف, وقد اختلف الأئمة في الحكمين, هل هما منصوبان من جهة الحاكم, فيحكمان وإن لم يرض الزوجان . أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين والجمهور على الأول, لقوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهله} فسماهما حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه, وهذا ظاهر الاَية, والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه, الثاني منهما بقول علي رضي الله عنه للزوج حين قال: أماالفرقة فلا, قال: كذبت حتى تقر بما أقرت به, قالوا: فلو كانا حاكمين لماافتقر إلى إقرار الزوج, والله أعلم, قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الاَخر, وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان, واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة, ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضاً من غير توكيل.

** وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له, فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الاَنات والحالات, فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل «أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال: الله ورسوله أعلم, قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً», ثم قال: «أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ أن لا يعذبهم» ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين, فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيراً ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين, كقوله {أن اشكر لي ولوالديك}, وكقوله {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسان} ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث «الصدقة على المسكين صدقة, وعلى ذي الرحم صدقة وصلة», ثم قال تعالى: {واليتامى} وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال {والمساكين} وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم, فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم وسيأتي الكلام على الفقير والمكسين في سورة براءة, وقوله {والجار ذي القربى والجار الجنب} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {والجار ذي القربى}, يعني الذي بينك وبينه قرابة, {والجار الجنب} الذي ليس بينك وبينه قرابة, وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم مقاتل بن حيان وقتادة, وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله: والجار ذي القربى : يعني الجار المسلم, والجار الجنب يعني اليهودي و النصراني, رواه ابن جرير وابن أبي جاتم, وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود: والجار ذي القربى يعني المرأة وقال مجاهد أيضاً في قوله: والجار الجنب يعني الرفيق في السفر, وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار, فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عمر بن محمد بن زيد أنه سمع أباه محمداً يحدث عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرجاه في الصحيحين من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به.
(الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن داود بن شابور, عن مجاهد, عن عبد الله بن عَمْرو, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث سفيان بن عيينة, عن بشير أبي إسماعيل, زاد الترمذي: وداود بن شابور, كلاهما عن مجاهد به, ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه, وقد روى عن مجاهد عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(والحديث الثالث) قال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن يزيد, أخبرنا حيوة, أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد, عن عبد الله بن المبارك, عن حيوة بن شريح به, وقال حسن غريب.
(الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا سفيان عن أبيه, عن عباية بن رفاعة, عن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يشبع الرجل دون جاره», تفرد به أحمد.
(الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان, حدثنا محمد بن سعد الأنصاري, سمعت أبا ظبية الكلاعي, سمعت المقداد بن الأسود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «ما تقولون في الزنا ؟» قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره», قال «ما تقولون في السرقة ؟» قالوا: حرمها الله ورسوله, فهي حرام, قال «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» تفرد به أحمد, وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت : يا رسول الله, أي الذنب أعظم ؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قلت: ثم أي ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت ثم أي ؟ قال «أن تزاني حليلة جارك».
(الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا هشام عن حفصة, عن أبي العالية, عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم , فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه, فظننت أن لهما حاجة, قال الأنصاري: لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام, فلما انصرف قلت: يا رسول ا لله, لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. قال: «ولقد رأيته ؟» قلت: نعم. قال «أتدري من هو ؟». قلت: لا, قال «ذاك جبريل, ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» ثم قال «أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام».
(الحديث السابع) قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يعلى بن عبيد, حدثنا أبو بكر يعني المدني, عن جابر بن عبد الله, قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم, وجبريل عليه السلام, يصليان حيث يصلى على الجنائز, فلما انصرف قال الرجل: يا رسول الله, من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال «وقد رأيته ؟» قال: نعم. قال «لقد رأيت خيرا كثيراً, هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه», تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.
(الحديث الثامن) قال أبو بكر البزار: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي, حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك, أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني, عن الحسن, عن جابر بن عبد الله, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجيران ثلاثة: جار له حق واحد, وهو أدنى الجيران حقاً, وجار له حقان, وجار له ثلاثة حقوق, وهو أفضل الجيران حقاً, فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له, له حق الجوار, وأما الذي له حقان فجار مسلم, له حق الإسلام وحق الجوار, وأماالذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم» قال البزار: لا نعلم أحداً روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك.
(الحديث التاسع) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران, عن طلحة بن عبد الله, عن عائشة, أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال «إلى أقربهما منك بابا», ورواه البخاري من حديث شعبة به,
(الحديث العاشر) روى الطبراني وأبو نعيم عن عبد الرحمن, فزاد: قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه, فقال «ما يحملكم على ذلك» ؟ قالوا: حب الله ورسوله. قال «من سره أن يحب الله ورسوله فليصدق الحديث إذا حدث, وليؤد الأمانة إذا ائتمن».
(الحديث الحادي عشر) قال أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول خصمين يوم القيامة جاران» وقوله تعالى: {والصاحب بالجنب} قال الثوري, عن جابر الجعفي, عن الشعبي, عن علي وابن مسعود, قالا: هي المرأة, وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات, نحو ذلك, وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: هو الرفيق في السفر, وقال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح, وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر, وأما ابن السبيل, فعن ابن عباس وجماعة: هو الضيف, وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل: هو الذي يمر عليك مجتازاً في السفر, وهذا أظهر, وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق, فهما سواء, وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة, وبالله الثقة وعليه التكلان. وقوله تعالى: {وما ملكت أيمانكم} وصية بالأرقاء, لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس, فلهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت, يقول «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه, وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس, حدثنا بقية, حدثنا بَحير بن سعد عن خالد بن معدان, عن المقدام بن معد يكرب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة, وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة, وما أطعمت زوجتك فهولك صدقة, وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة» ورواه النسائي من حديث بقية, وإسناده صحيح, ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم» رواه مسلم. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للمملوك طعامه وكسوته, ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» رواه مسلم أيضاً وعن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين, أو أكلة أو أكلتين, فإنه ولي حره وعلاجه» أخرجاه, ولفظه للبخاري ولمسلم «فليقعده معه فليأكل, فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً, فليضع في يده أكلة أو أكلتين». وعن أبي ذر رضي الله عنه,. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل, وليلبسه مما يلبس, ولا تكلفوهم ما يغلبهم, فإن كلفتموهم فأعينوهم» أخرجاه, وقوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخور}, أي مختالا في نفسه, معجبا متكبراً فخورا على الناس, يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير, وهو عند الله حقير, وعند الناس بغيض, قال مجاهد في قوله {إن الله لا يحب من كان مختال} يعني متكبراً {فخور} يعني يَعُدّ ما أعطى, وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه, وهو قليل الشكر لله على ذلك, وقال ابن جرير: حدثني القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن كثير, عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي, قال: لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخوراً, وتلا {وما ملكت أيمانكم} الاَية, ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً, وتلا {وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقي}, وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور, وقال: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان, حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير, قال: قال مطرف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه, فلقيته, فقلت: يا أبا ذر, بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم «إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» ؟ فقال: أجل, فلا إخالني, أكذب على خليلي ثلاثا ؟ قلت: من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال: المختال الفخور. أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل, ثم قرأ الاَية {إن الله لا يحب من كان مختالا فخور}, وحدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا وهيب بن خالد, عن أبي تميمة عن رجل من بَلْهُجَم, قال: قلت: يا رسول الله, أوصني, قال «إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة, وإن الله لا يحب المخيلة».