تفسير الطبري تفسير الصفحة 84 من المصحف

 تفسير الطبري - صفحة القرآن رقم 84
085
083
 الآية : 34
القول في تأويل قوله تعالى: {الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساء}: الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن, فيما يجب عليهنّ لله ولأنفسهم¹ {بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}: يعني بما فضل الله به الرجال على أزواجهم من سوقهم إليهنّ مهورهنّ, وإنفاقهم عليهنّ أموالهم, وكفايتهم إياهن مؤنهن. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهنّ عليهن, ولذلك صاروا قوّاما عليهنّ, نافذي الأمر عليهنّ فيما جعل الله إليهم من أمورهنّ.
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7451ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} يعني: أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته, وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله وفضله عليها بنفقته وسعيه.
7452ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْض} يقول: الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة الله, فإن أبت, فله أن يضربها ضربا غير مبرّح, وله عليها الفضل بنفقته وسعيه.
7453ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {الرّجالُ قَوّامونَ على النّساءِ} قال: يأخذون على أيديهن ويؤدبونهنّ.
7454ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: سمعت سفيان, يقول: {بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} قال: بتفضيل الله الرجال على النساء.
وذكر أن هذه الاَية نزلت في رجل لطم امرأته, فخوصم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك, فقضى لها بالقصاص. ذكر من قال ذلك:
7455ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: حدثنا الحسن: أن رجلاً لطم امرأته, فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأراد أن يقصها منه, فأنزل الله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النساءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم, فتلاها عليه وقال: «أرَدْتُ أمْرا وأرَادَ اللّه غَيْرَهُ».
7456ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} ذكر لنا أن رجلاً لطم امرأّه, فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} قال: صكّ رجل امرأته, فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأراد أن يقيدَها منه, فأنزل الله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ}.
7457ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن جرير بن حازم, عن الحسن, أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته, فجاءت تلتمس القصاص, فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص, فنزلت: قوله: {وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْل أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ} ونزلت: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ بِمعا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْض}.
7458ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: لطم رجل امرأته, فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم القصاص, فبينما هم كذلك, نزلت الاَية.
7459ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, أما: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} فإن رجلاً من الأنصار كان بينه وبين امرأته كلام, فلطمها, فانطلق أهلها, فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم, فأخبرهم: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ}... الاَية.
وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.
7460ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, سمعت الزهري, يقول: لو أن رجلاً شجّ امرأته, أو جرحها, لم يكن عليه في ذلك قود وكان عليه العقل, إلا أن يعدو عليها فيقتلها, فيقتل بها.
وأما قوله: {وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} فإنه يعني: وبما ساقوا إليهنّ من صداق, وأنفقوا عليهن من نفقة. كما:
7461ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: فضله علها بنفقته وسعيه.
7462ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, مثله.
7463ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: سمعت سفيان يقول: {وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} بما ساقوا من المهر.
فتأويل الكلام إذًا: الرجال قوّامون على نسائهم بتفضيل الله إياهم عليهنّ وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم. و«ما» التي في قوله: {بِمَا فَضّلَ اللّهُ} والتي في قوله: {وبِمَا أنْفَقُو} في معنى المصدر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للْغَيْب بِما حَفِظَ اللّهُ}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فالصّالِحاتُ}: المستقيمات الدين, العاملات بالخير. كما:
7464ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: حدثنا عبد الله بن المبارك, قال: سمعت سفيان, يقول: فالصالحات يعملن بالخير.
وقوله: {قانِتاتٌ} يعني: مطيعات لله ولأزواجهن. كما:
7465ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قوله: {قانِتاتٌ} قال: مطيعات.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {قانِتاتٌ} قال: مطيعات.
7466ـ حدثني عليّ عن داود, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {قانِتاتٌ}: مطيعات.
7467ـ حدثنا الحسن بن معاذ, قال: ثا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {قانِتاتٌ}: أي مطيعات لله ولأزواجهنّ.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: مطيعات.
7468ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: القانتات: المطيعات.
7469ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: سمعت سفيان يقول في قوله: {قانِتاتٌ} قال: مطيعات لأزواجهن.
وقد بينا معنى القنوت فيما مضى وأنه الطاعة, ودللنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته.
وأما قوله: {حافِظاتٌ للغَيْب} فإنه يعني: حافظات لأنفسهنّ عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ في فروجهن وأموالهم, وللواجب عليهنّ من حقّ الله في ذلك وغيره. كما:
7470ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {حافِظاتٌ للغَيْبِ} يقول: حافِظات لما استودعهنّ الله من حقه, وحافظات لغيب أزواجهن.
7471ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: {حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمعا حَفِظَ اللّهُ} يقول: تحفظ على زوجها ماله وفرجها, حتى يرجع كما أمرها الله.
7472ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء: ما قوله: {حافِظاتٌ للغَيْبِ}؟ قال: حافظات للزوج.
حدثني زكريا بن يحيـى بن أبي زائدة, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: سألت عطاء, عن{حافِظاتٌ للغَيْبِ} قال: حافظات للأزواج.
7473ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: سمعت سفيان يقول: {حافِظاتٌ للغَيْبِ}: حافظات لأزواجهن لما غاب من شأنهنّ.
7474ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا أبو معشر, قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النّساءِ امْرأةٌ إذَا نَظَرْتَ إلَيْها سَرّتْكَ, وإذَا أمَرْتَها أطاعَتْكَ, وَإذَا غِبْتَ عَنْها حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِها وَمالِكَ» قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ}... الاَية.
قال أبو جعفر: وهذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك, وأن معناه: صالحات في أديانهنّ, مطيعات لأزواجهنّ, حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم.
وأما قوله: {بِمَا حَفظَ اللّهُ} فإن القرّاء اختلفت في قراءته, فقرأته عامة القراء في جميع أمصار الإسلام: {بِما حَفِظَ اللّهُ} برفع اسم الله على معنى: بحفظ الله إياهنّ إذ صيرهن كذلك. كما:
7475ـ حدثني زكريا بن يحيـى بن أبي زائدة, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جريج: سألت عطاء, عن قوله: {بِمَا حَفِظَ اللّهُ} قال: يقول: حفظهنّ الله.
7476ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: سمعت سفيان يقول في قوله: {بِمَا حَفِظَا اللّهُ} قال: بحفظ الله إياها أنه جعلها كذلك.
وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني: «بِمَا حَفِظَ اللّهَ» يعني: بحفظهنّ الله في طاعته, وأداء حقه بما أمرهنّ من حفظ غيب أزواجهنّ, كقول الرجل للرجل: ما حفظت الله في كذا وكذا, بمعنى: راقبته ولاحظته.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما جاءت به قراءة المسلمين من القراءة مجيئا يقطع عذر من بلغه ويثبت عليه حجته, دون ما انفرد به أبو جعفر فشذّ عنهم, وتلك القراءة ترفع اسم الله تبارك وتعالى: {بِمَا حَفِظَ اللّهُ} مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب, وقبح نصبه في العربية لخروجه عن المعروف من منطق العرب. وذلك أن العرب لا تحذف الفاعل مع المصادر من أجل أن الفاعل إذا حذف معها لم يكّن للفعل صاحب معروف. وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره ومعناه: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْب بِمَا حَفِظَ اللّهُ} فأحسنوا إليهنّ وأصلحوا, وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود.
7477ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, قال: حدثنا عيسى الأعمي, عن طلحة بن مصرف, قال: في قراءة عبد الله: «فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ للْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ فأصلحوا إليهنّ واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ».
7478ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} فأحسنوا إليهنّ.
7479ـ حدثني عليّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} فأصلحوا إليهنّ.
حدثني عليّ بن داود, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} يعني إذا كنّ هكذا, فأصلحوا إليهنّ.
القول في تأويل قوله: {واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ فعظُوهُنّ}.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ} فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهنّ. ووجه صرف الخوف في هذا الموضع إلى العلم في قول هؤلاء نظير صرف الظنّ إلى العلم لتقارب معنييهما, إذ كان الظنّ شكا, وكان الخوف مقرونا برجاء, وكانا جميعا من فعل المرء بقلبه, كما قال الشاعر:
وَلا تَدْفِنَنّـي فِي الفَلاةِ فانّنِيأخافُ إذَا ما مِتّ أنْ لا أذُوقُها
معناه: فإنني أعلم, وكما قال الاَخر:
أتانِي كَلامٌ عَنْ نُصَيْب يَقُولُهُوَما خِفْتُ يا سَلاّمُ أنّكَ عائِبي
بمعنى: وما ظننت.
وقال جماعة من أهل التأويل: معنى الخوف في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف الرجاء. قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه, ويدخلن ويخرجن, واستربتم بأمرهنّ, فعظوهنّ واهجروهنّ. وممن قال ذلك محمد بن كعب.
وأما قوله: {نُشُوزَهُنّ} فإنه يعني: استعلاءهنّ على أزواجهنّ, وارتفاعهنّ عن فرشهم بالمعصية منهنّ, والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه, بغضا منهنّ وإعراضا عنهم وأصل النشوز الارتفاع, ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نَشْز ونَشَاز. {فَعِظُوهُنّ} يقول: ذكروهنّ الله, وخوفوهنّ وعيده في ركوبها ما حرّم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال: النشوز: البغض ومعصية الزوج:
7480ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} قال: بعضهنّ.
7481ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} قال: التي تخاف معصيتها. قال: النشوز: معصيته وخلافه.
7482ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {واللاّتي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} تلك المرأة تنشز وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره.
7483ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, حدثنا روح, قال: حدثنا ابن جريج, قال: قال عطاء: النشوز: أن تحب فراقه, والرجل كذلك. ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله: {فَعِظُوهُنّ}:
7484ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {فَعِظُوهنّ} يعني: عظوهن بكتاب الله, قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكرها الله ويعظم حقه عليها.
7485ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {واللاّتي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ} قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها: اتقي الله وارجعي إلى فراشك, فإن أطاعته فلا سبيل له عليها.
7486ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن يونس, عن الحسن, قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه, يقول: يأمرها بتقوى الله وطاعته.
7487ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي, قال: إذا رأى الرجل خفّة في بصرها في مدخلها ومخرجها, قال: يقول لها بلسانه: قد رأيت منك كذا وكذا فانتهى! فإن أعَتَبتْ فلا سبيل له عليها, وإن أبت هجر مضجعها.
حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {فَعِطُوهُنّ} قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها, فإنه يقول لها: اتقي الله وارجعي.
7488ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عطاء: {فَعِظُوهُنّ} قال: بالكلام.
7489ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, قوله: {فَعِظُوهُنّ} قال بالألسنة.
7490ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو بن أبي قيس, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: {فَعِظُوهُنّ} قال: عظوهن باللسان.
القول في تأويل قوله تعالى: {واهْجُروهُنّ فِي المَضَاجِع}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم أيها الأزواج, فإن أبين مراجعة الحق في ذلك والواجب عليهم لكم, فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن. ذكر من قال ذلك:
7491ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {فَعِظُوهُنّ واهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} يعني: عظوهن, فإن أطعنكم وإلا فاهجروهن.
7492ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} يعني بالهجران أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها.
7493ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: الهجر: هجر الجماع.
7494ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: أما {تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} فإن على زوجها أن يعظها, فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع. يقول: يرقد عندها ويوليها ظهره, ويطؤها ولا يكلمها. هكذا في كتابي: «ويطؤها ولا يكلمها».
7495ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} قال: يضاجعها ويهجر كلامها ويوليها ظهره.
حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} قال: لا يجامعها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجروهن واهجروا كلامهن في تركهنّ مضاجعتكم, حتى يرجعن إلى مضاجعتكم. ذكر من قال ذلك:
7496ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب, قالا: حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله, عن أبي الضحى, عن ابن عباس في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} أنها لا تترك في الكلام, ولكن الهجران في أمر المضجع.
7497ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, قال: حدثنا أبو حمزة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ} يقول: حتى يأتين مضاجعكم.
7498ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ}: في الجماع.
7499ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ} قال: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها, وذلك عليها شديد.
7500ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: أخبرنا شريك, عن خصيف, عن عكرمة: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} الكلام والحديث.
.... ذكر من قال ذلك:
7501ـ حدثني الحسن بن زريق الطهوى, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن منصور, عن مجاهد في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجع} قال: لا تضاجعوهنّ.
7502ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي, قال: الهجران أن لايضاجعها.
7503ـ وبه قال حدثنا جرير, عن مغيرة, عن عامر وإبراهيم, قالا: الهجران في المضجع أن لا يضاجعها على فراش.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم والشعبي, أنهما قالا في قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قالا: يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحبّ.
حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم والشعبي أنهما كانا يقولان: {وَاهْجُرُوهُن في المَضاجِعِ} قال: يهجرها في المضجع.
7504ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا حبان, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن مقسم: {وَاهْجُروهُنّ في المَضاجِعِ} قال: هجرها في مضجعها: أن لا يقرب فراشها.
7505ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي, قال: اهجروهنّ في المضاجع, قال: يعظها بلسانه, فإن أعتبتْ فلا سبيل له عليها, وإن أبت هجر مضجعها.
7506ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: {فَعِظُوهُنّ واهْجُرُوهُنّ} قالا: إذا خاف نشوزها وعظها, فإن قبلت وإلا هجر مضجعها.
7507ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قال: تبدأ يا ابن آدم فتعظها, فإن أبت عليك فاهجرها, يعني به: فراشها.
وقال آخرون: معنى قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قولوا لهنّ من القول هُجْرا في تركهنّ مضاجعتكم. ذكر من قال ذلك:
7508ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن رجل, عن أبي صالح عن ابن عباس, في قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قال: يهجرها بلسانه, ويغلظ لها بالقول, ولا يدع جماعها.
7509ـ وبه قال: أخبرنا الثوري, عن خصيف, عن عكرمة, قال: إنما الهجران بالمنطق أن يغلظ لها, وليس بالجماع.
7510ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا مغيرة, عن أبي الضحى, في قوله: {واهْجُرُهُنّ في المَضاجِعِ} قال: يهجر بالقول, ولا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد.
7511ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن رجل, عن الحسن, قال: لا يهجرها إلا في المبيت في المضجع, ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش.
7512ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: ثني يعلى, عن سفيان, في قوله: {واهْجُرُهُنّ في المَضاجِعِ} قال: في مجامعتها, ولكن يقول لها: تعالَيْ وافعلي! كلاما فيه غلظة, فإذا فعلت ذلك فلا يكلفها أن تحبه, فإن قلبها ليس في يديها.
ولا معنى للهجر في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة أوجه: أحدها هجر الرجل كلام الرجل وحديثه, وذلك رفضه وتركه, يقال منه: هجر فلان أهله يهجُرها هجرا وهجرانا. والاَخر: الإكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازيء, يقال منه: هجر فلان في كلامه يهجُر هجرا إذا هَذَي ومدّد الكلمة, وما زالت تلك هِجّيراه وإهْجِيراه, ومنه قول ذي الرمة:
رمى فأخْطَأ والأقْدارُ غالِبَةٌفانْصَعْنَ والوَيْلُ هِجّيراهُ والحَربُ
والثالث: هَجَرَ البعير إذا ربطه صاحبه بالهِجَار, وهو حبل يربط في حُقويها ورسغها, ومنه قول امرىء القيس:
رأتْ هَلَكا بِنِجَافِ الغَبِيطِفَكادَتْ تَجُدّ لِذَاك الهِجارَا
فأما القول الذي فيه الغلظة والأذى فإنما هو الإهجار, ويقال منه: أهجر فلان في منطقه: إذا قال الهُجْرَ وهو الفحش من الكلام, يُهْجِرُ إهجارا وهُجْرا. فإذ كان لا وجه للهَجْر في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة, وكانت المرأة المخوف نشوزها إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه, فغير جائز أن تكون عظته لذلك, ثم تصير المرأة إلى أمر الله وطاعة زوجها في ذلك, ثم يكون الزوج مأمورا بهجرها في الأمر الذي كانت عظته إياها عليه. وإذ كان ذلك كذلك بطل قول من قال: معنى قوله: {واهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ} وَاهجروا جماعهنّ. أو يكون إذ بطل هذا المعنى. بمعنى: واهجروا كلامهنّ بسبب هجرهنّ مضاجعكم, وذلك أيضا لا وجه له مفهوم لأن الله تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. على أن ذلك لو كان حلالاً لم يكن لهجرها في الكلام معنى مفهوم, لأنها إذا كانت عنه منصرفة وعليه ناشزا فمن سرورها أن لا يكلمها ولا يراها ولا تراه, فكيف يؤمر الرجل في حال بغض امرأته إياه وانصرافها عنه بترك ما في تركه سرورها من ترك جماعها ومجاذبتها وتكليمها, وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته إذا دعاها إلى فراشه, وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه؟ أو يكون إذ فسد هذان الوجهان يكون معناه: واهجروا في قولكم لهم, بمعنى: ردّوا عليهنّ كلامكم إذا كلمتموهنّ بالتغليظ لهنّ, فإن كان ذلك معناه, فلا وجه لإعمال الهجر في كناية أسماء النساء الناشزات, أعني في الهاء والنون من قوله {وَاهْجُرُوهُنّ}, لأنه إذا أريد به ذلك المعنى, كان الفعل غير واقع, إنما يقال: هجر فلان في كلامه ولا يقال: هجر فلان فلانا.
فإذا كان في كل هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق, فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يكون قوله: {وَهْجُرُوهُنّ} موجها معناه إلى معنى الربط بالهجار على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا: هَجَرَه فهو يهجره هَجْرا. وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام: واللاتي تخافون نشزوهنّ, فعظوهنّ في نشوزهنّ عليكم, فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهنّ, وإن أبين الأوبة من نشوزهنّ فاستوثقوا منهنّ رباطا في مضاجعهنّ, يعني في منازلهنّ وبيوتهنّ التي يضطجعن يها ويضاجعن فيها أزواجهن. كما:
7513ـ حدثني عباس بن أبي طالب, قال: حدثنا يحيـى بن أبي بكير, عن شبل, قال: سمعت أبا قزعة يحدث عن عمرو بن دينار, عن حكيم بن معاوية, عن أبيه: أنه جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: «يُطْعِمُها وَيَكْسُوها, وَلا يَضْرِبِ الوَجْهَ وَلا يُقْبّحْ وَلا يَهْجُرْ إلاّ فِي البيت».
حدثنا الحسن بن عرفة, قال: حدثنا يزيد, عن شعبة بن الحجاج, عن أبي قزعة, عن حكيم بن معاوية عن أبيه, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, نحوه.
7514ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا بهز بن حكيم, عن جده, قال: قلت: يا رسول الله, نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «حَرْثُكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أنّى شِئْتَ, غيرَ أنْ لا تَضْرِبَ الوَجْهَ وَلا تُقَبّحْ وَلا تَهْجُرْ إلاّ فِي البيت وأطْعِمْ إذَا طَعِمْتَ واكْسُ إذَا اكْتَسَيْتَ¹ كَيْفَ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلا بَعْض إلاّ بِمَا حَلّ عَلَيْها؟».
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك, قال عدة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7515ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن الحسن, قال: إذا نشزت المرأة على زوجها, فليعظها بلسانه, فإن قبلت فذاك وإلا ضربها ضربا غير مبرّح, فإن رجعت فذاك, وإلا فقد حلّ له أن يأخذ منها ويخليها.
7516ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن الحسن بن عبيد الله, عن أبي الضحى, عن ابن عباس في قوله: {وَاهْجُرُهُنّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ} قال: يفعل بها ذاك ويضربها حتى تطيعه في المضاجع, فإذا أطاعته في المضجع فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.
7517ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا يحيـى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ} ضربا غير مبرّج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اضْرِبُوهُنّ إذَا عَصَيْنَكُمْ فِي المَعْرُوفِ ضَرْبا غيرَ مُبَرّح».
قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا قولهم لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب, ولم يوجبوا هجرا إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر بضربهنّ إذا عصين أزواجهنّ في المعروف من غير أمر منه أزواجهنّ بهجرهنّ لما وصفنا من العلة.
فإن ظنّ ظانّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي رواه عكرمة, ليس كما قلنا, وصحّ أن ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بهجر زوجته إذا عصيته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر, لو كان دليلاً على صحة ما قلنا من أن معنى الهجر هو ما بيناه, لوجب أن يكون لا معنى لأمر الله زوجها أن يعظها إذا هي نشزت, إذ كان لا ذكر للعظة في خبر عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ¹ وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا عَصيْنَكُمْ في المَعْروفِ» دلالة بينة أنه لم يبح للرجل ضرب زوجته إلا بعد عظتها من نشزوها, وذلك أنه لا تكون له عاصية, إلا وقد تقدم منه لها أمر أو عظة بالمعروف على ما أمر الله تعالى ذكره به.
القول في تأويل قوله تعالى: {واضْرِبُوهُنّ}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فعظوهنّ أيها الرجال في نشزوهنّ, فإن أبين الأياب إلى ما يلزمهنّ لكم فشدّوهنّ وثاقا في منازلهنّ, واضربوهنّ ليؤبن إلى الواجب عليهنّ من طاعة الله في اللازم لهنّ من حقوقكم. قول أهل التأويل: صفة الضرب التي أبام الله لزوج الناشز أن يضربها الضرب غير المبرّح. ذكر من قال ذلك:
7518ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيـى بن واضح, قال: أخبرنا أبو حمزة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, مثله.
7519ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي, قال: الضرب غير المبرّح.
7520ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: {واضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.
7521ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} واضربوهنّ, قال: تهجرها في المضجع, فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرّح, ولا تكسر لها عظما, فإن أقبلت, وإلا فقد حلّ لك منها الفدية.
7522ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن وقتادة في قوله: {واضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.
7523ـ وبه قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قال: قلت لعطاء: {واضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.
7524ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنّ} قال: تهجرها في المضجع, فإن أبت عليك فاضربها ضربا غير مبرّح¹ أي غير شائن.
7525ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن جرج, عن عطاء, قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح, قال: السواك وشبهه يضربها به.
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ, قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّج؟ قال: بالسواك ونحوه.
7526ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا حبان بن موسى, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: أخبرنا ابن عيينة, عن ابن جريج, عن عطاء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: «ضَرْبا غيرَ مُبَرّحٍ» قال: السواك ونحوه.
7527ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَهْجُرُوا النّساءَ إلاّ فِي المَضَاجِعِ, وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبا غيرَ مُبَرّحٍ» يقول: غير مؤثر.
7528ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عطاء: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.
7529ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا حبان, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: حدثنا يحيـى بن بشر, عن عكرمة مثله.
7530ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: إن أقبلت في الهجران, وإلا ضَرَبها ضربا غير مبرّح.
7531ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب, قال: تهجر مضجعها ما رأيت أن تنزع, فإن لم تنزع ضربها ضربا غير مبرّح.
7532ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن يونس, عن الحسن: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.
حدثني المثنى, قال: حدثنا حبان, قال: حدثنا ابن المبارك, قال: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد, عن رجل, عن الحسن, قال: ضربا غير مبرّح, غير مؤثر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيل}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن أطعنكم أيها الناس نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهنّ عند وعظكم إياهنّ فلا تهجروهنّ في المضاجع, فإن لم يطعنكم فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ, فإن راجعن طاعتكم عند ذلك وفئن إلى الواجب عليهنّ, فلا تطلبوا طريقا إلى أذاهنّ ومكروههنّ, ولا تلتمسوا سبيلاً إلى ما لا يحلّ لكم من أبدانهنّ وأموالهنّ بالعلل, وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة: إنك لست تحبيني وأنت لي مبغضة, فيضربها على ذلك أو يؤذيها, فقال الله تعالى للرجال: {فإنْ أطَعْنَكُمْ}: أي على بغضهن لكم فلا تجنوا عليهنّ, ولا تكلفوهنّ محبتكم, فإن ذلك ليس بأيديهنّ فتضربوهنّ أو تؤذوهنّ عليه. ومعنى قوله: {فَلا تَبْغو}: لا تلتمسوا ولا تطلبوا, من قول القائل: بغيت الضالة: إذا التمستها, ومنه قول الشاعر في صفة الموت:
بَغاكَ وَما تَبْغِيهِ حتى وَجَدْتَهُكأنّكَ قدْ وَاعَدْتَهُ أمسِ مَوْعِدا
بمعنى: طلبك وما تطلبه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7533ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية بن صالح, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, في قوله: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهنّ سَبيل} قال: إذا أطاعتك فلا تتجنّ عليها العلل.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن الحسن بن عبيد الله, عن أبي الضحى, عن ابن عباس, قال: إذا أطاعته فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.
7534ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جريج, قوله: {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيل} قال: العلل.
7535ـ وقال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: قال الثوري في قوله: {فإنْ أطَعْنَكُمْ} قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه.
7536ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا يعلي, عن سفيان, قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه, لأن قلبها ليس في يديها.
7537ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: إن أطاعته فضاجعته, فإن الله يقول: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيل}.
7538ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيل} يقول: فإن أطاعتك فلا تبغ عليها العلل.
القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّهَ كانَ عَليّا كَبِير}.
يقول: إن الله ذو علوّ على كلّ شيء, فلا تبغوا أيها الناس على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهنّ الله لكم من حقّ سبيلاً لعلوّ أيديكم على أيديهنّ, فإن الله أعلى منكم ومن كلّ شيء, وأعلى منكم عليهن, وأكبر منكم ومن كل شيء, وأنتم في يده وقبضته, فاتقوا الله أن تظلموهنّ وتبغوا عليهنّ سبيلاً وهن لكم مطيعات, فينتصر لهنّ منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء, وأكبر منكم ومن كلّ شيء.
الآية : 35
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }..
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِم} وإن علمتم أيها الناس شقاق بينهما, وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه, وهو إتيانه ما يشقّ عليه من الأمور, فأما من المرأة فالنشوز, وتركها أداء حقّ الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها¹ وأما من الزوج فتركه إمساكها بالمعروف, أو تسريحها بإحسان. والشقاق: مصدر من قول القائل: شاق فلان فلانا: إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشقّ عليه من الأمور, فهو يشاقه مشاقة وشقاقا¹ وذلك قد يكون عداوة, كما:
7539ـ حدثنا محمد بن الحسن, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِم} قال: إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقّته, يقول: عادته.
وإنما أضيف الشقاق إلى البين, لأن البين قد يكون اسما, كما قال جلّ ثناؤه: «لَقدْ تقطّعَ بَيْنُكُمْ» في قراءة من قرأ ذلك.
وأما قوله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وحَكَما مِنْ أهْلِه} فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الاَية من المأمور ببعثة الحكمين, فقال بعضهم: المأمور بذلك: السلطان الذي يرفع ذلك إليه. ذكر من قال ذلك:
7540ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا أيوب, عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها, فإن انتهت وإلا هجرها, فإن انتهت وإلا ضربها, فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان, فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها, فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل بها كذا, ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا, فأيهما كان الظالم ردّه السلطان وأخذ فوق يديه, وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع.
7541ـ حدثنا يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما, فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} قال: بل ذلك إلى السلطان.
وقال آخرون: بل المأمور بذلك الرجل والمرأة. ذكر من قال ذلك:
7542ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَإنْ خِفُتمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِه وَحَكَما مِنْ أهْلِه} إن ضربها فإن رجعت فإنه ليس له عليها سبيل, فإن أبت أن ترجع وشاقته, فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها.
ثم اختلف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان, وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما, وكيف وجه بعثهما بينهما؟ فقال بعضهم: يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما, وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به, أو وكله كل واحد منهما بما إليه, فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه, أو توكيل من وكل منهما في ذلك. ذكر من قال ذلك:
7543ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن محمد, عن عبيدة, قال: جاء رجل وامرأته بينهما شقاق إلى عليّ رضي الله عنه, مع كل واحد منهما فئام من الناس, فقال عليّ رضي الله عنه: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها, ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا, وإن رأيتما أن تفرّقا أن تفرّقا. قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولى. وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ رضي الله عنه: كذبتَ, والله لا تنقلب حتى تقرّ بمثل الذي أقرّت به.
حدثنا مجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا هشام بن حسان, وعبد الله بن عون, عن محمد: أن عليا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته, ومع كل واحد منهما فئام من الناس, فأمرهما عليّ رضي الله عنه أن يبعثا حكما من أهله وحكما من أهلها لينظرا. فلما دنا منه الحكمان, قال لهما عليّ رضي الله عنه: أتدريان مالكما؟ لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما, وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. قال هشام في حديثه: فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعليّ فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ: كذبت والله حتى ترضى مثل ما رضيت به. وقال ابن عون في حديثه: كذبت, والله لا تبرح حتى ترضى بمثل ما رضيت به.
7544ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا منصور وهشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: شهدت عليا رضي الله عنه, فذكر مثله.
7545ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, قال: إذا هجرها في المضجع وضربها, فأبت أن ترجع وشاقته, فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها¹ تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري, فإن أمرتني أن أرجع رجعت, وإن فرّقت تفرّقنا. وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئا من الأشياء, وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع, أو تخبره أنها لا تريد الطلاق. ويبعث الرجل حكما من أهله يوليه أمره, ويخبره يقول له حاجته إن كان يريدها, أو لا يريد أن يطلقها, أعطاها ما سألت وزادها في النفقة, وإلا قال له: خذ لي منها مالها عليّ وطلقها! فيوليه أمره, فإن شاء طلق, وإن شاء أمسك. ثم يجتمع الحكمان فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه, ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه, فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز, إن طلقا وإن أمسكا, فهو قول الله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم}, فإن بعثت المرأة حكما وأبي الرجل أن يبعث, فإنه لا يقربها حتى يبعث حكما.
وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان, غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما, ليحملهما على الواجب لكلّ واحد منهما قِبَل صاحبه لا التفريق بينهما. ذكر من قال ذلك:
7546ـ حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلى, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن, وهو قول قتادة, إنهما قالا: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه¹ وأما الفرقة فليست في أيديهما, ولم يملكا ذلك, يعني: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه}.
7547ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِه وَحَكَما مِنْ أهْلِه}... الاَية, إنما يبعث الحكمان ليصلحا, فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم ولبس بأيديهما فرقة, ولا يملّكان ذلك.
7548ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن قيس بن سعد, قال: سألت عن الحكمين, قال: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهله, فما حكم الحكمان من شيء فهو جائز¹ يقول الله تبارك وتعالى: {إن يُرِيدا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم} قال: يخلو حكم الرجل بالزوج, وحكم المرأة بالمرأة, فيقول كل واحد منهما لصاحبه: اصدُقني ما في نفسك! فإذا صدق كل واحد منهما صاحبه اجتمع الحكمان وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقا لتصدقني الذي قال لك صاحبك, ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي! فذاك حين أرادا الإصلاح يوفق الله بينهما, فإذا فعلا ذلك اطلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه ليه, فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما, فأتيا عله, فحكما عليه. فإن كانت المرأة قالا: أنت الظالمة العاصية, لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحقّ وتطيعي الله فيه. وإن كان الرجل هو الظالم, قالا: أنت الظالم المضارّ لا تدخل لها بيتا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحقّ والعدل. فإن كانت هي الظالمة العاصية أخذ منها مالها, وهو له حلال طيب, وإن كان هو الظالم المسيء إليها المضارّ لها طلقها, ولم يحلّ له من مالها شيء, فإن أمسكها أمسكها بما أمر الله وأنفق عليها وأحسن إليها.
7549ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي, قال: كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يبعث الحكمين: حكما من أهله وحكما من أهلها, فيقول الحكم من أهلها: يا فلان ما تنقم من زوجتك؟ فيقول: أنقم منها كذا وكذا. قال: فيقول: أفرأيت إن نَزَعَتْ عما تكره إلى ما تحبّ, هل أنت متقي الله فيها ومعاشرها بالذي يحقّ عليك في نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال نعم, قال الحكم من أهله: يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان؟ فتقول مثل ذلك, فإن قالت: نعم, جمع بينهما. قال: وقال عليّ رضي الله عنه: الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرّق.
7550ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع, ولا يحكمان في الفرقة.
7551ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثنى عمي, قال: ثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ} وهي المرأة التي تنشز على زوجها, فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك, وهو بعد ما تقول لزوجها: والله لا أبرّ لك قسما, ولاَذننّ في بيتك بغير أمرك. ويقول السلطان: لا نجيز لك خلعا. حتى تقول المرأة لزوجها: والله لا أغتسل لك من جنابة, ولا أقيم لك صلاة, فعند ذلك يقول السلطان: اخلع المرأة.
7552ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ} قال: تعظها, فإن أبت وغلبت فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضا فاضربها. فإن غلبت هذا أيضا, بُعث حكم من أهله حكم من أهلها. فإن غلبت هذا أيضا وأرادت غيره, فإنّ أبي كان يقول: ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء, إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا: أنت يا فلان ظالم, انزع! فإن أبى رفعا ذلك إلى السلطان, ليس إلى الحكمين من الفراق شيء.
وقال آخرون: بل إنما يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق. ذكر من قال ذلك:
7553ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} فهذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما, فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلاً صالحا من أهل الرجل, ومثله من أهل المرأة, فينظران أيهما المسيء, فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة, وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها, ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا, فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الاَخر ثم مات أحدهما, فإن الذي رضي يرث الذي كره, ولا يرث الكاره الراضي, وذلك قوله: {إنْ يُرِيدَا إصْلاح} قال: هما الحكمان يوفق الله بينهما.
7554ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا روح, قال: حدثنا عوف, عن محمد بن سيرين: أن الحكم من أهلها والحكم من أهله يفرّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه}.
7555ـ حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر: قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرّة, قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين, فقال: لم أولد إذ ذاك, فقلت: إنما أعني حكم الشقاق, قال: يقبلان على الذي جاء الأذى من عنده, فإن فعل وإلا أقبلا على الاَخر, فإن فعل, وإلا حكما, فما حكما, فما حكما من شيء فهو جائز.
7556ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان, قال: أخبرنا محمد بن يزيد, عن إسماعيل, عن عامر في قوله: {فابْعَثُوا حَكَمَا مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} قال: ما قضى الحكمان من شيء فهو جائز.
7557ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن داود, عن إبراهيم, قال: ما حكما من شيء فهو جائز¹ إن فرقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين فهو جائز, وإن فرقا بتطليقة فهو جائز. وإن حكما عليه بهذا من ماله فهو جائز, فإن أصلحا فهو جائز, وإن وضعا من شيء فهو جائز.
حدثنا المثنى, قال: حدثنا حبان, قال: أخبرنا ابن المبارك, قال: حدثنا أبو جعفر, عن المغيرة, عن إبراهيم في قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} قال: ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز عليهما, إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما, وإن طلقها واحدة أو طلقها على جُعْل فهو جائز, وما صنعا من شيء فهو جائز.
7558ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن يحيـى بن أبي كثير, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, قال: إن شاء الحكمان أن يفرّقا فرّقا, وإن شاءا أن يجمعا جمعا.
7559ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا هشيم, عن حصين, عن الشعبي: أن امرأة نشزت على زوجها, فاختصموا إلى شريح, فقال شريح: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها! فنظر الحكمان في أمرهما, فرأيا أن يفرّقا بينهما, فكره ذلك الرجل, فقال شريح: ففيم كانا اليوم؟ وأجاز قولهما.
7560ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن عكرمة بن خالد, عن ابن عباس, قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين. قال معمر: بلغني أن عثمان رضي الله عنهما بعثهما, وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما, وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما.
7561ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا روح بن عبادة, قال: حدثنا ابن جريج, قال: ثني ابن أبي مليكة: أن عقيل بن أبي طالب تزوّج فاطمة ابنة عتبة, فكان بينهما كلام, فجاءت عثمان فذكرت ذلك له, فأرسل ابن عباس ومعاوية, فقال ابن عباس: لأفرّقنّ بينهما! وقال معاوية: ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف! فأتياهما وقد اصطلحا.
7562ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} يكونان عدلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان, جعل عليهما حكمين: حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة, يكونان أمينين عليهما جميعا. وينظران من أيهما يكون الفساد, فإن كان من قِبَل المرأة أُجبرت على طاعة زوجها, وأمر أن يتقي الله ويحسن صحبتها وينفق عليها بقدر ما آتاه الله¹ إمْساكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. وإن كانت الإساءة من قبل الرجل أُمر بالإحسان إليها, فإن لم يفعل قيل له: أعطها حقها, وخلّ سبيلها! وإنما يلي ذلك منهما السلطان.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} أن الله خاطب المسلمين بذلك, وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما, ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض. وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان, الذي هو سائس أمر المسلمين, أو من أقامه في ذلك مُقام نفسه.
واختلفوا في الزوجين والسلطان, ومَن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان, أو السلطان؟ ولا دلالة في الاَية تدلّ على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين, ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأمة فيه مختلفة.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا, فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون مخصوصا من الاَية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الاَية, والأمر بقوله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِه} إذ كان مختلفا بينهما هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا؟ وكان ظاهر الاَية قد عمهما¹ فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله, لينظر في أمرهما, وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على صاحبه ولصاحبه عليه, فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه, وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع, كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله به وذلك أن يوكله أحدهما بماله دون ما عليه, أو لم يوكل كل واحد من الزوجين بماله وعليه, أو بما له, أو بما عليه, فليس للحكمين كليهما إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما. وإن لم يوكلهما واحدا منها بشيء, وإنما بعثاهما للنظر ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما, لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك, ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك.
فإن قال قائل: وما معنى الحكمين إذ كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد اختلف في ذلك, فقال بعضهم: معنى الحكم: النظر العدل, كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه, الذي:
7563ـ حدثنا به يحيـى بن أبي طالب, عن يزيد, عن جويبر, عنه: لا, أنتما قاضيان تقضيان بينهما.
على السبيل التي بينا من قوله.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهما القاضيان يقضيان بينها ما فوّض إليهما الزوجان. وأيّ الأمرين كان فليس لهما ولا لواحد منهما الحكم بينهما بالفرقة, ولا بأخذ مال إلا برضا المحكوم عليه بذلك, وإلا ما لزم من حقّ لأحد الزوجين على الاَخر في حكم الله, وذلك ما لزم الرجل لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف إن كان هو الظالم لها. فأما غير ذلك فليس ذلك لهما ولا لأحد من الناس غيرهما, لا السلطان, ولا غيره¹ وذلك أن الزوج إن كان هو الظالم للمرأة فللإمام السبيل إلى أخذه بما يجب لها عليه من حقّ, وإن كانت المرأة هي الظالمة زوجها الناشزة عليه, فقد أباح الله له أخذ الفدية منها وجعل إليه طلاقها على ما قد بيناه في سورة البقرة. وإذ كان الأمر كذلك لم يكن لأحد الفرقة بين رجل وامرأة بغير رضا الزوج, ولا أخذ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه, إلا بحجة يجب التسلم لها من أصل أو قياس. وإن بعث الحكمين السلطانُ, فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك, ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضا المرأة¹ يدلّ على ذلك ما قد بيناه قَبْلُ من فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك, والقائلين بقوله. ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين, ويتعرّفا الظالم منهما من المظلوم ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما. وإنما قلنا: ليس لهما التفريق للعلة التي ذكرناها آنفا, وإنما يبعث السلطان الحكمين إذا بعثهما إذا ارتفع إله الزوجان, فشكا كل واحد منهما صاحبه, وأشكل عليه المحقّ منهما من المبطل, لأنه إذا لم يشكل المحقّ من المبطل, فلا وجه لبعثة الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {إنْ يُرِيدَا إصْلاح}: إن يرد الحكمان إصلاحا بين الرجل والمرأة, أعني بين الزوجين المخوف شقاق بينهما, يقول: يوفق الله بين الحكمين, فيتفقا على الإصلاح بينهما, وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه من بعث للنظر في أمر الزوجين.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7564ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيـى, عن سفيان, عن أبي هاشم, عن مجاهد, في قوله: {إنْ يُرِيدا إصْلاح} قال: أما إنه ليس بالرجل والمرأة, ولكنه الحكمان.
7565ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم} قال: هما الحكمان, إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما.
7566ـ حدثنا المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم} وذلك الحكمان, وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحقّ والصواب.
7567ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم} يعني بذلك الحكمين.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: {إنْ يُرِيدَا إصْلاح} قال: إن يرد الحكمان إصلاحا أصلحا.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن أبي هاشم, عن مجاهد: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُم}: يوفق الله بين الحكمين.
7568ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جويبر, عن الضحاك, قوله: {إنْ يُرِيدَا إصْلاح} قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأة والرجل جميعا.
القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما خَبِير}.
يعني جلّ ثناؤه: إن الله كان عليما بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره, خبيرا بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما, لا يخفى عليه شيء منه, حافظ عليهم, حتى يجازي كلاّ منهم جزاءه بالإحسان إحسانا, وبالإساءة غفرانا أو عقابا.
الآية : 36
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: وذلّوا لله بالطاعة, واخضعوا له بها, وأفردوه بالربوبية, وأخلصوا له الخضوع والذلة, بالانتهاء إلى أمره, والانزجار عن نهيه, ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا تعظمونه تعظيمكم إياه. {وَبالوَالِدَيْنِ إحْسان} يقول: وأمركم بالوالدين إحسانا, يعني برّا بهما¹ ولذلك نصب الإحسان, لأنه أمر منه جلّ ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالين على وجه الإغراء. وقد قال بعضهم: معناه: واستوصوا بالوالدين إحسانا, وهو قريب المعنى مما قلناه.
وأما قوله: {وَبِذِي القُرْبَى} فإنه يعني: وأمر أيضا بذي القربى, وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانا بصلة رحمه. وأما قوله: {واليَتَامى} فإنهم جمع يتيم, وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك. {وَالمَساكِينِ} وهو جمع مسكين, وهو الذي قد ركبه ذلّ الفاقة والحاجة, فتمسكن لذلك. يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانا إليهم, وتعطفوا عليهم, والزموا وصيتي في الإحسان إليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {والجارِ ذِي القُرْبَي}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك والجار ذي القرابة والرحم منك. ذكر من قال ذلك:
7569ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} يعني: الذي بينك وبينه قرابة.
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {والجارِ ذي القُرْبَي} يعني: ذا الرحم.
7570ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: جارك هو ذو قرابتك.
7571ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عكرمة ومجاهد في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قالا: القرابة.
7572ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: جارك الذي بينك وبينه قرابة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {والجارِ ذِي القُرْبَي} جارك ذو القرابة.
7573ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {والجارِ ذِي القُرْبَي} إذا كان له جار له رحم, فله حقان اثنان: حقّ القرابة, وحقّ الجار.
7574ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: الجار ذو القربى: ذو قرابتك.
وقال آخرون: بل هو جار ذي قرابتك. ذكر من قال ذلك:
7575ـ حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن ميمون بن مهران, في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك.
قال أبو جعفر: وهذا القول قول مخالف المعروف من كلام العرب, وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} الجار دون غيره, فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة, ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل: وجار ذي القربى, ولم يقل: والجار ذي القربي, فكان يكون حينئذً ـ إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة الوصية ببرّ جار ذي القرابة دون الجار ذي القربي. وأما والجار بالألف واللام فغير جائز أن يكوى «ذي القربى» إلا من صفة الجار. وإذا كان ذلك كذلك كانت الوصية من الله في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} ببرّ الجار ذي القربى دون جار ذي القرابة, وكان بينا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربي منكم بالإسلام. ذكر من قال ذلك:
7576ـ حدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال¹ حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن نوف الشامي: {والجارِ ذِي القُرْبَي} المسلم.
وهذا أيضا مما لا معنى له, وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب, الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الأنكر الذي لا تتعارفه, إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك, وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل فلان ذو قرابة, إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين, كان صرفه إلى القرابة بالرحم أوّلَى من صرفه إلى القرب بالدين.
القول في تأويل قوله تعالى: {والجارِ الجُنُبِ}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه. ذكر من قال ذلك:
7577ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {والجارِ الجُنُبِ} الذي ليس بينك وبينه قرابة.
7578ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: {والجارِ الجُنُبِ} يعني: الجار من قوم جنب.
7579ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {والجارِ الجُنُبِ}: الذي ليس بينهما قرابة وهو جار, فله حقّ الجوار.
7580ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {والجاره الجُنُبِ} الجار الغريب يكون من القوم.
7581ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وابن أبي نجيح, عن مجاهد: {والجارِ الجُنُبِ} جارك من قوم آخرين.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {والجارِ الجُنُبِ}: جارك لا قرابة بينك وبينه, البعيد في النسب وهو جار.
7582ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عكرمة ومجاهد, في قوله: {والجارِ الجُنُبِ} قال: المجانب.
7583ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: {والجارِ الجُنُبِ}: الذي ليس بينك وبينه وجه ولا قرابة.
7584ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك: {والجارِ الجُنُبِ} قال: من قوم آخرين.
وقال آخرون: هو الجار المشرك. ذكر من قال ذلك:
7585ـ حدثني محمد بن عمارة الأسديّ, قال: حدثنا عبيد الله بن موسى, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن نوف الشامي {والجارِ الجُنُبِ} قال: اليهودي والنصرانيّ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الجنب في هذا الموضع: الغريب البعيد, مسلما كان أو مشركا, يهوديا كان أو نصرانيا¹ لما بينا قبل أن الجار ذي القربى: هو الجار ذو القرابة والرحم, والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة الجار البعيد, ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران, قريبهم وبعيدهم. وبعد فإن الجُنب في كلام العرب البعيد كما قال أعشى بني قيس:
أتَيْتُ حُرَيْثا زَائِرا عَنْ جَنابَةٍفكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطائيَ جامِدَا
يعني بقوله: «عن جنابة»: عن بعد وغربة, ومنه قيل: اجتنب فلان فلانا: إذا بعد منه. وتجنبه غيره: إذا منعه إياه¹ ومنه قيل للجنب: جُنُب, لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل. فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصّاحِب بالجَنْبِ}.
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك, فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سفره. ذكر من قال ذلك:
7586ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس: {وَالصّاحِب بالجَنْبِ}: الرفيق في السفر.
7587ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيـى وعبد الرحمن, قالا: حدثنا سفيان, عن أبي بكير, قال: سمعت سعيد ابن جبير, يقول: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الرفيق في السفر.
7588ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: {وَالصّاحِب بالجَنْب}: صاحبك في السفر.
7589ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَالصّاحِب بالجَنْب} وهو الرفيق في السفر.
7590ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَالصّاحِب بالجَنْب}: الرفيق في السفر, منزله منزلك, وطعامه طعامك, ومسيره مسيرك.
7591ـ حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عكرمة ومجاهد: {وَالصّاحِب بالجَنْب} قالا: الرفيق في السفر.
7592ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا الحماني, قال: حدثنا شريك, عن جابر, عن عامر, عن عليّ وعبد الله, قال: {الصّاحِب بالجَنْب}: الرفيق الصالح.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: أخبرني سليم, عن مجاهد, قال: {وَالصّاحِب بالجَنْب}: رفيقك في السفر الذي يأتيك ويده مع يدك.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج, قال: أخبرنا سليم أنه سمع مجاهدا يقول: {والصّاحبِ بالجنْب} فذكر مثله.
7593ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن المفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الصاحب في السفر.
7594ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو دكين, قال: حدثنا سفيان, عن أبي بكير, عن سعيد بن جبير: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الرفيق الصالح.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا الثوري, عن أبي بكير, عن سعيد بن جبير, مثله.
7595ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قال: الرفيق في السفر.
حدثني يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله.
وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه. ذكر من قال ذلك:
7596ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن عامر أو القاسم, عن عليّ وعبد الله: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قالا: هي المرأة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: حدثنا هشيم, عن بعض أصحابه, عن جابر, عن عليّ وعبد الله, مثله.
7597ـ حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن بيه, عن ابن عباس: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} يعني الذي معك في منزلك.
7598ـ حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن هلال, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال في هذه الاَية: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قال: هي المرأة.
7599ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: ثناسفيان, عن أبي الهيثم, عن إبراهيم: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قال: المرأة.
حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: قال الثوري, قال أبو الهيثم, عن إبراهيم: هي المرأة.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن أبي الهيثم, عن إبراهيم, مثله.
حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو معاوية, عن محمد بن سوقة, عن أبي الهيثم, عن إبراهيم, مثله.
حدثني عمرو بن بيذق, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن محمد بن سوقة, عن أبي الهيثم, عن إبراهيم, مثله.
وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك. ذكر من قال ذلك:
7600ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الملازم. وقال أيضا: رفيقك الذي يرافقك.
7601ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الذي يلصق بك وهو إلى جنبك, ويكون معك إلى جنبك رجاء خيرك ونفعك.
والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الصاحب إلى الجنب, كما يقال: فلان بجنب فلان وإلى جنبه, وهو من قولهم: جَنَب فلان فلانا فهو يَجْنُبُهُ جَنْبا, إذا كان لجنبه, ومن ذلك: جَنَبَ الخَيْلَ, إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر, والمرأة, والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه, لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه, وقد أوصى الله تعال بجميعهم لوجوب حقّ الصاحب على المصحوب. وقد:
7602ـ حدثنا سهل بن موسى الرازي, قال: حدثنا ابن أبي فديك, عن فلان بن عبد الله, عن الثقة عنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين, فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلم في غيضة طرفاء, فقطع فصيلين أحدهما معوجّ والاَخر معتدل, فخرج بهما فأعطى صاحبه المعتدل وأخذ لنفسه المعوجّ, فقال الرجل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي, أنت أحقّ بالمعتدل مني! فقال: «كَلاّ يا فُلانُ, إنّ كُلّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبا مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ ساعَةً مِنْ نَهارٍ».
7603ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن حيوة, قال: ثني شرحبيل بن شريك, عن أبي عبد الرحمن الحبلي, عن عبد الله بن عمرو, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ خَيْرَ الأصحَابِ عِنْدَ اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِه, وَخَيْرُ الجِيرانَ عِنْدَ اللّه خَيْرُهُمْ لِجارِه».
وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه من أن يكون داخلاً فيه كل من جنب رجلاً يصحبه في سفر أو نكاح أو انقطاع إليه واتصال به, ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ بعضهم مما احتمله ظاهر التنزيل¹ فالصواب أن يقال: جميعهم معنيون بذلك, وبكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَابْنِ السّبِيلِ}.
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: ابن السبيل: هو المسافر الذي يجتاز مارّا. ذكر من قال ذلك:
7604ـ حدثنا الحسن بن يحيـى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة وابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَابْنِ السّبِيلِ} هو الذي يمرّ عليك وهو مسافر.
حدثني المثنى, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وقتادة, مثله.
7605ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: {وَابْنِ السّبِيلِ} قال: هو المارّ عليك وإن كان في الأصل غنيّا.
وقال آخرون: هو الضيف. ذكر من قال ذلك:
7606ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: {وَابْنِ السَبِيلِ} قال: الضيف له حقّ في السفر والحضر.
7607ـ حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: {وَابْنِ السّبِيلِ} وهو الضيف.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: {وَابْنِ السّبِيلِ} قال: الضيف.
حدثنا يحيـى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثله.
والصواب من القول في ذلك: أن ابن السبيل: هو صاحب الطريق, والسبيل: هو الطريق, وابنه: صاحبه الضارب فيه, فله الحقّ على من مرّ به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة, ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة, وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه: والذين ملكتموهم من أرقائكم. فأضاف الملك إلى اليمين, كما يقال: تكلم فوك, ومشت رجلُك, وبطشت يدُك, بمعنى: تكلمتَ, ومشيتَ, وبطشتَ. غير أن ما وصفت به كل عضو من ذلك, فإنما أضيف إليه ما وصفت به, لأنه بذلك يكون في المتعارف في الناس دون سائر جوارح الجسد, فكان معلوما بوصف ذلك العضو بما وُصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام, فكذلك قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} لأن مماليك أحدنا تحت يده, إنما يَطعم ما تناوله أيماننا ويكتسي ما تكسوه وتصرّفه فيما أحبّ صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
7608ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} مما خوّلك الله كل هذا أوصى الله به.
وإنما يعني مجاهد بقوله: «كل هذا أوصى الله به» الوالدين وذا القربى واليتامى والمساكين والجار ذا القربى, والجار الجنب, والصاحب بالجنب, وابن السبيل, فأوصى ربنا جلّ جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم, وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم, فحقّ على عباده حفظ وصية الله فيهم ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُور}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتال}: إن الله لا يحبّ من كان ذا خيلاء, والمختال المفتعل من قولك: خال الرجل فهو يَخُول خَوْلاً وخَالاً, ومنه قول الشاعر:
فإنْ كُنْتَ سَيّدَنا سُدْتَناوإن كُنْتَ للخالِ فاذْهبْ فَخَلْ
ومنه قول العجاج:
والخالِ ثَوْبٌ مِنْ ثِيابِ الجُهّالْ
وأما الفخور: فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه, وبسط له من فضله, ولا يحد على ما أتاه من طوله, ولكنه به مختال مستكبر, وعلى غيره به مستطيل مفتخر. كما:
7609ـ حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتال} قال: متكبرا فخورا, قال: يعدّ ما أُعطي, وهو لا يشكر الله.
7610ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا محمد بن كثير, عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي, قال: لا تجد سيـيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخورا, وتلا: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُور}. ولا عاقّا إلا وجدته جبارا شقيا, وتلا: {وَبَرّا بِوَالِدِتي وَلْم يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقيّ}.
الآية : 37
القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً }..
يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن الله لا يحبّ المختال الفخور, الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل. فـ «الذين» يحتمل أن يكون في موضع رفع ردّا على ما في قوله {فَخُور} من ذمّ, ويحتمل أن يكون نصبا على النعت لـ «مَنْ». والبخل في كلام العرب منع الرجل سائله ما لديه وعنده من فضل عنه. كما:
7611ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} قال: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يديه, والشحّ: أن يشحّ على ما في أيدي الناس. قال: يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحلّ والحرام لا يقنع.
واختلف القراء في قراءة قوله: {ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} فقرأته عامة قراء أهل الكوفة: «بالبَخَل» بفتح الباء والخاء. وقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين بضم الباء: {بالبُخْلِ}. وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد, وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب في قراءته. وقد قيل: إن الله جلّ ثناؤه عنى بقوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ}: الذين كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود, ولم يبينوه للناس, وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. ذكر من قال ذلك:
7612ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرميّ: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال: هم اليهود بخلوا بما عندهم من العلم وكتموا ذلك.
7613ـ حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ}... إلى قوله: {وكانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيم} ما بين ذلك في يهود.
حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.
7614ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} وهم أعداء الله أهل الكتاب, بخلوا بحقّ الله عليهم, وكتموا الإسلام ومحمدا صلى الله عليه وسلم, وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
7615ـ حدثنا محمد بن الحسين, قال: حدثنا أحمد بن مفضل, قال: حدثنا أسباط, عن السديّ, أما: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} فهم اليهود, {وَيكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ} اسم محمد صلى الله عليه وسلم. أو {يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ}: يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم, ويأمر بعضهم بعضا بكتمانه.
7616ـ حدثنا محمد بن مسلم الرازي, قال: ثني أبو جعفر الرازي, قال: حدثنا يحيـى, عن عارم, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, في قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} قال: هذا للعلم, ليس للدنيا منه شيء.
7617ـ حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} قال: هؤلاء يهود, وقرأ: {ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال: يبخلون بما آتاهم الله من الرزق, ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب, إذا سئلوا عن الشيء وما أنزل الله كتموه. وقرأ: {أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فإذا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِير} من بخلهم.
7618ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف, وأسامة بن حبيب, ونافع بن أبي نافع, وبحري بن عمرو, وحيّ بن أخطب, ورفاعة بن زيد بن التابوت, يأتون رجالاً من الأنصار, وكانوا يخالطونهم, يتنصحون لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها, ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون! فأنزل الله فيهم: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ}: أي من النبوّة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, {وأعْتَدنْا للْكافِرِينَ عَذَابا مُهِين}... إلى قوله: {وكانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيم}.
فتأويل الاَية على التأويل الأوّل: والله لا يحبّ ذوي الخيلاء والفخر الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه, وهم به عالمون, ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك, مثل علمهم بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له, ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته من حرم الله عليه كتمانه إياه.
وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد: إن الله لا يحبّ من كان مختالاً فخورا, الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم. ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء.
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله الذين قالوا: إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الاَية بالبخل, بتعريف من جهل أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه حقّ, وأن محمدا لله نبيّ مبعوث, وغير ذلك من الحقّ الذي كان الله تعالى ذكره قد بينه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه, فبخل بتبيينه للناس هؤلاء, وأمروا من كانت حاله حالهم في معرفتهم به أن يكتموه من جهل ذلك, ولا يبينوه للناس.
وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الاَية¹ لأن الله جلّ ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل, ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلقا, بل ترى ذلك قبيحا, ويُذمّ فاعله, ولا يمتدح¹ وإن هي تخلقت بالبخل واستعملته في أنفسها, فالسخاء والجود تعدّه من مكارم الأفعال, وتحثّ عليه¹ ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم الله به إنما كان بخلاً بالعلم الذي كان الله آتاهموه, فبخلوا بتبيينه للناس, وكتموه دون البخل بالأموال. إلا أن يكون معنى ذلك الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وسبله, ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك, فيكون بخلهم بأموالهم وأمرهم الناس بالبخل. فهذا المعنى على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس, فيكون لذلك وجه مفهوم في وصفهم بالبخل وأمرهم به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وأعْتَدنْا للكافِرِينَ عَذَابا مُهِين}.
يعني بذلك جلّ ثناؤه {وأعْتَدنْ}: وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم من المعرفة بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم, المكذّبين به بعد علمهم به, الكاتمين نعته وصفته مَنْ أَمَرَهم الله ببيانه له من الناس, {عَذَابا مُهِين} يعني: العقاب المذلّ من عذّب بخلوده فيه عتادا له في آخرته, إذا قدم على ربه وجده بما سلف منه من جحوده فَرْضَ الله الذي فرض عليه