تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 84 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 84

083

قوله 34- "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض" هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء، فقال "الرجال قوامون" إلخ، والمراد أنهم يقومون بالذب عنهن كما تقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعاية، وهم أيضاً يقومون ما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن وجاء بصيغة المبالغة في قوله "قوامون" ليدل على أصالتهم في هذا الأمر، والباء في قوله "بما فضل الله" للسببية والضمير في قوله "بعضهم على بعض" للرجال والنساء: أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة وغير ذلك من الأمور. قوله "وبما أنفقوا" أي: وبسبب ما أنفقوا من أموالهم، وما مصدرية أو موصولة، وكذلك هي في قوله "بما فضل الله" ومن تبعيضية، والمراد ما أنفقوه في الإنفاق على النساء، وبما دفعوه في مهورهن من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل. وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما. قوله "فالصالحات" أي من النساء "قانتات" أي: مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن "حافظات للغيب" أي: لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وحفظ أموالهم، وما في قوله "بما حفظ الله" مصدرية: أي بحفظ الله. والمعنى: أنهن حافظات لغيب أزواجهن بحفظ الله لهن ومعونته وتسديده، أو حافظات له بما استحفظهن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف. وقرأ أبو جعفر "بما حفظ الله" بنصب الاسم الشريف. والمعنى بما حفظن الله: أي حفظن أمره، أو حفظن دينه، فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به، وما على هذه القراءة مصدرية، أو موصولة، كالقراءة الأولى: أي بحفظهن الله، أو بالذي حفظن الله به. قوله "واللاتي تخافون نشوزهن" هذا خطاب للأزواج، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظن حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم. والنشوز: العصيان. وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة. قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة: استعصت على بعلها، ونشز بعلها عليها: إذا ضربها وجفاها "فعظوهن" أي: ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة، ورغبوهن ورهبوهن "واهجروهن في المضاجع" يقال هجره: أي تباعد منه. والمضاجع: جمع مضجع، وهو محل الاضطجاع: أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب، وقيل: هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع، وقيل: هو كناية عن ترك جماعها، وقيل: لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه "واضربوهن" أي ضرباً غير مبرح. وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل: إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب "فإن أطعنكم" كما يجب وتركن النشوز "فلا تبغوا عليهن سبيلا" أي: لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل، وقيل المعنى: لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن "إن الله كان علياً كبيراً" إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب: أي وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة، والله بالمرصاد لكم. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" يقول: لا يتمنى الرجل فيقول: ليت أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله "للرجال نصيب مما اكتسبوا" يعني: مما ترك الوالدان والأقربون للذكر مثل حظ الأنثيين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: أن سبب نزول الآية أن النساء قلن: لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال؟ وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث. وقد تقدم ذكر سبب النزول. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "واسألوا الله من فضله" قال: ليس بعرض الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير "واسألوا الله من فضله" قال العبادة ليس من أمر الدنيا. وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل". قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد وليس بالحافظ، ورواه أبو نعيم عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح وكذا رواه ابن جرير وابن مردويه، ورواه أيضاً ابن مردويه من حديث ابن عباس. وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس "ولكل جعلنا موالي" قال: ورثة " والذين عقدت أيمانكم " قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت "ولكل جعلنا موالي" نسخت، ثم قال " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه "ولكل جعلنا موالي" قال: عصبة " والذين عقدت أيمانكم " قال: كان الرجلان أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت وهو المعروف. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول: ترثني وأرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا يزيده الإسلام إلا شدة ولا عقد ولا حلف في الإسلام- فنسختها هذه الآية " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض "". وأخرج أبو داود وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عنه في الآية قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك في الأنفال " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن: أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزل "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن "الرجال قوامون على النساء" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أردنا أمراً وأراد الله غيره. وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس "الرجال قوامون على النساء" يعني: أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله "بما فضل الله" فضله عليها بنفقته وسعيه "فالصالحات قانتات" قال: مطيعات "حافظات للغيب" يعني إذا كن كذا فأحسنوا إليهن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة "حافظات للغيب" قال: حافظات للغيب بما استودعهن الله من حقه وحافظات لغيب أزواجهن. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: "حافظات للغيب" للأزواج. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس "واللاتي تخافون نشوزهن" قال: تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره، فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها، فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها تشديد، فإن رجعت وإلا ضربها ضرباً غير مبرح ولا يكسر لها عظماً ولا يجرح بها جرحاً "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" يقول: إذا أطاعتك فلا تتجنى عليها العلل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس "واهجروهن في المضاجع" قال: لا يجامعها. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عنه قال: يهجرها بلسانه ويغلط لها بالقول ولا يدع الجماع. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء: أنه سأل ابن عباس عن الضرب غير المبرح، فقال: بالسواك ونحوه. وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً، ، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد؟ ثم يجامعها في آخر اليوم".
قد تقدم معنى الشقاق في البقرة، وأصله أن كل واحد منهم يأخذ شقاً غير شق صاحبه: أي ناحية غير ناحيته وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: "بل مكر الليل والنهار" وقول الشاعر: يا سارق الليلة أهل الدار والخطاب للأمراء والحكام، والضمير في قوله 35- "بينهما" للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما، وهو ذكر الرجال والنساء "فابعثوا" إلى الزوجين "حكماً" يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وديناً وإنصافاً وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقعد بمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذ أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسيء منهما، فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين. وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي، وحكاه ابن كثير عن الجمهور، قالوا: لأن الله قال "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها" وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهما الإمام والحاكم، لأنهما رسولان شاهدان فليس إليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله "إن يريدا" أي الحكمان "إصلاحاً" بين الزوجين "يوفق الله بينهما" لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق. ومعنى: " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " أي: يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة. ومعنى الإرادة: خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين، وقيل: إن الضمير في قوله "يوفق الله بينهما" للحكمين كما في قوله "إن يريدا إصلاحاً" أي: يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل: كلا الضميرين للزوجين: أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله "وإن خفتم شقاق بينهما" قال: هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل ورجلاً مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا امرأته عنه وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ذلك ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي "إن يريدا إصلاحاً" قال: هما الحكمان "يوفق الله بينهما" وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب. وأخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق في المصنف وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال: جاء رجل وامرأة إلى علي ومعهما فئام من الناس فأمرهم علي فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال: كذبت والله حتى تقر مثل الذي أقرت به. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، والذي بعثهما عثمان. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، فأما الفرقة فليست بأيديهما. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه. وأخرج البيهقي عن علي قال: إذا حكم أحد الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا.
قد تقدم بيان معنى العبادة. وشيئاً إما مفعول به: أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان، وإما مصدر: أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر والواضح والخفي. وقوله 36- "إحساناً" مصدر لفعل محذوف: أي أحسنوا بالوالدين إحساناً. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله "أن اشكر لي ولوالديك" فأمر سبحانه بأن يشكرا معه. قوله "وبذي القربى" أي صاحب القرابة، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيداً. "واليتامى والمساكين" قد تقدم تفسيرهم، والمعنى: وأحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية "والجار ذي القربى" أي: القريب جواره، وقيل: هو من له مع الجوار في الدار قرب في النسب "والجار الجنب" المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى، والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة، وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها. وفيه رد من على يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد، وقيل: إن المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب، وقيل: هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش والمفضل "والجار الجنب" بفتح الجيم وسكون النون: أي ذي الجنب، وهو الناحية، وأنشد الأخفش: الناس جنب والأمير جنب وقيل: المراد بالجار ذي القربى: المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي والنصراني. وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق، فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين داراً من كل ناحية، وروي عن الزهري نحوه، وقيل: من سمع إقامة الصلاة، وقيل: إذا جمعتهما محلة، وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جاراً إلى حد كذا من الدور، أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعيناً وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا. ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور، ويطلق على معان. قال في القاموس: والجار والمجرور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير، والمستجير، والشريك في التجارة، وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والاست كالجارة، والقاسم والحليف، والناصر انتهى. قال القرطبي في تفسيره: وروي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم، وإن أقربهم إلي جواراً أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين داراً جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" انتهى. ولو ثبت هذا لكان مغنياً عن غيره، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة، وهو وإن كان إماماً في علم الرواية، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيراً كما يفعل في تذكرته، وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى "لئن لم ينته المنافقون" إلى قوله "ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا" فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً. وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة. قوله "والصاحب بالجنب" قيل: هو الرفيق في السفر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي ليلى: هو الزوجة. وقال ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها. وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب: أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك. قوله "وابن السبيل" قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك ماراً، والسبيل الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه، وقيل: هو المنقطع به، وقيل: هو الضيف. قوله "وما ملكت أيمانكم" أي: وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحساناً، وهم العبيد والإماء، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس. والمختال ذو الخيلاء وهو الكبر والتيه: أي لا يحب من كان متكبراً تائهاً على الناس مفتخراً عليهم. والفخر: المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب، وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن عباس في قوله "والجار ذي القربى" يعني: الذي بينك وبينه قرابة "والجار الجنب" يعني: الذي ليس بينك وبينه قرابة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن نوف البكالي قال: الجار ذي القربى: المسلم، والجار الجنب: اليهودي والنصراني. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله "والصاحب بالجنب" قال: الرفيق في السفر. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ومجاهد مثله. وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم "والصاحب بالجنب" قال: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي قال: هو المرأة. وأخرج هؤلاء والطبراني عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وما ملكت أيمانكم" قال: مما خولك الله فأحسن صحبته: كل هذا أوصى الله به. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بر الوالدين وفي صلة القرابة، وفي الإحسان إلى اليتامى، وفي الإحسان إلى الجار، وفي القيام بما يحتاجه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا، وهكذا ورد في ذم الكبر والاختيال والفخر ما هو معروف.
قوله 37- "الذين يبخلون" هم في محل نصب بدلاً من قوله "من كان مختالاً" أو على الدم، أو في محل رفع على الابتداء والخبر مقدم: أي لهم كذا وكذا من العذاب، ويجوز أن يكون مرفوعاً بدلاً من الضمير المستتر في قوله "مختالاً فخوراً" ويجوز أن يكون منصوباً على تقدير أعني، أو مرفوعاً على الخبر والمبتدأ مقدر: أي هم الذين يبخلون، والجملة في محل نصب على البدل. والبخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها، وهو أنهم مع بخلهم بأموالهم وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله "يأمرون الناس بالبخل" كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة، فلا كثر في عباده من أمثالكم، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه، فما بالكم بخلتم بأموال غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللوم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الاختيار. وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة، وقيل: المراد بها المنافقون، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولاً وأعم فائدة.